#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله

#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله
يركز أهل الضلال من إخوان ومن خرج من تحت عباءتهم على قضية الجهاد والشهادة, لأنه بهما يقدم الشباب أرواحهم طمعا في نيل الشهادة التي رتب عليها في شرعنا المطهر أجورا عظيمة، ولكنهم لا يؤصلون في الشباب معنى الجهاد الحقيقي في سبيل الله والفرق بين قتال الكفار وقتال غيرهم، والفرق بين الجهاد وبين غيره من أنواع القتال الجائزة والممنوعة، ولا يهتمون ببيان شروطه الواجب توافرها ليكون الجهاد مشروعا، ولا تكون الراية المرفوعة فيه راية عمية نهي عن القتال تحتها, تجاهل الإخوان كل ذلك لأن أغراضهم الحزبية تتنافى مع بيان ذلك.
ولما كان الشعار الذي رفعوه ليغطوا به أغراضهم السلطوية هو تحكيم الشريعة أولوا نصوص الشرع فأفهموا الأغرار الأغمار من الشباب أن خصومهم على اختلاف توجهاتهم لا يريدون تحكيم الشريعة, فهم إما أعداء للدين، وإما موالون لأعداء الدين، وزرعوا في عقولهم أنهم على حق وأن قتالهم يستمد شرعيته من نصوص الشريعة، ومنها قول الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} وقوله تعالى: { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، وهذا نادر العمراني يوظف حديث {القتلى ثلاثة} توظيفا حزبيا بعيدا عن التأصيل العلمي للشباب.
*رد الصحابة لشبهة الجهاد المزعوم عند الإخوان:
وهذا عبد الله بن عمر وسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين يردان على هذه الشبهة.
جاء في صحيح البخاري، باب قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
4243 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي فقالا ألم يقل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فقال قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمرو المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه قال يا ابن أخي بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت قال يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله قاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة قال فما قولك في علي وعثمان قال أما عثمان فكأن الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده فقال هذا بيته حيث ترون
قال ابن حجر في الفتح في شرح الحديث: " قوله : ( ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله ) أطلق على قتال من يخرج عن طاعة الإمام جهادا وسوى بينه وبين جهاد الكفار بحسب اعتقاده وإن كان الصواب عند غيره خلافه ، وأن الذي ورد في الترغيب في الجهاد خاص بقتال الكفار ، بخلاف قتال البغاة فإنه وإن كان مشروعا لكنه لا يصل الثواب فيه إلى ثواب من قاتل الكفار ، ولا سيما إن كان الحامل إيثار الدنيا .
وفي صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد رحمه الله قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَة}.
فانظر يا رعاك الله إلى فقه الصحابة كيف فرقوا بين قتال وقتال, قاتل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تكون فتنة وهي الشرك، وكان الدين كله لله، واعتزل من اعتزل منهم القتال حيث قدر أن القتال بين المسلمين سيترتب عنه عواقب غير محمودة، ومما هو معلوم أن القتال, سواء أكان للكفار، أو قتال لفئة باغية لا بد أن يكون تحت راية إمام شرعي استتب له الأمر واستقر على إمامته المسلمون, إما بيعة، وإما تغلبا، وفي غير هذا يسمى القتال قتال فتنة يترتب عليه مفاسد عظيمة, من كثرة لسفك الدماء في غير طائل، ومن استباحة العدو للمسلمين بضعفهم وتفككهم، إلى غير ذلك. وغاب فقه الصحابة لهذه الأمور عن الإخوان ومن خرج من تحت عباءتهم, ففي عصرنا هذا عمد شيوخ الإخوان والمقاتلة إلى تجميع أكبر عدد من الشباب للقتال بهذه الشبهة التي ردها الصحابة رضوان الله عليهم من قبل من أجل تحقيق الأغراض الحزبية ولكي تعلم أن قتالهم على غير أساس شرعي انظر إلى تحالفهم أول الأمر مع الدواعش والقاعدة، مكونين ما يعرف بمجالس الشورى. ثم اقتضت مصالحهم التخلص منهم لإرضاء رغبات داخلية وخارجية لكن طال نفس الحرب وفتح الإخوان والمقاتلة على أنفسهم جبهات كثيرة للقتال استهلكت فيها كثير من طاقاتهم البشرية حيث صار أصدقاء الأمس من قاعدة ودواعش أعداء اليوم وتغير المواقف بهذه الدرجة يدل على عدم ثبات الأصول والمبادئ، وحيث إنه لا بد من استمرارهم في حربهم لئلا يخسروا الداعمين للوصول إلى الحكم، أو يدرجوا ضمن قوائم الأرهاب، سعى نادر العمراني ومن لف لفه إلى استجلاب مزيد من الوقود البشري للاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة.
وذلك بما جرت به مع الأسف الشديد عادة الإخوان والمقاتلة إلى توظيف الحماسة الدينية للشباب بتوظيف نصوص الشريعة وتأويلها على حسب أغراضهم بدون أن يكون غرضهم التأصيل العلمي الصحيح، بل بالتلبيس والتضليل, ومن تلك القضايا التي وظفوها قضية الجهاد و(الشهادة في سبيل الله).
*العمراني يخفي عن الشباب شرط من شرطي قبول العمل وهو المتابعة لأغراض حزبية:
