#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله

#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله
يركز أهل الضلال من إخوان ومن خرج من تحت عباءتهم على قضية الجهاد والشهادة, لأنه بهما يقدم الشباب أرواحهم طمعا في نيل الشهادة التي رتب عليها في شرعنا المطهر أجورا عظيمة، ولكنهم لا يؤصلون في الشباب معنى الجهاد الحقيقي في سبيل الله والفرق بين قتال الكفار وقتال غيرهم، والفرق بين الجهاد وبين غيره من أنواع القتال الجائزة والممنوعة، ولا يهتمون ببيان شروطه الواجب توافرها ليكون الجهاد مشروعا، ولا تكون الراية المرفوعة فيه راية عمية نهي عن القتال تحتها, تجاهل الإخوان كل ذلك لأن أغراضهم الحزبية تتنافى مع بيان ذلك.
ولما كان الشعار الذي رفعوه ليغطوا به أغراضهم السلطوية هو تحكيم الشريعة أولوا نصوص الشرع فأفهموا الأغرار الأغمار من الشباب أن خصومهم على اختلاف توجهاتهم لا يريدون تحكيم الشريعة, فهم إما أعداء للدين، وإما موالون لأعداء الدين، وزرعوا في عقولهم أنهم على حق وأن قتالهم يستمد شرعيته من نصوص الشريعة، ومنها قول الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} وقوله تعالى: { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، وهذا نادر العمراني يوظف حديث {القتلى ثلاثة} توظيفا حزبيا بعيدا عن التأصيل العلمي للشباب.
*رد الصحابة لشبهة الجهاد المزعوم عند الإخوان:
وهذا عبد الله بن عمر وسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين يردان على هذه الشبهة.
جاء في صحيح البخاري، باب قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
4243 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي فقالا ألم يقل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فقال قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمرو المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه قال يا ابن أخي بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت قال يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله قاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة قال فما قولك في علي وعثمان قال أما عثمان فكأن الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده فقال هذا بيته حيث ترون
قال ابن حجر في الفتح في شرح الحديث: " قوله : ( ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله ) أطلق على قتال من يخرج عن طاعة الإمام جهادا وسوى بينه وبين جهاد الكفار بحسب اعتقاده وإن كان الصواب عند غيره خلافه ، وأن الذي ورد في الترغيب في الجهاد خاص بقتال الكفار ، بخلاف قتال البغاة فإنه وإن كان مشروعا لكنه لا يصل الثواب فيه إلى ثواب من قاتل الكفار ، ولا سيما إن كان الحامل إيثار الدنيا .
وفي صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد رحمه الله قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَة}.
فانظر يا رعاك الله إلى فقه الصحابة كيف فرقوا بين قتال وقتال, قاتل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تكون فتنة وهي الشرك، وكان الدين كله لله، واعتزل من اعتزل منهم القتال حيث قدر أن القتال بين المسلمين سيترتب عنه عواقب غير محمودة، ومما هو معلوم أن القتال, سواء أكان للكفار، أو قتال لفئة باغية لا بد أن يكون تحت راية إمام شرعي استتب له الأمر واستقر على إمامته المسلمون, إما بيعة، وإما تغلبا، وفي غير هذا يسمى القتال قتال فتنة يترتب عليه مفاسد عظيمة, من كثرة لسفك الدماء في غير طائل، ومن استباحة العدو للمسلمين بضعفهم وتفككهم، إلى غير ذلك. وغاب فقه الصحابة لهذه الأمور عن الإخوان ومن خرج من تحت عباءتهم, ففي عصرنا هذا عمد شيوخ الإخوان والمقاتلة إلى تجميع أكبر عدد من الشباب للقتال بهذه الشبهة التي ردها الصحابة رضوان الله عليهم من قبل من أجل تحقيق الأغراض الحزبية ولكي تعلم أن قتالهم على غير أساس شرعي انظر إلى تحالفهم أول الأمر مع الدواعش والقاعدة، مكونين ما يعرف بمجالس الشورى. ثم اقتضت مصالحهم التخلص منهم لإرضاء رغبات داخلية وخارجية لكن طال نفس الحرب وفتح الإخوان والمقاتلة على أنفسهم جبهات كثيرة للقتال استهلكت فيها كثير من طاقاتهم البشرية حيث صار أصدقاء الأمس من قاعدة ودواعش أعداء اليوم وتغير المواقف بهذه الدرجة يدل على عدم ثبات الأصول والمبادئ، وحيث إنه لا بد من استمرارهم في حربهم لئلا يخسروا الداعمين للوصول إلى الحكم، أو يدرجوا ضمن قوائم الأرهاب، سعى نادر العمراني ومن لف لفه إلى استجلاب مزيد من الوقود البشري للاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة.
وذلك بما جرت به مع الأسف الشديد عادة الإخوان والمقاتلة إلى توظيف الحماسة الدينية للشباب بتوظيف نصوص الشريعة وتأويلها على حسب أغراضهم بدون أن يكون غرضهم التأصيل العلمي الصحيح، بل بالتلبيس والتضليل, ومن تلك القضايا التي وظفوها قضية الجهاد و(الشهادة في سبيل الله).
*العمراني يخفي عن الشباب شرط من شرطي قبول العمل وهو المتابعة لأغراض حزبية:
أقام الإخوان والمقاتلة الدنيا ولم يقعدوها عندما شاع نبأ اغتيال العمراني متهمين بذلك السلفيين وهم ومنهجهم براء من سفك الدماء بهذه الطريقة، ومتناسين أن العمراني ذاته مارس هذه الطريقة بتوظيف نصوص شرعية تخدم هذه الجماعات الضالة بمزيد من سفك الدماء.
كتب نادر العمراني مقالا في موقعه الرسمي تحت عنوان, [حديث القتلى ثلاثة]جاء فيه:
(للشهيد بشارات عدة، بشَّره الله بها ورسوله ، ولست بصدد حصرها وتعدادها. وإنَّما مرادي أن أنبِّه على واحدة منها، يغفَل عنها الكثير من الناس، خاصَّة في أيامنا هذه. فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ لا دليل عليه.
فليس من شرط المجاهد ألاَّ يكون خطَّاء، وليس من شرط الشهيد أن يكون كاملاً، بل الشرط أن يكون مؤمناً بالله ورسوله ، مخلصاً لله في عمله وإقدامه. ومتى تحقق فيه هذان الشرطان، استحقَّ وعد الله له).
ترك العمراني الكلام في تأصيل المسائل الشرعية عند الشباب, فترك تعليمهم شرطا قبول العمل, فلنيل الشهادة عند العمراني شرطان هما: الإيمان بالله ورسوله، وإخلاص العمل لله. نعم، لا بد من وجود أصل الإيمان الذي هو الشهادتان لقبول الأعمال التي هي من مسمى الإيمان، وهو ما عبر عنه في أحد روايات حديث أركان الإسلام عن ابن عمر ب{إيمان بالله ورسوله}، وقد تقدم، قال ابن رجب رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: {أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " حَجٌّ مَبْرُورٌ }:
" وأما حديث أبي هريرة: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في حديث: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، وفي رواية ذكر: "الإيمان بالله ورسوله" بدل "الشهادتين"؛ فدل على أن المراد بهما واحد؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان "الجهاد" ثم "الحج"، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما".
فالشهادتان ركن لا يكون الإسلام إلا بهما، ثم تأتي بقية الشرائع والأعمال التي لا تصح إلا بشرطين ذكر العمراني أحدهما وأغفل الآخر, فالذي ذكره العمراني الإخلاص وهو مندرج في الشهادتين، والشرط الذي أغفله المتابعة بأن يكون العمل على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ذكر العمراني هذا الشرط لتبين العاقل الفارق بين الجهاد الذي هو مشروع لئلا تكون فتنة وهي الشرك والقتال الذي هو فتنة من أجل السلطة، ولافتضح أمر الإخوان والمقاتلة.