أقام الإخوان والمقاتلة الدنيا ولم يقعدوها عندما شاع نبأ اغتيال العمراني متهمين بذلك السلفيين وهم ومنهجهم براء من سفك الدماء بهذه الطريقة، ومتناسين أن العمراني ذاته مارس هذه الطريقة بتوظيف نصوص شرعية تخدم هذه الجماعات الضالة بمزيد من سفك الدماء.
كتب نادر العمراني مقالا في موقعه الرسمي تحت عنوان, [حديث القتلى ثلاثة]جاء فيه:
(للشهيد بشارات عدة، بشَّره الله بها ورسوله ، ولست بصدد حصرها وتعدادها. وإنَّما مرادي أن أنبِّه على واحدة منها، يغفَل عنها الكثير من الناس، خاصَّة في أيامنا هذه. فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ لا دليل عليه.
فليس من شرط المجاهد ألاَّ يكون خطَّاء، وليس من شرط الشهيد أن يكون كاملاً، بل الشرط أن يكون مؤمناً بالله ورسوله ، مخلصاً لله في عمله وإقدامه. ومتى تحقق فيه هذان الشرطان، استحقَّ وعد الله له).
ترك العمراني الكلام في تأصيل المسائل الشرعية عند الشباب, فترك تعليمهم شرطا قبول العمل, فلنيل الشهادة عند العمراني شرطان هما: الإيمان بالله ورسوله، وإخلاص العمل لله. نعم، لا بد من وجود أصل الإيمان الذي هو الشهادتان لقبول الأعمال التي هي من مسمى الإيمان، وهو ما عبر عنه في أحد روايات حديث أركان الإسلام عن ابن عمر ب{إيمان بالله ورسوله}، وقد تقدم، قال ابن رجب رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: {أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " حَجٌّ مَبْرُورٌ }:
" وأما حديث أبي هريرة: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في حديث: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، وفي رواية ذكر: "الإيمان بالله ورسوله" بدل "الشهادتين"؛ فدل على أن المراد بهما واحد؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان "الجهاد" ثم "الحج"، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما".
فالشهادتان ركن لا يكون الإسلام إلا بهما، ثم تأتي بقية الشرائع والأعمال التي لا تصح إلا بشرطين ذكر العمراني أحدهما وأغفل الآخر, فالذي ذكره العمراني الإخلاص وهو مندرج في الشهادتين، والشرط الذي أغفله المتابعة بأن يكون العمل على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ذكر العمراني هذا الشرط لتبين العاقل الفارق بين الجهاد الذي هو مشروع لئلا تكون فتنة وهي الشرك والقتال الذي هو فتنة من أجل السلطة، ولافتضح أمر الإخوان والمقاتلة.
ترك شرط المتابعة مع أنه منصوص عليه في كتاب الله, جاء في مقال ماتع في موقع راية الإصلاح تحت عنوان: [إخلاص الدين لله وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم]: "الله عزّ وجلّ لم ينصّ على أنّه يتقبّل العمل الأكثر من حيث الكميّة، ولكنّه ينصّ دائما على أنّه يتقبّل العمل الأحسن، كما في قوله سبحانه: ﴿إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿إِنَا لاَ نُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنّ العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقْبل، وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنّة».
وقال سعيد بن جبير والحسن البصري رحمهما الله: «لا يُقبل قول إلاّ بعمل، ولا يُقبل عمل إلاّ بقول، ولا يُقبل قول وعمل إلاّ بنيّة، ولا يُقبل قول وعمل ونيّة إلاّ بنيّة موافقة السنّة». انظر شرح أصول الإعتقاد للالكائي (18)، (20).
وعن سفيان بن عبد الله الثقفيّ قال: «قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا، قال: قل آمنت بالله ثمّ استقم» رواه مسلم.
وقد فسّر هذا بعض السّلف بالإخلاص والمتابعة، روى ابن بطّة في «الإبانة /الإيمان» (156) بسند صحيح عن سلام بن مسكين قال: كان قتادة إذا تلا: ﴿إِنَّ الّذين قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، قال: «إنّكم قد قلتم ربّنا الله، فاستقيموا على أمر الله، وطاعته، وسنّة نبيّكم، وأمضوا حيث تؤمرون، فالاستقامة أن تلبث على الإسلام، أن تلبث على الإسلام، والطريقة الصالحة، ثمّ لا تمرق منها، ولا تخالفها، ولا تشذّ عن السنّة، ولا تخرج عنها ...».
وفي هذا المعنى قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ من قَبْلَ أَنْ يأْتِيَكُمْ العَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ﴾، فأمرَ باتّباع أحسن ما أنزل، وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن اقتفى أثر رسول الله في ذلك، وهذا بعد أن أمر الله عزّ وجلّ بالإسلام له في قوله: ﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، والإسلام إذا جاء متعدّيًا لزم حمله على الإخلاص", فلو نص العمراني على شرط المتابعة لافتضح بأن حربه حزبية, حيث لا أمام شرعيا، ولا راية واضحة، فكيف يسمى جهادا في سبيل الله لتحكيم شرع الله؟!
*استغلال الحزبيين لجهل الشباب بالدين وتعميقه فيهم:
ترك العمراني تعليم الشباب الشروط الشرعية للجهاد وما يجب أن يتوفر فيه، لأنه لو علمهم ذلك لتبين كثير من التناقضات التي في مواقف هذه الجماعات, فلا بد للقتال من إمام يقاتل تحت رايته، والإخوان والمقاتلة لم تعد لهم ولاية بنصوص المواد التي وافقوا عليها وبسطوا الفتاوى في إثبات شرعيتها وفيها تحديد نهاية جسم المؤتمر الوطني، وتعنتوا بعدها في التمسك بالسلطة بحجج واهية تتمثل في إجراءات شكلية في مكان استلام وتسليم، فإن علموا الشباب أن من شروط الجهاد القتال تحت راية واضحة مع إمام شرعي فستنهال عليهم الأسئلة, سسيسألون العمراني ويقولون له هو ومن معه: ما حكم القتال تحت راية من انتهت ولايته؟ وماذا يسمى من يقاتل بعد انتهاء ولايته في الشرع؟ وهل تثبت الولاية شرعا وتنفى من أجل إجراءات تتعلق باستلام وتسليم؟ وكيف تفتون أن من يقاتل تحت راية من انتهت ولايته يكون شهيدا في سبيل الله وفي نصوص الشرع أنه لا يحكم لأحد بالشهادة إلا من جزم له الشارع الحكيم بها وهو يقاتل تحت راية شرعية واضحة فكيف بإثبات الشهادة في سبيل الله لمن يقاتل تحت راية من انتهت ولايته وهو يعلم بفترة انتهاء ولايته ووافق عليها أولا؟ وهو لا يقاتل كفارا بل يقاتل إخوانه في الدين والوطن؟ والمشكلة التي لا يستطيع الإخوان والمقاتلة تبريرها أن الوسيلة التي أوصلتهم إلى تولي مقاليد الأمور وبذلوا الجهد في إثبات شرعيتها أولا وهي الانتخابات هي الوسيلة ذاتها التي سلبتهم هذا الحق فتعنتوا؟
*القيد الذي يؤكد أن العمراني أراد توظيف النصوص لغرض حزبي:
ترك العمراني تبصير الشباب بشروط الجهاد مركزا على حقيقة واحدة يريدها، هي التي يغفل عنها الناس خاصة في أيامنا هذه كما يقول العمراني، ولعلك أيها القارئ الكريم تركز على هذا القيد [في أيامنا هذه]، وتربط بينه وبين ما يحدث فيها من أحداث جارية في بلادنا ليتبين لك الأمر، وهذا إن دل فإنما يدل على توظيف للنص أراده العمراني لا من باب تأصيل الشباب تأصيلا صحيحا.
ها هو ذا نادر العمراني لما أراد توظيف النصوص لأغراض حزبية يخفي كثيرا من الأمور عن الجهاد والشهادة فلا يبدي إلا ما أراده, فيظن القارئ أول وهلة حين يطالع قول العمراني: (فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ)، أنه سيبصر الشباب بما ينبغي أن يتوفر في الجهاد الشرعي الذي تترتب عليه الشهادة لمن يقتل في سبيل الله،, ، لكنه لما ساق الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وحسن إسناده المنذري والألباني رحمة الله على الجميع أراد استجلاب القوة المعطلة من الشباب عن الحرب، وذلك الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: { القَتْلى ثَلاثةٌ:
رَجَلٌ مُؤمنٌ جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يُقتلَ، فذلك الشهيد المُمْتَحَن في خَيمة الله تحت عرشه. ولا يَفْضُلُه النبيون إلاَّ بفضل درجة النبوة ورجل مؤمن قَرَفَ على نفسه من الذنوب والخطايا، جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فتلك مَصْمَصَةٌ مَحَتْ ذنوبَه وخطاياه. إنَّ السَّيفَ محَّاءٌ للخطايا، وأُدخِل من أي أبواب الجنة شاء؛ فإنَّ لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض.
ورجلٌ منافق، جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فذلك في النار. إنَّ السيف لا يمحو النفاقَ}
وها هو يوظف الحديث توظيفا حزبيا, فأثبت أن المجاهدين والشهداء على منزلتين, منزلة كاملي الإيمان, وهم من يقاتلون في حزبه وشربوا أفكار الإخوان والمقاتلة القائم على الطاعة العمياء لمشايخهم بدون تفهم الأدلة فكل ما يقوله مشايخهم حق لا يقبل المناقشة، فجعل هؤلاء الخارجين بالسيف في وجه إمامهم كاملي الإيمان، وأهل هذه المنزلة كثير منهم منتظم في الحرب، والمنزلة الثانية المجاهدون والشهداء أصحاب المعاصي الذين لم ينخرطوا في حزبهم وتأثروا بهم أو الذين انشغلوا بالدنيا وهم بعيد عن هذه التجاذبات السياسية والقتالية، وهؤلاء يهدف العمراني لانخراطهم مع حزبه لأن هذه الحرب التي يخوضها الإخوان طال نفسها وأتت على كثير من الأغرار الأغمار من شبابهم، فيطمح العمراني ومن لف لفه إلى انخراط هؤلاء الشباب في معركتهم الحزبية من أجل السلطة موظفا هذا الحديث في وعدهم أن ينالوا الشهادة على ما عندهم من معاصي, بدون أن يذكرهم بالتوبة، وبدون أن يبصرهم بشرط المتابعة لرسول الله فيفضح حزبه. فأنت يا من ابتليت بالزنا وشرب الخمر وغير ذلك ما هو إلا أن تقاتل معنا في أيامنا هذه لتنال الشهادة، لا فرق في هذا بينمعصية ومعصية. هذا ما يحتمله الإجمال في كلام العمراني.
وقد نص أهل العلم أن الشهيد يغفر له كل ذنب في حق الله لا في حقوق الآدميين, روى مسلم (1886) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ ) .
وروى مسلم (114) عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَلَّا ، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ) قَالَ : فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ : أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ " .
وهذا دأب هؤلاء المشايخ, يوردون النصوص على ما يريدون بدون ذكر مقيداته أو مبيناته،, أو تفسيراته على فهم السلف الصالح، لأن غرضهم التوظيف للأغراض الحزبية لا التأصيل العلمي الصحيح. والله تعالى أعلم.
ملحوظة:
مقال العمراني من هنا:
http://naderomrani.ly/article/323#sdfootnote2sym