ترك شرط المتابعة مع أنه منصوص عليه في كتاب الله, جاء في مقال ماتع في موقع راية الإصلاح تحت عنوان: [إخلاص الدين لله وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم]: "الله عزّ وجلّ لم ينصّ على أنّه يتقبّل العمل الأكثر من حيث الكميّة، ولكنّه ينصّ دائما على أنّه يتقبّل العمل الأحسن، كما في قوله سبحانه: ﴿إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿إِنَا لاَ نُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنّ العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقْبل، وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنّة».
وقال سعيد بن جبير والحسن البصري رحمهما الله: «لا يُقبل قول إلاّ بعمل، ولا يُقبل عمل إلاّ بقول، ولا يُقبل قول وعمل إلاّ بنيّة، ولا يُقبل قول وعمل ونيّة إلاّ بنيّة موافقة السنّة». انظر شرح أصول الإعتقاد للالكائي (18)، (20).
وعن سفيان بن عبد الله الثقفيّ قال: «قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا، قال: قل آمنت بالله ثمّ استقم» رواه مسلم.
وقد فسّر هذا بعض السّلف بالإخلاص والمتابعة، روى ابن بطّة في «الإبانة /الإيمان» (156) بسند صحيح عن سلام بن مسكين قال: كان قتادة إذا تلا: ﴿إِنَّ الّذين قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، قال: «إنّكم قد قلتم ربّنا الله، فاستقيموا على أمر الله، وطاعته، وسنّة نبيّكم، وأمضوا حيث تؤمرون، فالاستقامة أن تلبث على الإسلام، أن تلبث على الإسلام، والطريقة الصالحة، ثمّ لا تمرق منها، ولا تخالفها، ولا تشذّ عن السنّة، ولا تخرج عنها ...».
وفي هذا المعنى قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ من قَبْلَ أَنْ يأْتِيَكُمْ العَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ﴾، فأمرَ باتّباع أحسن ما أنزل، وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن اقتفى أثر رسول الله في ذلك، وهذا بعد أن أمر الله عزّ وجلّ بالإسلام له في قوله: ﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، والإسلام إذا جاء متعدّيًا لزم حمله على الإخلاص", فلو نص العمراني على شرط المتابعة لافتضح بأن حربه حزبية, حيث لا أمام شرعيا، ولا راية واضحة، فكيف يسمى جهادا في سبيل الله لتحكيم شرع الله؟!
*استغلال الحزبيين لجهل الشباب بالدين وتعميقه فيهم:
ترك العمراني تعليم الشباب الشروط الشرعية للجهاد وما يجب أن يتوفر فيه، لأنه لو علمهم ذلك لتبين كثير من التناقضات التي في مواقف هذه الجماعات, فلا بد للقتال من إمام يقاتل تحت رايته، والإخوان والمقاتلة لم تعد لهم ولاية بنصوص المواد التي وافقوا عليها وبسطوا الفتاوى في إثبات شرعيتها وفيها تحديد نهاية جسم المؤتمر الوطني، وتعنتوا بعدها في التمسك بالسلطة بحجج واهية تتمثل في إجراءات شكلية في مكان استلام وتسليم، فإن علموا الشباب أن من شروط الجهاد القتال تحت راية واضحة مع إمام شرعي فستنهال عليهم الأسئلة, سسيسألون العمراني ويقولون له هو ومن معه: ما حكم القتال تحت راية من انتهت ولايته؟ وماذا يسمى من يقاتل بعد انتهاء ولايته في الشرع؟ وهل تثبت الولاية شرعا وتنفى من أجل إجراءات تتعلق باستلام وتسليم؟ وكيف تفتون أن من يقاتل تحت راية من انتهت ولايته يكون شهيدا في سبيل الله وفي نصوص الشرع أنه لا يحكم لأحد بالشهادة إلا من جزم له الشارع الحكيم بها وهو يقاتل تحت راية شرعية واضحة فكيف بإثبات الشهادة في سبيل الله لمن يقاتل تحت راية من انتهت ولايته وهو يعلم بفترة انتهاء ولايته ووافق عليها أولا؟ وهو لا يقاتل كفارا بل يقاتل إخوانه في الدين والوطن؟ والمشكلة التي لا يستطيع الإخوان والمقاتلة تبريرها أن الوسيلة التي أوصلتهم إلى تولي مقاليد الأمور وبذلوا الجهد في إثبات شرعيتها أولا وهي الانتخابات هي الوسيلة ذاتها التي سلبتهم هذا الحق فتعنتوا؟
*القيد الذي يؤكد أن العمراني أراد توظيف النصوص لغرض حزبي:
ترك العمراني تبصير الشباب بشروط الجهاد مركزا على حقيقة واحدة يريدها، هي التي يغفل عنها الناس خاصة في أيامنا هذه كما يقول العمراني، ولعلك أيها القارئ الكريم تركز على هذا القيد [في أيامنا هذه]، وتربط بينه وبين ما يحدث فيها من أحداث جارية في بلادنا ليتبين لك الأمر، وهذا إن دل فإنما يدل على توظيف للنص أراده العمراني لا من باب تأصيل الشباب تأصيلا صحيحا.
ها هو ذا نادر العمراني لما أراد توظيف النصوص لأغراض حزبية يخفي كثيرا من الأمور عن الجهاد والشهادة فلا يبدي إلا ما أراده, فيظن القارئ أول وهلة حين يطالع قول العمراني: (فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ)، أنه سيبصر الشباب بما ينبغي أن يتوفر في الجهاد الشرعي الذي تترتب عليه الشهادة لمن يقتل في سبيل الله،, ، لكنه لما ساق الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وحسن إسناده المنذري والألباني رحمة الله على الجميع أراد استجلاب القوة المعطلة من الشباب عن الحرب، وذلك الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: { القَتْلى ثَلاثةٌ:
رَجَلٌ مُؤمنٌ جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يُقتلَ، فذلك الشهيد المُمْتَحَن في خَيمة الله تحت عرشه. ولا يَفْضُلُه النبيون إلاَّ بفضل درجة النبوة ورجل مؤمن قَرَفَ على نفسه من الذنوب والخطايا، جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فتلك مَصْمَصَةٌ مَحَتْ ذنوبَه وخطاياه. إنَّ السَّيفَ محَّاءٌ للخطايا، وأُدخِل من أي أبواب الجنة شاء؛ فإنَّ لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض.
ورجلٌ منافق، جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فذلك في النار. إنَّ السيف لا يمحو النفاقَ}
وها هو يوظف الحديث توظيفا حزبيا, فأثبت أن المجاهدين والشهداء على منزلتين, منزلة كاملي الإيمان, وهم من يقاتلون في حزبه وشربوا أفكار الإخوان والمقاتلة القائم على الطاعة العمياء لمشايخهم بدون تفهم الأدلة فكل ما يقوله مشايخهم حق لا يقبل المناقشة، فجعل هؤلاء الخارجين بالسيف في وجه إمامهم كاملي الإيمان، وأهل هذه المنزلة كثير منهم منتظم في الحرب، والمنزلة الثانية المجاهدون والشهداء أصحاب المعاصي الذين لم ينخرطوا في حزبهم وتأثروا بهم أو الذين انشغلوا بالدنيا وهم بعيد عن هذه التجاذبات السياسية والقتالية، وهؤلاء يهدف العمراني لانخراطهم مع حزبه لأن هذه الحرب التي يخوضها الإخوان طال نفسها وأتت على كثير من الأغرار الأغمار من شبابهم، فيطمح العمراني ومن لف لفه إلى انخراط هؤلاء الشباب في معركتهم الحزبية من أجل السلطة موظفا هذا الحديث في وعدهم أن ينالوا الشهادة على ما عندهم من معاصي, بدون أن يذكرهم بالتوبة، وبدون أن يبصرهم بشرط المتابعة لرسول الله فيفضح حزبه. فأنت يا من ابتليت بالزنا وشرب الخمر وغير ذلك ما هو إلا أن تقاتل معنا في أيامنا هذه لتنال الشهادة، لا فرق في هذا بينمعصية ومعصية. هذا ما يحتمله الإجمال في كلام العمراني.