الخميس، 22 فبراير 2018

بعض الأسرار البلاغية في كون قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} أبلغ من قول العرب (القتل أنفى للقتل):

من بلاغة القرآن:
--بعض الأسرار البلاغية في كون قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} أبلغ من قول العرب (القتل أنفى للقتل):
يعترض العلمانيون تبعا لأسيادهم الغرب ومدعي حقوق الإنسان على شرعة القصاص وأنها وحشية ويتعامون عما يفعلونه هم من قتل بالكرسي الكهربائي الذي قد تصل الشحنة الكهربائية إلى مستويات عليا وكذلك القتل بالحقن السامة، وتجد أهل الجاهلية على انتكاس فطرتهم تفوقوا على أهل الحضارة المزعومة اليوم فقالوا: (القتل أنفى للقتل)، وقد اختلفت عبارة القرآن عن هذا المعنى, فقال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} فتجد عبارة العرب قريبة الأخذ سهلة المتناول لا يأخذ الكلام عنها بضعة أسطر، بينما عبارة القرآن كلام الله أرقى وأبلغ على سهولة ألفاظها حوت معاني جليلة, ولذا قدم في الآية ما الأصل فيه التأخير، وأخر ما الأصل فيه التقديم، وأوجزت في الآية معان كثيرة جليلة في ألفاظ قليلة، وجاء من ألفاظ الآية ما تكمن بلاغته في كونه معرفة، وما بلاغته في كونه نكرة، ولا بد قبل الإشارة إلى بعض الأسرار من معرفة تفسير الآية عند السلف.
قال الطبري رحمه الله:

القول في تأويل قوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " ، ولكم يا أولي العقول ، فيما فرضت عليكم وأوجبت لبعضكم على بعض ، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج ، ما منع به بعضكم من قتل بعض ، وقدع بعضكم عن بعض ، فحييتم بذلك ، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة .

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك .

فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 382 ]

2617 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " قال : نكال ، تناه .

2618 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال : نكال ، تناه .

2619 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

2620 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد عن قتادة : " ولكم في القصاص حياة " ، جعل الله هذا القصاص حياة ، ونكالا وعظة لأهل السفه والجهل من الناس . وكم من رجل قد هم بداهية ، لولا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكن الله حجز بالقصاص بعضهم عن بعض; وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة ، ولا نهى الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين ، والله أعلم بالذي يصلح خلقه .

2621 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " قال : قد جعل الله في القصاص حياة ، إذا ذكره الظالم المتعدي كف عن القتل .

2622 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع قوله : " ولكم في القصاص حياة " الآية ، يقول : جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم . كم من رجل قد هم بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص .

2623 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال : نكال ، تناه . قال ابن جريج : حياة . منعة . [ ص: 383 ]

2624 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال : حياة ، بقية . إذا خاف هذا أن يقتل بي كف عني ، لعله يكون عدوا لي يريد قتلي ، فيذكر أن يقتل في القصاص ، فيخشى أن يقتل بي ، فيكف بالقصاص الذي خاف أن يقتل ، لولا ذلك قتل هذا .

2625 - حدثت عن يعلى بن عبيد قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال : بقاء .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره ، لأنه لا يقتل بالمقتول غير قاتله في حكم الله . وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر ، وبالعبد الحر .

ذكر من قال ذلك :

2626 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ولكم في القصاص حياة " يقول : بقاء ، لا يقتل إلا القاتل بجنايته .

وأما تأويل قوله : " يا أولي الألباب " ، فإنه : يا أولي العقول . " والألباب " جمع " اللب " ، و" اللب " العقل .

وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهل العقول ، لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه ، ويتدبرون آياته وحججه دون غيرهم .

وقال ابن كثير رحمه الله:
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

وقوله : ( ولكم في القصاص حياة ) يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة لكم ، وهي بقاء المهج وصونها ; لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه ، فكان في ذلك حياة النفوس . وفي الكتب المتقدمة : القتل أنفى للقتل . فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح ، وأبلغ ، وأوجز .
( ولكم في القصاص حياة ) قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة ، فكم من رجل يريد أن يقتل ، فتمنعه مخافة أن يقتل .
وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي مالك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، ( يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) يقول : يا أولي العقول والأفهام والنهى ، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه ، والتقوى : اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات .


وقال ابن عرفة في تفسيره (1/225):
ابن عرفة : فيه دليل لاهل السنة القائلين بأن لا حسن ولا قبح لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بتعداد هذه النعم ، فدلّ على أنها تفضل من الله تعالى ، ولو كان القصاص واجبا في ( العقل ) لما حسن كونه نعمة ، ولما صح الإتيان به لأن ذلك تحصيل الحاصل .
قال الأصوليون والبيانيون : وهذه أبلغ من قول العرب القتل أنفى للقتل .
وقدره ابن مالك في المصباح بأربعة أوجه :
أحدهما : أن حروفها عشرة ، وأسقط منها الياء من في ( وألف ) الوصل من « القِصَاصِ » لسقوطها في النطق وفي التفعيل أعني الأوزان ( الشعرية ) ، وحروف « القتل أنفى للقتل » أربعة عشر .
الثاني : تنافر الحروف في المثل وتناسبها في الآية .
الثالث : لفظ الحياة محبوب ، فالتصريح باسمها أولى من الكناية عنه بنفي القتل .
الرابع : صحة معناه لأن تنكير الحياة يفيد إما حياة عظيمة أو نوعا من الحياة إشارة لحسنه وغرابته ، بخلاف المثل فإن معناه غير صحيح وحقيقته غير مرادة .
قال ابن عرفة : ويظهر لي بيان الرّابع إما بأن القتل في المثل ( مطلق ) ( يتناول ) القتل عدوانا مع أنه غير مراد والآية صريحة في نفي ذلك .
قال ( ابن عرفة ) : والآية أصوب من وجه آخر وهو أنها تقتضي المساواة في جميع الوجوه بخلاف المثل فليس فيه تنصيص على المساواة .
وذكر ( الطبري ) في تأليفه في البيان والجعبري في شرح الشاطبية الصغرى أنّ الآية تفضله من وجوه : أحدها : ( إيهامه ) التناقض لمنافاة الشيء لنفسه أو العموم فيكون القتل ظلما أنفى للقتل قصاصا والمراد العكس بخلاف الآية فإنّها صريحة في معناها من غير احتمال ( شيء ) .
الثاني : عدول الآية عن التكرار وعن الإضمار ، بخلاف المثل لأن تقديره كراهية القتل أنفى للقتل .
الثالث : سلامة ألفاظها عما يوحش السامع ، وتخصيصها بالحياة المرغوب فيها وبعدها عن تكرار ( قَلْقَلة ) القَافِ للضَغط والشدة وتخصيصها بتكرار الصاد المستجلب ( باستعلائها ) وإطباقها مع الصفير للفصاحة .
الرابع : فيها الطباق المعنوي بين القصاص والحياة .
قلت : وزاد بعضهم عن القاضي ابن عبد السلام أن الآية أعجب لاقتضائها أنّ الموت سبب في الحياة ولأن دلالة القصاص على الحياة مطابقة ودلالة القتل عليها باللزوم .


وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج14 ص80:
ولفظ القصاص يدل على المعادلة والمساواة فيدل على أن الله أوجب العدل والإنصاف في أمر القتلى فمن قتل غير قاتله فهو ظالم والمقتول وأولياؤه إذا امتنعوا من إنصاف أولياء المقتول فهم ظالمون هؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل وهؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل .

وقال ابن القيم فيمفتاح دار السعادة ج2، ص253، 254:
وفي ضمن هذا الخطاب ما هو كالجواب لسؤال مقدر أن إعدام هذه البنية الشريفة وإيلام هذه النفس وإعدامها في مقابلة إعدام المقتول تكثير لمفسدة القتل فلأية حكمة صدر هذا ممن وسعت رحمته كل شيء وبهرت حكمته العقول فتضمن الخطاب جواب ذلك بقوله تعالى ولكم في القصاص حياة وذلك لأن القاتل إذا توهم أنه يقتل قصاصا بمن قتله كف عن القتل وارتدع وآثر حب حياته ونفسه فكان فيه حياة له ولمن أراد قتله ومن وجه آخر وهو أنهم كانوا إذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قتلوا به كل من وجدوه من عشيرة القاتل وحيه وقبيلته وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يعم ضرره وتشتد مؤنته فشرع الله تعالى القصاص وأن لا يقتل بالمقتول غير قاتله ففي ذلك حياة عشيرته وحيه وأقاربه ولم تكن الحياة في القصاص من حيث أنه قتل بل من حيث كونه قصاصا يؤخذ القاتل وحده بالمقتول لا غيره فتضمن القصاص الحياة في الوجهين وتأمل ما تحت هذه الألفاظ الشريفة من الجلالة والإيجاز والبلاغة والفصاحة والمعنى العظيم فصدر الآية بقوله لكم المؤذن بأن منفعة القصاص مختصة بكم عائدة إليكم فشرعه إنما كان رحمة بكم وإحسانا إليكم فمنفعته ومصلحته لكم لا لمن لا يبلغ العباد ضره ونفعه ثم عقبه بقوله في القصاص إيذانا بأن الحياة الحاصلة إنما هي في العدل وهو أن يفعل به كما فعل والقصاص في اللغة المماثلة وحقيقته راجعة إلى الاتباع ومنه قوله تعالى وقالت لأخته قصيه أي اتبعي أثره ومنه قوله فارتدا على آثارهما قصصا أي يقصان الأثر ويتبعانه ومنه قص الحديث واقتصاصه لأنه يتبع بعضه بعضا في الذكر فسمى جزاء الجاني قصاصا لأنه يتبع أثره فيفعل به كما فعل وهذا أحد ما يستدل به على أن يفعل بالجاني كما فعل فيقتل بمثل ما قتل به لتحقيق معنى القصاص
.......... ونكر سبحانه الحياة تعظيما وتفخيما لشأنها وليس المراد حياة ما بل المعنى أن في القصاص حصول هذه الحقيقة المحبوبة للنفوس المؤثرة عندها المستحسنة في كل عقل والتنكير كثيرا ما يجيء للتعظيم والتفخيم كقوله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة وقوله ورضوان من الله أكبر وقوله أن هو إلا وحي يوحى ثم خص أولى الألباب وهم أولو العقول التي عقلت عن الله أمره ونهيه وحكمته إذ هم المنتفعون بالخطاب ووازن بين هذه الكلمات وبين قولهم القتل أنفى للقتل ليتبين مقدار التفاوت وعظمة القرآن وجلالته