وقد نص أهل العلم أن الشهيد يغفر له كل ذنب في حق الله لا في حقوق الآدميين, روى مسلم (1886) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ ) .
وروى مسلم (114) عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَلَّا ، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ) قَالَ : فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ : أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ " .
وهذا دأب هؤلاء المشايخ, يوردون النصوص على ما يريدون بدون ذكر مقيداته أو مبيناته،, أو تفسيراته على فهم السلف الصالح، لأن غرضهم التوظيف للأغراض الحزبية لا التأصيل العلمي الصحيح. والله تعالى أعلم.
ملحوظة:
مقال العمراني من هنا:
http://naderomrani.ly/article/323#sdfootnote2sym

الأحد، 30 مايو 2021

فضل الإيمان بالغيب على إيمان الشهادة

كلام يستحق أن تقرأه ببصيرتك: أول صفة تفصيلية مدح الله بها عباده المتقين في القرآن هي قوله: {الذين يؤمنون بالغيب}، لماذا فضل الإيمان الغيب إيمان الشهادة؟ لماذا كانت أول صفة أثنى الله بها على عباده المتقين؟ قال الدارمي رحمه الله في الرد على الجهمية له ص123-124: "وَمَا تَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، وَاحْتَجَبَ مِنْ خَلْقِهِ بِحُجُبِ النَّارِ وَالظُّلْمَةِ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، يُعَرِّفُهُمْ نَفْسَهُ بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، لِيَبْلُوَ بِذَلِكَ إِيمَانَهُمْ أَيُّهُمْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيَعْرِفُهُ بِالْغَيْبِ وَلَمْ يَرَهُ، وَإِنَّمَا يَجْزِي الْعِبَادَ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ بِالْغَيْبِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ تَبَدَّى لِخَلْقِهِ وَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لِإِيمَانِ الْغَيْبِ هُنَاكَ مَعْنًى، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ بِهِ عِنْدَهَا كَافِرٌ، وَلَا عَصَاهُ عَاصٍ، وَلَكِنَّهُ احْتَجَبَ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ بِالْغَيْبِ، وَإِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ لَيَؤُمِنَ بِهِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ السَّعَادَةُ، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَلَوْ قَدْ تَجَلَّى لَهُمْ لَآمَنَ بِهِ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا بِغَيْرِ رُسُلٍ وَلَا كُتُبٍ، وَلَا دُعَاةٍ، وَلَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَجَلَّى لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ رُسُلَهُ وَكُتُبَهُ وَآمَنَ بِرُؤْيَتِهِ وَأَقَرَّ بِصِفَاتِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ، حَتَّى يَرَوْهُ عِيَانًا، مَثُوبَةً مِنْهُ لَهُمْ وَإِكْرَامًا، لِيَزْدَادُوا بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عَبَدُوهُ بِالْغَيْبِ نَعِيمًا، وَبِرُؤْيَتِهِ فَرَحًا وَاغْتِبَاطًا، ... وَحَجَبَ عَنْهُ الْكُفَّارَ يَوْمَئِذٍ إِذْ حُرِمُوا رُؤْيَتَهُ كَمَا حُرِمُوهَا فِي الدُّنْيَا لِيَزْدَادُوا حَسْرَةً وَثُبُورًا". فأول ما يستفاد من هذا الكلام: 1. الطريق إلى توحيد الله معرفته، وأقرب الطرق الموصلة إلى معرفة الله ومحبته معرفة أسمائه وصفاته التي لا تعلم من أقصر الطرق إلا بالوحي المنزل على رسله، ولن تهتدي إليه إلا بفضل الله عليك. 2. إن صفات الجمال والجلال التي لا تعد ولا تحصى ولا يحيط بكنهها إلا الله، وهي صفات تحبب الخلق إلى ربهم أيما محبة، ، وهو أجل محبوب وأأجل مطلوب، ومحبة ما سواه تابعة لمحبته، ومن حكم احتجابه عن خلقه ألا يصل إليه من عباده إلا الخلص، ولو تجلى لعباده جميعا لآمنوا كلهم لما يعاينونه من جمال الصفات والذات، ولو وقع هذا لم يكن لخلص عباده مزية على غيرهم، ولارتفع من لم يكن أهلا، ولذا كان من حكم احتجابه عن خلقه أن يكون تجليه لخلص عباده أكمل نعيم يكافأون به لما آمنوا به بالغيب، إذ كانت أصدق أمارة على أنهم خلص عباده إيمانهم به بالغيب، وكان احتجابه في الدنيا والآخرة عمن لا يستحق الرفعة أشد عذابا لهم في الدنيا والآخرة، فحرموا لذة نعيم معرفته في الدنيا، وحرموا نعمة تجليه لهم في الآخرة فلم يعاينوا ذاك الجمال والجلال للصفات والذات حين يتجلى الجبار جبار القلوب المنكسرة له سبحانه فيرون وجهه، وتدبر كيف يكون حالهم حين ينشغلون عن كل نعيم أعطوه في الجنة بهذا النعيم، فما هم بأشد شوقا إلى شيء في الجنة شوقهم إلى هذا النعيم. 3. ولولا فضل إيمان الغيب على إيمان الشهادة ما حصل التفاضل في الدرجات بين الصفوف صفوف أولياء الله وصفوف أعدائه، فكان من كمال عدل الله ورحمته أن من أجل شرائع الدين الإيمان بالغيب. 4. القوة العجيبة لإيمان أهل الإيمان باللغيب، وما هو إلا محض جود الله عليهم، فمع توفر دواعي الهوى وميل النفس إليها، تركوا هواهم لأجل من آمنوا به بالغيب، بل أصبح هواهم تبعا لأوامره ونواهيه لما أحبوه سبحانه، فإن كان تجلي الله لخلقه يجعل العباد جميعا لا يعصونه فارتفع أهل الإيمان بالغيب درجات على من سواهم حيث قويت قلوبهم بمحض جود الله عليهم فتركوا أهواءهم بسبب ما تغير فيهم بمعرفة الجمال والجلال للصفات والأسماء، فكان ما عرفوه منها يدل على ما غاب عنهم، وكان وكان الغيب دليلهم على ما سيعاينونه في الشهادة يوم النعيم والملك الكبير. وأما إيمان الشهادة فقد قال الله عز وجل عنه بصريح العبارة: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك، يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا} الآية. فيا من شغلت نفسك بالجدال والمراء في دين الله فيما لا يفيد، بل يضيع عليك عمرك, رأس مالك، تنبه لهذا، فإن كنت وكنا معك من أهل الإيمان بالغيب فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وتأمل كيف ينعم الله بهذه النعم على عباده ثم لا يتدبرون ولا ينتفعون، تأمل هذا، فليس التوحيد مجرد الحفظ للمسائل وضبطها على أهمية ذلك، بل ما يثمره العلم من عمل، وكل ذلك بمحض جود الله على عباده تفضلا، والله أعلم.

(لا يطيب القلب فيها بالفشل)

(لا يطيب القلب فيها بالفشل) *هَلِّلي يا روح، قد لاح الأملْ * انفُضي عنكِ التراخي والمللْ * البسي حُلَّةَ جِدٍّ، وافرحي * من أراد الله، لم يرضَ الكسلْ * ها هي العشر البواقي، عَجِّلي * كيف يحيى من عن الخيرِ نََكلْ * ليلة القدر تبَدَّى نورها* لا يطيب القلب فيها بالفشلْ * ليلة القدر تنادي أهلها* أهلُها أهلُ افتقار ووجلْ * أسرجوا بالحبِّ أنوارَ الرجا * فسروا فيها كبدرٍ مكتملْ * هَزَّهم شوقٌ إلى الله فما * فَتَرَ الإيمانُ يحدو للعملْ * ليتنا منهم، فيا لحسرتي * بَطَّأَ التسويفُ، واستشرى الخللْ * ليلة لله فيها منحٌ * ليس يحظى بالعطايا من هَزَلْ * ليلة القدر عظيم قدرها * لا يطيب القلب فيها بالفشلْ *

زكاة الفطر بين الخلاف الفقهي وبين انتقاض عرى الإسلام، واندراس الشعائر:

زكاة الفطر بين الخلاف الفقهي وبين انتقاض عرى الإسلام، واندراس الشعائر: لعله يهولك هذا العنوان، وما بين طرفيه من بون شاسع، ولعلك تخاله من المبالغات، وبخاصة أن كاتب هذه السطور ليس من أهل العلم، ولا عليه سيماه، ومن حقك أن تحجم عن هذه السطور، إن رأيت أنك لن تجد فيها ضالة منشودة، لكن، أن تنقلب شعيرة مطهرة إلى عراك سنوي لا في قطر بعينه، بل في العالم الإسلامي بعامة، وحين ينقلب بيان الحكم الشرعي إلى تهم بالتسييس، وبالفتاوى المستوردة، ويناصب المسلمين هذا الحكم الشرعي بالعداء تحت هذه الذرائع، اعلم أن المسألة ليست مجرد خلاف فقهي، بل الأمر أكبر من ذلك، فحين تهون أيها السلفي من شأن هذا الخلاف، وتحصره في دائرة الخلاف الفقهي فاعلم أنك جانبت الصواب يقينا، لا في تعويلك في المسائل التي فيها الخلاف معتبر، أو خلاف تنوع، بل في كونك صرت معولا في اندراس الشعائر، دريت أو لم تدرِ. لقد تعددت الرئاسات والهيئات الدينية، منها ما هو رسمي، ومنها ما يتبع أحزابا وجماعات، وتنوعت فتاويها بتنوع مناهجها وطريقتها في التفكير، وتبين بما لا يدع مجالا للشك أن المشبوه منها والمنحرف تتباين مواقفها وتتناقض في الفتاوى إذا ما امتحنت وابتليت بما يخالف توجهها، وبما يحقق مصالحها، وفي ثورات الخريف العربي بالذات لم يبق عذر لعاقل، وخطورة الأمر تكمن في وجود قاعدة عريضة من العوام تبعا لهؤلاء، يستنون بسنتهم، ويهتدون بهديهم، فإذا صادف قلب العامي الفارغ هوى مع أحد هؤلاء الأئمة المضلين، ثم بين لهذا العامي الحق أزبد وأرعد، فقد جئت تنتزع منه ما كان يعتقد بأنه الحق الزمان الطويل، ومسألة زكاة الفطر خير شاهد. يا ترى! لماذا يؤجج الصراع سنويا حول إخراج زكاة الفطر نقودا، لماذا فشا هذا المذهب مع أنه مرجوح من حيث النظر والاستدلال؟ كيف صار هو الحق الغالب في العالم الإسلامي؟ بل هو الدين كما يبينه الواقع اليوم؟ وصار الإطعام مرجوحا، إذا تمعنت في هذه الأسئلة لا بد أنك ستتجاوز زاوية التهوين بحجة الخلاف الفقهي، وسيجلو لك سر عنوان هذه السطور, (زكاة الفطر بين الخلاف الفقهي وانتقاض عرى الإسلام، واندراس الشعائر). قد لا تعجب ممن ينسبون إلى ما يسمى جماعة الحنابلة الجدد حين يجددون القول بحرمة الخروج عن المذاهب الأربعة، مع أن التحريم حكم شرعي يحتاج إلى دليل، قد لا تعجب من مفتٍ حمل نفسه عهدة مشاركة بعض أهل الكتاب فيما يسمى بالصلاة من أجل الإنسانية، أو حمل نفسه إجازة دفع الزكاة أو صدقة الفطر لمفوضية اللاجئين، قد لا تعجب من فوضى الفتوى ممن يتصدرون الساحة الدعوية، لأنهم على أصول فاسدة، والشيء من معدنه لا يستغرب. لكن الأدهى أن ينهض منتسب للسلفية ممن عليه سيما من سيماء طلب العلم فينبز إخوانه قليلي البضاعة في العلم بأن لديهم ضيق في الأفق، ولا يستوعبون الخلاف ولا ينتفعون بدراسة المذاهب، فهذا عجب، لا لشيء إلا أنهم قلدوا من تصدى لإحياء تقديم الدليل من أهل العلم، ومن ثمرات هذه الدعوى أن بعض من تأثروا بها صاروا ينبز بعضهم بعضا: أنت سلفي مالكي، أنت سلفي حنبلي، نعم، المذاهب الأربعة من مذاهب السلف، لكن الحق ليس منحصرا في بعضها دون بعض، ولا منحصرا فيها وحدها، كما قرره أهل العلم، وهذا آخر ينقل عمن سوى بين المعصوم والمجتهد, حيث ذهب هذا المتأخر في دفاعه عن المذهبية إلى أن أقوال العلماء لا بد أن يكون لها وجه من الاستدلال, علم ذلك أو لم يعلم، وآخر رأى وضوح المستقبل في نيل المناصب بالعناية بالمذاهب والشهادات، فتناوبت الوسائل والغايات على هذا الرأي بينهما في المنزلة، فأصبحت الغاية وسيلة، وآخر يقول: لا يجوز فتوى أهل البلد بخلاف المذهب الشائع عندهم، فإن كان مذهب البلد إخراج زكاة الفطر نقودا، فلا ينبغي إحداث فتنة، إلى أن يتفهم الناس مسألة تقديم الدليل! كل هذا يقوله منتسبون لمذهب السلف، وعندهم الحمية للحق في الدفاع عن مذهب السلف! الاختلاف سنة كونية أرادها الله عز وجل كونا، والأصل الاتفاق لا الاختلاف, { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۦنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ۚ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ}. (البقرة - 213)، } والمطلوب إصابة السداد في الحق ومقاربته، والمسألة فيها إفراط وتفريط، فمصطلح الخلاف المعتبر صحيح في بابه وبضوابطه، ومن ذلك ألا يتناسى أن الحق واحد وليس بمتعدد، والموفق من أصاب ذلك الحق، وإصابة السداد في الحق أو مقاربته لا يعنى بها اعتبار كل ما حام حوله من وجوه الاستدلال. وكذلك المقاصد العامة، وجريان الشريعة بين درء المفسدة وجلب المصلحة كل ذلك صحيح معتبر، شريطة ألا يتنازل عن النص الصحيح الصريح في بابه فيضيع المقصد التعبدي بذلك النص، ويقع بقصد أو بدون قصد الاستدراك على الشارع في حكمه، أو أن يغلب على الحق في المسألة غيره، نعم، من دفع زكاة الفطر نقدا له سلف، ولعل ذمته تبرأ إن كان في بلد لم يصل إليه علم بالسنة أو قلد من ظن فيه الورع، هذا ليس المقصد، لكن، أن يهون من شأن الخلاف في زمن صار فيه الأصل وهو الإطعام مذهبا مستشنعا مستقبحا، يعتبره الناس تخلفا، وأحلوا المرجوح محله، فعندها لا يجمل بك أيها السلفي أن تهون من شأن الخلاف، فأنت تحيي سنة، وتصحح شعيرة إن لم تتداركها درست وانتقضت وهي من عرى الإسلام، لا يجمل بك أن تلبس السلفية لباس المذهبية في زمن ضعف فيه التعويل على الدليل، والفتوى فيه بتأثيم من خالف الأئمة الأربعة وإن كان معه الدليل، وتجد نفسك تبذر بذور الخلافيات من أجل الوصول إلى تلك المناصب فلا تستفيد منك السلفية نصرة في حين كان مقصدك أن تكون المناصب التي تسعى إليها سببا في نصرة السنة،. شتان بين زمنين، ففي زمن السلف وجد الخلاف بين أهل الحق في جملة من المسائل بدون أن يكون هناك عراك ممنهج تنتج عنه بغضاء، وكان الرد على المخالف دينا يتدين به لله عز وجل، أما اليوم فبعض الخلافيات التي تثار بقصد أو بغير قصد لتأجيج الرأي العام على الدين باسم الدين، ولتمييع الحق في بعض المسائل باسم المقاصد العامة للشريعة زعموا، بعض هذه المسائل تثار ليحفظ بها من كانت لهم رئاسات مكانتهم، ليس المقصد عندهم مصلحة الفقير، أو الدفاع عن أبي حنيفة وغيره، مع أنه لم يطعن على أبي حنيفة من قال بإخراج زكاة الفطر على الأصل، وكذلك قل في الذين يستميتون من أجل إحياء البدع تحت مسمى السنة الحسنة. التعامل مع الخلافيات في زمن ضعف السنة يختلف، فالانتصار للأصل الذي هو إخراجها طعاما ليس تفرقة بين المسلمين، ولا طعنا في القائلين بجواز إخراج النقود من إجلاء من قال به، ولا هو إضرار بالفقير، بل هو وقوف ضد بعض من يدعو إلى باطل يلبسه لباس الحق، وقوف مع إحياء السنن التي شرعها الله عز وجل وهو العالم بالمصلحة في كل زمان ومكان، وادعاء المصلحة في غيره وإن كان يشتبه على الناس أنه مصلحة افتيات على الشارع الحكيم، والوقوف مع الأصل الذي هو الإطعام وقوف على خط أمامي حتى لا تنتقض عرى الإسلام وتندرس الشرائع. ولذا مع هذه المسالك التي يسلكها بعض من عليه سيما من سيماء طلب العلم، أو من تشبه بهم من المنتسبين لمذهب السلف، وجب التنبيه على أمر لا ينبغي أن يغيب عن أولي الألباب. سؤال طرحه عمر بن الخطاب الذي إن كان في هذه الأمة محدثون فعمر، كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد؟ ونبيها واحد؟ وقبلتها واحدة؟ روى أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ (17 ـ 6) وَسَعِيدُ بْنُ منصور في سننه ـ تحقيق الحميد ـ برقم (42)، والبيهقي في شعب الإيمان (2086)، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1587)، عن إبراهيم التيمي أنه قال: "خَلَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ذَاتَ يَوْمٍ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، §إِنَّما أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ فَقَرَأْنَاهُ وَعَلِمْنَا فِيمَ نَزَلَ، وَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْدَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ولَا يَعْرِفُونَ فِيمَ نَزَلَ، لكُلُّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كَانَ لِقَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا " فَزَبَرَهُ عُمَرُ وَانْتَهَرَهُ فَانْصَرَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ دَعَاهُ بَعْدُ فَعَرَفَ الَّذِي قَالَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا أَعِدْ. وقد أعل بعضهم الخبر بأن إبراهيم التيمي لم يدرك عمر، لكن له شاهد من مجمع معمر بن راشد 982 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَسْأَلُهُ عَنِ النَّاسِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَدْ قَرَأَ مِنْهُمُ الْقُرْآنَ كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقُلْتُ : وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ يَتَسَارَعُوا يَوْمَهُمْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْمُسَارَعَةِ ، قَالَ : فَزَبَرَنِي عُمَرُ ثُمَّ قَالَ : " مَهْ " قَالَ : فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَهْلِي مُكْتَئِبًا حَزِينًا ، فَقُلْتُ : قَدْ كُنْتُ نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَنْزِلَةً ، فَلَا أُرَانِي إِلَّا قَدْ سَقَطْتُ مِنْ نَفْسِهِ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي ، فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي حَتَّى عَادَنِي نِسْوَةُ أَهْلِي وَمَا بِي وَجَعٌ ، وَمَا هُوَ إِلَّا الَّذِي تَقَبَّلَنِي بِهِ عُمَرُ ، قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ : أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ : خَرَجْتُ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يَنْتَظِرُنِي ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي ثُمَّ خَلَا بِي ، فَقَالَ : " مَا الَّذِي كَرِهْتَ مِمَّا قَالَ الرَّجُلُ آنِفًا ؟ " ، قَالَ : فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ ، فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ، وَأَنْزِلُ حَيْثُ أَحْبَبْتَ ، قَالَ : " لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي كَرِهْتَ مِمَّا قَالَ الرَّجُلُ " ، فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَتَى مَا تَسَارَعُوا هَذِهِ الْمُسَارَعَةَ يَحِيفُوا ، وَمَتَى مَا يَحِيفُوا يَخْتَصِمُوا ، وَمَتَى مَا يَخْتَصِمُوا يَخْتَلِفُوا ، وَمَتَى مَا يَخْتَلِفُوا يَقْتَتِلُوا ، فَقَالَ عُمَرُ : " لِلَّهِ أَبُوكَ ، لَقَدْ كُنْتُ أُكَاتِمُهَا النَّاسَ حَتَّى جِئْتَ بِهَا " . فهذا يقوله ابن عباس في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون، والحرص على الاتباع مستوٍ على سوقه، ومع هذا يستشعر ذاك الخطر، مع أن الذي وقع ظاهره خير، وهو مسارعة الناس في القرآن حفظا، بدون فهم أو علم، البداية كانت ظاهرها خيرا، لكن مع التطور التدريجي للمراحل التي ذكرها ابن عباس سيلبس أهل الباطل باطلهم ثوب حق، حتى يصل الأمر إلى الاستدلال بالقرآن على إبطال صلاتين من خمس، كما في حديث أبي حذيفة عند الحاكم، وسيأتي ذكره. وأعظم من الاقتتال الذي سببه الاختلاف ما روى الإمام أحمد والحاكم وابن حبان عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَتُنْقَضَنَّ عُرى الإسلام عُروةً عروةً، فكلما انتقضت عُروةٌ تَشَبَّثَ الناسُ بالتي تليها، فأولُهنَّ نقضاً الحُكْمُ، وآخِرُهُنَّ الصلاةُ". رواه ابن حبان في "صحيحه". قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب, 572[صحيح]. ولن تنتقض عرى الإسلام دفعة واحدة، بل لا بد من تدرج في ذلك، ولكنه أمر عجيب، فكيف تنقض عرى الإسلام مع توافر العلماء، ومع وجود المجددين على رأس كلم مئة؟ وجاء بيان شيء من ذلك الانتقاض لعرى الأسلام، كما في مستدرك الحاكم من حديث حذيفة رضي الله عنه موقوفا عليه، ففي كتاب الفتن والملاحم من المستدرك 8469 - حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ثنا عكرمة بن عمار ، عن حميد بن عبد الله الفلسطيني ، حدثني عبد العزيز ابن أخي حذيفة ، عن حذيفة - رضي الله عنه - ، قال : " أول ما تفقدون من دينكم الخشوع ، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، وليصلين النساء وهن حيض ، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، وحذو النعل بالنعل ، لا تخطئون طريقهم ، ولا يخطأنكم حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة فتقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ، لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله - تبارك وتعالى - : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل لا تصلوا إلا ثلاثا ، وتقول الأخرى : إيمان المؤمنين بالله كإيمان الملائكة ما فينا كافر ولا منافق ، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال " " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . قال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في كتابه إتحاف الجماعة: "ورواه الحاكم في "مستدركه"، ولفظه: قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلين النساء وهن حيض» (وذكر تمام الحديث) ". قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وبعضهم أعله بعبد العزيز ابن أخت حذيفة رضي الله عنه. وقد بوب الشيخ حمود رحمه الله بابا في كتابه السالف الذكر تحت عنوان, (ما جاء في نقض عرى الإسلام)، ابتدأه بحديث أبي أمامة السابق، وتكلم عن الحكم بالقوانين الوضعية، ثم قال: "وقد نقض الأكثرون أيضًا غير ذلك من عرى الإسلام؛ كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". فيا للعجب، كيف قالوا عمن قبلهم إنهم كانوا على ضلال، وكيف استدلوا بالقرآن على أن الصلوات ثلاث، بل كيف ستصلي الحيض من النساء مع أن حكم صلاة الحائض في أثناء حيضتها معلوم للعامة، والخاصة، أين الأحاديث يومئذ؟ فإن كان هذا سيقع يوما فلا تعجب مما هو أدنى منه اليوم، حين يصير المذهب المرجوح في زكاة الفطر أصلا، وحين تشيع البدع تحت مسمى السنة الحسنة، والقرآن قائم، والحجة به قائمة، والأحاديث متوفرة بضغطة زر، وتأمل يا رعاك الله، هذا الكلام من الشيخ حمود رحمه الله، حيث ينسب نقض غير الحكم من عرى الإسلام الأخرى للأكثرين، مع أن العلماء متوافرون، ومنهم من الناس ملتفون من حولهم في زمنه، فكيف يقال في وقتنا هذا، وقد مات جماعة من هؤلاء العلماء؟ والعهد ما زال قريبا بهم، ثم تظهر أمثال هذه الأفكار في أوساط السلفيين؟! ثم قال الشيخ: "وعن فيروز الديلمي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينقضن الإسلام عروة عروة كما ينقض الحبل قوة قوة» . رواه الإمام أحمد، ورجاله ثقات. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «والذي نفس محمد بيده؛ لينقضن الإسلام عروة عروة، حتى لا يقال: الله، الله!» . رواه ابن أبي الدنيا. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: أنه قال: «لتتبعن أمر من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضها الخشوع، حتى لا ترى خاشعًا» ....". الحديث. رواه الآجري في كتاب "الشريعة"". ثم ذكر أثر حذيفة الذي رواه الحاكم قبل هذا المنقول، ثم قال: "ورواه ابن وضاح، ولفظه: قال: «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، ولتصلين نساؤهم حيضًا» . وعن أبي الطفيل عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: "أنه أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كفه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء إضاءة هذه الحصاة. ثم أخذ كفًا من تراب، فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال: والذي نفسي بيده؛ ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة". رواه ابن وضاح في كتاب "البدع والنهي عنها". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: «إن هذا الدين قد تم، وإنه صائر إلى نقصان، وإن أمارة ذلك: أن تقطع الأرحام، ويؤخذ المال بغير حقه، ويسفك الدماء، ويشتكي ذو القرابة قرابته ولا يعود عليه بشيء، ويطوف السائل بين الجمعتين لا يوضع في يده شيء، فبينما هم كذلك؛ إذ خارت خوار البقر، يحسب كل الناس أنما خارت من قبلهم، فبينما الناس كذلك؛ إذ قذفت الأرض بأفلاذ كبدها من الذهب والفضة، لا ينفع بعد ذلك شيء من الذهب والفضة» . رواه الحاكم في "مستدركه "، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وهذا الحديث والحديثان قبله لها حكم المرفوع؛ لأنه لا دخل للرأي في مثل هذا، وإنما يقال ذلك عن توقيف". وفي سنن الترمذي وغيره عن أبي الدرداء, قال: كنَّا معَ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- فشخصَ ببصرِهِ إلى السَّماءِ ثمَّ قالَ هذا أوانٌ يُختَلَسُ العِلمُ منَ النَّاسِ حتَّى لا يقدِروا منهُ علَى شيءٍ فقالَ زيادُ بنُ لَبيدٍ الأنصاريُّ كيفَ يُختَلَسُ العِلمُ منَّا وقد قَرأنا القرآنَ فواللَّهِ لنَقرأنَّهُ ولنُقرِئنَّهُ نساءَنا وأبناءَنا فقالَ ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا زيادُ إن كُنتُ لأعدُّكَ مِن فُقَهاءِ أهلِ المدينةِ هذهِ التَّوراةُ والإنجيلُ عندَ اليَهودِ والنَّصارَى فَماذا تُغني عَنهم قالَ جُبَيرٌ فلَقيتُ عُبادةَ بنَ الصَّامتِ قلتُ ألا تسمَعُ إلى ما يقولُ أخوكَ أبو الدَّرداءِ فأخبَرتُهُ بالَّذي قالَه أبو الدَّرداءِ قالَ صدقَ أبو الدَّرداءِ إن شئتَ لأحدِّثنَّكَ بأوَّلِ عِلمٍ يُرفَعُ منَ النَّاسِ الخشوعُ يوشِكُ أن تدخُلَ مسجدَ جماعةٍ فلا ترَى فيهِ رجلًا خاشعًا. وأما الحديث الذي أخرجه ابن ماجه (4049)، والحاكم (4 / 473)، عن حذيفة مرفوعا: { " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: " لا إله إلا الله " فنحن نقولها ". فحديث أشهر من نار على علم، قال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وأليك ما علق به الشيخ الألباني رحمه الله على هذا الحديث تحت رقم 87، حيث قال: " وفي الحديث إشارة إلى عظمة القرآن، وأن وجوده بين المسلمين هو السبب لبقاء دينهم ورسوخ بنيانه وما ذلك إلا بتدارسه وتدبره وتفهمه ولذلك تعهد الله تبارك وتعالى بحفظه، إلى أن يأذن الله برفعه. فما أبعد ضلال بعض المقلدة الذين يذهبون إلى أن الدين محفوظ بالمذاهب الأربعة، وأنه لا ضير على المسلمين من ضياع قرآنهم لو فرض وقوع ذلك! ! هذا ما كان صرح لي به أحد كبار المفتين من الأعاجم وهو يتكلم العربية الفصحى بطلاقة وذلك لما جرى الحديث بيني وبينه حول الاجتهاد والتقليد. قال - ما يردده كثير من الناس -: إن الاجتهاد أغلق بابه منذ القرن الرابع! فقلت له: وماذا نفعل بهذه الحوادث الكثيرة التي تتطلب معرفة حكم الله فيها اليوم؟ قال: إن هذه الحوادث مهما كثرت فستجد الجواب عنها في كتب علمائنا إما عن عينها أو مثلها. قلت: فقد اعترفت ببقاء باب الاجتهاد مفتوحا ولا بد! قال: وكيف ذلك؟ قلت: لأنك اعترفت أن الجواب قد يكون عن مثلها، لا عن عينها وإذ الأمر كذلك، فلابد من النظر في كون الحادثه في هذا العصر، هي مثل التي أجابوا عنها، وحين ذلك فلا مناص من استعمال النظر والقياس وهو الدليل الرابع من أدلة الشرع، وهذا معناه الاجتهاد بعينه لمن هو له أهل! فكيف تقولون بسد بابه؟ !" ثم قال الشيخ: " أعود إلى إتمام الحديث مع المفتي الأعجمي، قلت له: وإذا كان الأمر كما تقولون: إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى مجتهدين لأن المفتي يجد الجواب عن عين المسألة أو مثلها، فهل يترتب ضرر ما لو فرض ذهاب القرآن؟ قال: هذا لا يقع، قلت: إنما أقول: لو فرض، قال: لا يترتب أي ضرر لو فرض وقوع ذلك! قلت: فما قيمة امتنان الله عز وجل إذن على عباده بحفظ القرآن حين قال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ، إذا كان هذا الحفظ غير ضروري بعد الأئمة ؟ ! والحقيقة أن هذا الجواب الذي حصلنا عليه من المفتي بطريق المحاورة، هو جواب كل مقلد على وجه الأرض، وإنما الفرق أن بعضهم لا يجرؤ على التصريح به، وإن كان قلبه قد انطوى عليه. نعوذ بالله من الخذلان. فتأمل أيها القارىء اللبيب مبلغ ضرر ما نشكو منه، لقد جعلوا القرآن في حكم المرفوع، وهو لا يزال بين ظهرانينا والحمد لله، فكيف يكون حالهم حين يسرى عليه في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية؟ ! فاللهم هداك". السلسلة الصحيحة ج1 174-175 فلا عجب من أمثال هؤلاء والحالة هذه أن يقدموا المذهب المرجوح أو ينتصروا للبدعة باسم السنة الحسنة، لكن العجب منك أنت أيها السلفي، حين تنصرهم بحججك المذكورة أعلاه, بين الأجر والأجرين، هذا خلاف فقهي، من لم يدرس المذاهب فهو ضيق الأفق، لا ينبغي فتوى أهل البلد إلا بمذهبهم، ولا شك أن بعض هذه المقالات كما مر حق في بابها وبضوابطها، لكن، هل ينفع ذلك منك في زمن يريد أهل الباطل فيه أو الجهلى أن يحلوا الآراء محل السنن الثوابت؟ لا شك أنك حين تفعل ذلك تكون جزءا –دريت أو لم تدري—من منظومة اندراس الشعائر وتغيرها، وإن قلت أنك مدافع عن السنة ذاب عنها، والله أعلم.