مما سبق يمكن معرفة بلاغة الآية كما يلي: عبارة العرب بلفظة القتل تتلائم مع بيئتهم ومعيشتهم في ذلك الوقت, إذ كانوا أهل حروب إما للثأر وإما من أجل أسباب لا تستدعي إراقة دماء، أما عبارة القرآن بالقصاص فيفهم منها أن القتل ليس شهوة أو مغامرة بل لما انتكست فطرة المقتص منه فأجرم كان جزاءه أن يذوق من نفس الكأس التي سقى منها غيره كما يقولون فكان هذا القصاص جزاء له وهذا قمة العدل وهذه المعاني غابت عن عبارة العرب إذ فيها عموم وإبهام بخلاف عبارة القرآن ففيها ففيها حدود لا يمكن أن يجاوزها المقتص {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل أنه كان منصورا} وهذا كله داخل في معنى لفظة قصاص، وفيها عدل بالمقتص منه فإنه لا ينال منه إلا بقدر ما نال من غيره، وهذا ليس في عبارة العرب، كل هذا مستفاد من لفظة القصاص المعرفة بالألف واللام، فأين الوحشية في هذا؟! ولما كان كثير من الناس يغتر بظواهر الأمور ولا يعمل الفكر فيتساءل كيف يكون علاج أزهاق النفس بإزهاق نفس أخرى جاء النداء للفت الانتباه أنه لا يفطن لذلك إلا أولو العقول السليمة، وقد صدرت الآية بشبه الجملة بلام الجر الداخلة على كاف الخطاب ومعها ميم الجمع وشبه الجملة متعلق بخبر مقدم محذوف وقد كان النداء مفصلا لما أجمل في كاف الخطاب وميم الجمع لأن السامع حين يقف عند كلمة (حياة) قد يغشاه حالة من الدهشة أو العجب وسيقع في حيرة, كيف يكون القتل حياة، ومن في قلبه مرض سيهيم في أوحال من الشك فاستدعى النداء الانتباه لتحريك العقل للوقوف على شيء من الحكمة في كون القصاص حياة، وفي تقديم شبه الجملى المتعلق بالخبر المقدم المحذوف بيان لمزية أصحاب العقول السليمة من المؤمنين وتفضيل لهم على غيرهم وتأمل في التوافق بين تعريف القصاص وبين تنكير لفظة الحياة فتعريف لفظة القصاص أفاد بيان علة القصاص وكيفيته وأنه من باب العدل وقد تقدم، ومن قال بأن أل هنا جنسية فقد راعى هذه المعاني في كل قصاص شرع وإن جاءت هذه الآية تالية لبيان حكم القصاص في القتلى، أما تنكير لفظة الحياة فقد أكسبها هذا التنكير مزايا, منها تأخرها وحقها التقديم، ومنها إفادة العموم، فأما تقدمها وحقها التقديم حيث تعرب مبتدأ مؤخرا والمبتدأ حقه الصدارة في الكلام ففيه سر بديع، فالأصل تقدم المبتدأ وتأخر الخبر، والخبر إفادة أمر عن المخبر عنه، لكن لما تقدم شبه الجملة لكم لما تقدم ذكره من بيان مزية أهل العقول السليمة كان من فائدة تأخر المبتدأ {حياة} إفادة مزية وعطية لتلقيهم لشرعة القصاص والعمل بها وهي تنعمهم بهذه الحياة، وأم إفادة العموم من التنكير في لفظة الحياة ففيه إذهاب لتوهم العهدية من التعريف وعمومها يشمل المنفعة التي تحل على الجميع، أهل الجاني، أهل المجني عليه، المقيم للقصاص، المجتمع بأسره, ولذا فسر بعض السلف هذه اللفظة بالبقاء كما مر في تفسير ابن جرير الطبري رحمه الله، وبعضهم بمنع القتل، وهذا المعنى لا يتأتى مع التعريف، وأصل الكلام إن قدر في غير القرآن حياة كائنة لكم في القصاص، ولا يقوم مقام الآية أن يقال القصاص لكم حياة فإنه يضيع كثيرا مما مضى ذكره, ففيها تخصيص المخاطبين فقط بأن القصاص لهم حياة، وهو سياق إخباري إما ابتدائي يفيد المخاطب ما لم يكن يعرف أو هو سياق خبري يقصد به الإرشاد، وبقية المعاني تغيب، ولئن كان الجار والمجرور متعلق بخبر محذوف فما شأن الجار والمجرور {في القصاص} وما السر في دخول حرف الجر في على لفظة القصاص؟ قال المرادي في الجنى الداني أن من معاني في الظرفية والظرفية في أيسر عبارى هو كون شيء داخل شيء، والظرفية كما قال حقيقية ومجازية، أي: إما حسية، وإما معنوية، ومن أمثلة الظرفية المعنوية عنده قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} أي أن شرعة القصاص تتضمن حياة وإبقاء، ولكن القصاص إتباع لجرم بالعقوبة والحياة موجودة قبله ومستمرة بعده بناء على ما تضمنه تنكير الحياة من العموم والتعظيم، وهو وسيلة لإبقائها والحفاظ عليها فهل ينسجم هذا مع الظرفية؟ ولعل الجواب أن يقال إن الجار والمجرور أيضا متعلقان بالخبر المقدم المحذوف لإبقاء لفظة الحياة على عمومها غير مقيدة وهذا ما يفيده تقديم شبهي الجملة {ولكم في القصاص}، ثم إن من معاني الآية الجليلة مقصدان, الامتنان، والدعوة للتفكر، ويجلو الامتنان في كون تشريع القصاص من النعم التي تتحقق بها
مصالح العباد، فظاهره إيلام للمقتص منه وباطنه رحمة ومصالح بالعباد بحيث يكون وسيلة في إبقاء الحياة، فالظرفية تكمن في كون القصاص منة باحتواء القصاص على ما يكون وسيلة في إبقاء الحياة لا في كون القصاص يحتوي على الحياة ذاتها، وكأن المعنى أن الله شرع لكم بمنه ما فيه مصالح ورحمة بكم للإبقاء على حياتكم ومنها القصاص، فلخص حرف الجر في بدلالته على الظرفية هذه المعاني على أن الظرفية تكمن في احتواء القصاص على النعم والمصالح التي هي وسيلة في إبقاء الحياة والحفاظ عليها بإذن الله، هذا في مقصد الامتنان، وأما التفكر فإنه يتعدى بحرف الجر في، وهو يقتضي إعمال الفكر في الأمر بحيث يستحوذ الأمر المتفكر فيه على عقل المتفكر، فكأن الفكرة أو الأمر المتفكر فيه صار هو الظرف وذهن المتفكر هو المظروف، ولما كانت الدهشة والعجب تحصل من الطباق المعنوي كما قال ابن عرفة رحمه الله بين الحياة التي هي أمر محبوب وبين القصاص الذي هو في ظاهره إيلام وقد يصل إلى الإتلاف نبه الله على ذلك بذكر أولي الألباب، وتأخر ذكر أسلوب النداء النداء لما يحدثه أسلوب التفصيل بعد الإجمال من التشويق، وتنبيها على أن النقل مقدم على العقل ولو لم تعلم منه الحكمة، فبعد أن بين سبحانه الحكم نبه إلى أن العقول السليمة تقر بهذا، وتأخير ذكر العقل على النقل يفيد قصور العقل فقد يخفى عليه كثير من حكم الشريعة الجليلة فالأصل الرضى والتسليم، وهذه المعاني الجليلة لا توجد في قول العرب, (القتل أنفى للقتل).
والله أعلم.