أخي في الله، انتبه، هل أصابك من ذاك النور شيء؟

أعلم أنك لا تحب المنشورات الطويلة، مع أنك تقضي أمام مواقع التواصل الساعات الطويلة، وبفائدة يمكن أن تكون قليلة، وحياتي وحياتك أمام الخلود الأبدي قصيرة، فقد ينفعني الله وإياك بهذا المنشور الطويل، فنكتشف أننا أضعنا حياتنا القصيرة ونحن غافلون عن هذه الحقيقة، أو متجاهلون لها، فهل أصابنا من ذاك النور شيء؟ حين خلق الله خلقه في ظلمة وألقى عليهم نوره، هل أصابك من ذاك النور شيء؟ ؟ النور والظلمة, يا له من مشهد مروع مفزع، عندما ينقطع النور فجأة، يبكي الصبيان، وتبحث الأيدي المرتعشة المرتبكة عن مصباح مشحون، شمعة، ناهيك عن القلق الذي يخيم على النفوس حتى تتلألأ الأرض من حولنا نورا من جديد، هناك نور آخر أنت أحوج إليه، هل فكرت فيه، هل أصابك منه شيء؟ هل تفزع إن خبا أو خفت أو ضعف كما تفزع عند انقطاع النور من حولك؟ قال ابن القيم في الوابل الصيب ص50: (السادسة والثلاثون) أن الذكر نور للذاكر في الدنيا، ونور له في قبره، ونور له في معاده يسعى بين يديه على الصراط، فما استنارت القلوب والقبور بمثل ذكر الله تعالى، قال الله تعالى: {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} فالأول هو المؤمن استنار بالايمان بالله ومحبته ومعرفته وذكره، والآخر هو الغافل عن الله تعالى المعرض عن ذكره ومحبته، والشأن كل الشأن والفلاح كل الفلاح في النور، والشقاء كل الشقاء في فواته. ولهذا كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبالغ في سؤال ربه تبارك وتعالى حين يسأله أن يجعله في لحمه وعظامه وعصبه وشعره وبشره وسمعه وبصره ومن فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله وخلفه وأمامه، حتى يقول واجعلني نوراً فسأل ربه تبارك وتعالى أن يجعل النور في ذراته الظاهرة والباطنة، وأن يجعله محيطاً به من جميع جهاته، وأن يجعل ذاته وجملته نوراً، فدين الله عز وجل نور، وكتابه نور، ورسوله نور، وداره التي أعدها لأوليائه نور يتلألأ، وهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض، ومن أسمائه النور، وأشرقت الظلمات لنور وجهه. انتهى كلامه رحمه الله. وفي إثبات اسم النور لله تعالى خلاف. فإذا كان انقطاع النور الحسي يحدث فيك هذا التأثير، فكيف لو انقطع عنك نور الإيمان بالل؟ والعاقل من ذكرته مشاهد دنياه بأخراه، قال ابن القيم في الوابل الصيب أيضا: فذكر سبحانه وتعالى نوره في السموات والأرض، ونوره في قلوب عباده المؤمنين، النور المعقول المشهود بالبصائر والقلوب، والنور المحسوس المشهود بالأبصار الذي استنارت به أقطار العالم العلوي والسفلي، فهما نوران عظيمان أحدهما أعظم من الآخر، وكما أنه إذا فقد أحدهما من مكان أو موضع لم يعش فيه آدمي ولا غيره، لأن الحيوان إنما يتكون حيث النور، ومواضع الظلمة التي لا يشرق عليها نور لا يعيش فيها حيوان ولا يتكون البته، فكذلك أمة فقد فيها نور الوحي والإيمان ميتة وقلب فقد منه هذا النور ميت ولا بد، لا حياة له البتة، كما لا حياة للحيوان في مكان لا نور فيه. والله سبحانه وتعالى يقرن بين الحياة والنور كما في قوله عز وجل {أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها}. انتهى ص54. وقد ذكر الله عز وجل نوره فقال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} قال ابن القيم في الوابل الصيب: وهذا هو النور الذي أودعه في قلبه من معرفته ومحبته والايمان به وذكره، وهو نوره الذي أنزله إليهم فأحياهم به وجعلهم يمشون به بين الناس، وأصله في قلوبهم ثم تقوى مادته فتتزايد حتى يظهر على وجوههم وجوارحهم وأبدانهم، بل ثيابهم ودورهم، يبصره من هو من جنسهم وسائر الخلق له منكر. فإذا كان يوم القيامة برز ذلك النور وصار بإيمانهم يسعى بين أيديهم في ظلمة الجسر حتى يقطعوه، وهم فيه على حسب قوته وضعفه في قلوبهم في الدنيا، فمنهم من نوره كالشمس وآخر كالقمر وآخر كالنجوم وآخر كالسراج وآخر يعطي نوراً على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ أخرى إذا كانت هذه حال نوره في الدنيا فأعطى على الجسر بمقدار ذلك، بل هو نفس نوره ظهر له عياناً، ولما لم يكن للمنافق نور ثابت في الدنيا بل كان نوره ظاهراً لا باطناً أعطى نوراً ظاهراً مآله إلى الظلمة والذهاب. وضرب الله عز وجل لهذا النور ومحله وحامله ومادته مثلاً بالمشكاة وهي الكوة في الحائط فهي مثل الصدر، وفي تلك المشكاة زجاجة من أصفى الزجاج وحتى شبهت بالكوكب الدري في بياضه وصفائه وهي مثل القلب، وشبه بالزجاجة لأنها جمعت أوصافاً هي في قلب المؤمن وهي الصفاء والرقة، فيرى الحق والهدى بصفائه، وتحصل منه الرأفة والرحمة والشفقة برقته، ويجاهد أعداء الله تعالى ويغلظ عليهم ويشتد في الحق ويصلب فيه بصلابته، ولا تبطل صفة منه صفة أخرى ولا تعارضها، بل تساعدها وتعاضدها ... وفي الزجاجة مصباح، وهو النور الذي في الفتيلة، وهي حاملته. ولذلك النور مادة، وهو زيت قد عصر من زيتونة في أعدل الأماكن تصيبها الشمس أول النهار وآخره، فزيتها من أصفى الزيت وأبعده من الكدر، حتى إنه ليكاد من صفائه يضيء بلا نار، فهذه مادة نور المصباح. وكذلك مادة نور المصباح الذي في قلب المؤمن هو من شجرة الوحي التي هي أعظم الأشياء بركة وأبعدها من الانحراف، بل هي أوسط الأمور وأعدلها وأفضلها، لم تنحرف انحراف النصرانية ولا انحراف اليهودية، بل هي وسط بين الطرفين المذمومين في كل شيء، فهذه مادة مصباح الإيمان في قلب المؤمن. ولما كان ذلك الزيت قد اشتد صفاؤه حتى كاد أن يضيء بنفسه، ثم خالط النار فاشتدت بها اضاءته وقويت مادة ضوء النار به، كان ذلك نوراً على نور. وهكذا المؤمن قلبه مضيئ يكاد يعرف الحق بفطرته وعقله ولكن لا مادة له من نفسه، فجاءت مادة الوحي فباشرت قلبه وخالطت بشاشته فازداد نوراً بالوحي على نوره الذي فطره الله تعالى عليه، فاجتمع له نور الوحي إلى نور الفطرة، نور على نور، فيكاد ينطق بالحق وإن لم يسمع فيه أثر، ثم يسمع الأثر مطابقاً لما شهدت به فطرته فيكون نوراً على نور، فهذا شأن المؤمن يدرك الحق بفطرته مجملاً ثم يسمع الأثر جاء به مفصلاً، فينشأ إيمانه عن شهادة الوحي والفطرة. فليتأمل اللبيب هذه الآية العظيمة، ومطابقتها لهذه المعاني الشريفة. انتهى ص52-53. وذكر الله عز وجل ظلمة من أعرض عن ذكره فقال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ }. وقال أيضا: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. وقال أيضا: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }. وقال أيضا: {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار، خالدين فيها، ذلك هو الفوز العظيم، يوم يقول المنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم، قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا، فضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة، وباطنه من قبله العذاب}، الآية. وقال أيضا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. واسمع لهذا الحديث الجليل, روى الترمذي وأحمد واللفظ له، وابن حبان وغيرهما عن عن عبد الله بن فيروز الديلمي قال: دخلت على عبد الله بن عمرو، وهو في حائط له بالطائف، يقالَ له الوَهْطُ، وهو مُخَاصر فتًى منِ قريش، يُزَنُّ بشرب الخمر، فقلت: بلغني عنك حديث: أِن من شرب شربَةَ خمرٍ لم يقبل الله له توبةً أربعين صباحاً، وإن الشقي من شقِيَ في بطن أمه، وإنه من أتَى بيتَ المقدس لا ينهَزه إلا الصلاةُ فيه، خرج من خطيئته مثلَ يوم وَلَدته أمه؟، فلما سمع الفتى ذكر الخمر اجتذَب يدَه من يده، ثم انطلق، ثم قال عبد الله ابن عمرو: إني لا أحِلُّ لأحد أَن يقِولِ عليَّ ما لم أقُلْ، سمعت رسول الله -صلي الله عليه وسلم - يقول: "من شرب من الخمر شَرْبةً لم تقْبل له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم تُقْبَلْ له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد" قالِ: فلا أدري: فِي الثالثة أَو في الرابعة؟، فإن عاد "كان حقاً على الله أن يُسْقِيه من رَدْغَةِ الخبالِ يوم القيامة"، قال: وسمعت رسول الله -صلي الله عليه وسلم - يقول: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَق خَلْقه فيِ ظلْمة، ثم ألقَى عليهم من نوره يومئذ، فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى، ومن أخطأَه ضلَّ، فلذلك أَقول: جَفَّ القَلَم على علم الله عز وجل"، وسمعت رسول الله -صلي الله عليه وسلم - يقول: "إن سليمان بن داود عليه السلام سأَل الله ثلاثاً، فأَعطاه اثنتين، ونحن نرْجُو أَن تكون له الثالثة: فسأله حُكْماً يصادف حكمَه، فأَعطاه الله إياه، وسأله مُلْكاً لا ينبغي لأحد من بَعْده، فأعطاه إياه، وسأله أيما رجلِ خرِج من بيته لا يرِيدُ إلا الصلاةَ في هذا المسجد خَرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمُّه، فنحن نرْجو أَن يكون الله عَزَّ وَجَلَّ قد أعطاه إياه". والحديث صحيح عند أهل العلم، فتأمل قوله: "إن الله عَزَّ وَجَلَّ خَلَق خَلْقه فيِ ظلْمة، ثم ألقَى عليهم من نوره يومئذ، فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى، ومن أخطأَه ضلَّ، فلذلك أَقول: جَفَّ القَلَم على علم الله عز وجل"، وقد قيل: إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم؛ يقولون: بماذا يختم لنا؟ وقلوب المقربين معلقة بالسوابق، يقولون: ماذا سبق لنا؟ قال ابن القيم في الوابل الصيب: وهذا الحديث العظيم أصل من أصول الإيمان، وينفتح به باب عظيم من أبواب سر القدر وحكمته، والله تعالى الموفق. وهذا النور الذي ألقاه عليهم سبحانه وتعالى هو الذي أحياهم وهداهم، فأصابت الفطرة منه حظها. ولكن لما لم يستقل بتمامه وكماله أكمله لهم وأتمه بالروح الذي ألقاه على رسله عليهم الصلاة والسلام والنور الذي أوحاه إليهم، فأدركته الفطرة بذلك النور السابق الذي حصل لها يوم إلقاء النور، فانضاف نور الوحي والنبوة إلى نور الفطرة، نور على نور، فأشرقت منه القلوب، واستنارت به الوجوه، وحييت به الأرواح، وأذعنت به الجوارح للطاعات طوعاً واختياراً، فازدادت به القلوب الصفات العليا الذي يضمحل فيه كل نور سواء، فشاهدته ببصائر الإيمان مشاهدة نسبتها إلى القلب نسبة المرئيات إلى العين ذلك لاستيلاء اليقين عليها وانكشاف حقائق الإيمان لها. انتهى ص61-62. فهل سبق لك أن أصابك من نور الله الذي ألقاه على خلقه حين خلقهم في تلك الظلمة؟ هل سلكت طريقا إلى هذا النور كما تسلك يداك المرتعشة المرتبكة في البحث عن نور عند انقطاع النور من حولك؟ وقد روي عن حذيفة رضي الله عنه موقوفا: "القلوب أربعة. قلب أغلف فذلك قلب الكافر وقلب مصفح وذلك قلب المنافق وقلب أجرد فيه مثل سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان كمثل شجرة يمدها ماء طيب ومثل النفاق كمثل قرحة يمدها قيح ودم فأيهما غلب عليه غلب". وروي في المسند موصولا عن أبي البختري عن أبي سعيد الخدري بمعناه، وعلته ليث ابن أبي سليم، ولعل كل خبر يشهد للآخر ومعنى الخبرين صحيح معلوم من نصوص الشريعة الثابتة. فهل قلبك أجرد لا نكت سوداء فيه هل قلبك منير فيه مثل السراج؟ أم هو منكوس؟ وهل عنايتك بنوره كعنايتك بالنور من حولك؟ قال ابن القيم رحمه الله: [وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل جانب كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان ] الجواب الكافي (125) وقال رحمه الله أيضا: [أصل كل خير وسعادة للعبد بل لكل حي ناطق : كمال حياته ونوره فالحياة والنور مادة الخير كله قال الله تعالى : {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } فجمع بين الأصلين : الحياة والنور فبالحياة تكون قوته وسمعه وبصره وحياؤه وعفته وشجاعته وصبره وسائر أخلاقه الفاضلة ومحبته للحسن وبغضه للقبيح فكلما قويت حياته قويت فيه هذه الصفات وإذا ضعفت حياته ضعفت فيه هذه الصفات ... وكذلك إذا قوى نوره وإشراقه انكشفت له صور المعلومات وحقائقها على ما هي عليه فاستبان حسن الحسن بنوره وآثره بحياته وكذلك قبح القبيح] إغاثة اللهفان ( 1/20 فلا يكن أيها العبد الفطن بصرك وقلبك أسعد بالنور الحسي من نور الوحيين، فنور الوحيين من نور الله الذي به سعادتك أو شقاؤك، وإنت تستطيع تعويض النور الحسي من حولك إن فقدته، أما نور الوحيين فإن تعرض عنه فذاك هلاكك في الدارين، والله الموفق