الأحد، 4 فبراير 2018

الألقاب بين قواعد السلف وبين التوظيف للمواقف:

الألقاب بين قواعد السلف وبين التوظيف للمواقف:
إن من أعجب العجب أن يغرد من يغرد في تويتر أو ينشر من ينشر على مواقع الإنترنت وبالأخص على مواقع التواصل الاجتماعي في معرض انتقاص الشيخ #محمد_بن_هادي فيقول: في هذا الزمن لا يوجد حافظ، الحافظ من يحفظ مئة ألف حديث، فيجعل من العدد شرطا يحكم به على من يوصف بالحافظ عند السلف، مع أن الشيخ محمدا لمما ينهى عن المديح، ولا يرضاه، وكم نهى عنه، وفي الوقت ذاته ينتقد هذا القائل فتوى الشيخ محمد بن هادي بأن لقب إمام أهل السنة والجماعة لا يمكن أن يوصف به في عصورنا هذه إلا مقيدا فيقال: (إمام أهل السنة والجماعة في زمانه)، مع جريان عمل أئمة السلف على هذا، فيا ترى، ما سر هذا التضارب بين نفيه لصفة الحافظ عن الشيخ بحجة اشتراط السلف للعدد المذكور، وبين الإنكار على فتوى الشيخ في الوصف المقيد للقب أهل السنة والجماعة؟ مع علم هذا القائل بنهي الشيخ عن المديح وأنه ما قيد وصف إمام أهل السنة بالعصر أو الزمن إلا على عمل أئمة السلف على مر العصور؟ وهل ميزانه مع هذين اللقبين واحد؟
فأما استعمال لفظة حافظ فيقال عنها , إن لهذه الكلمة إطلاقان, إطلاق لغوي، وإطلاق عرفي، جاء في لسان العرب: الأزهري : رجل حافظ وقوم حفاظ وهم الذين رزقوا حفظ ما سمعوا وقلما ينسون شيئا يعونه . ا.ه رحمه الله.
وأما الإطلاق العرفي فهو عند المحدثين، وله استعمالان, استعمال في ضبط الراوي، واستعمال في رتبة من مراتب المحدثين.
ومن الاستعمال الأول ما ذكره الترمذي رحمه الله باب ما جاء أن للنار نفسين، ح 2719حيث قال في آخره: هذا حديثٌ حسن صحيحٌ. وقَد رُوِيَ عن أَبي هُرَيْرَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَالمُفَضّلُ بنُ صَالِحٍ لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِذَاِكَ الْحَافِظِ. ا.ه رحمه الله.
وأما عن استعمال لفظة الحافظ في مراتب المحدثين،  فلها إطلاقان, إطلاق عام، وإطلاق خاص، وقد ورد تفصيل لها في تدريب الراوي للسيوطي رحمه الله، ومما يستفاد من هذه الآثار ومما أورده السيوطي رحمه الله أنه لا يشترط عدد معين وإنما العرف في كل زمان يحدد من يتصف بالحافظ، جاء في تدريب الراوي للسيوطي ص37 إلى 39: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْمُحَدِّثَ وَالْحَافِظَ بِمَعْنًى، كَمَا رَوَى أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ إِمْلَاءً لَمْ يُعَدَّ صَاحِبَ حَدِيثٍ.
وَفِي الْكَامِلِ لِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ جِهَةِ النُّفَيْلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ هُشَيْمًا يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَافِظَ أَخَصُّ، ..........................
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: إِنَّهُ سَأَلَ الْحَافِظَ جَمَالَ الدِّينِ الْمِزِّيَّ عَنْ حَدِّ الْحِفْظِ الَّذِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ الرَّجُلُ جَازَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ؟ قَالَ: يُرْجَعُ إِلَى أَهْلِ الْعُرْفِ، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ أَهْلُ الْعُرْفِ؟ قَلِيلٌ جِدًّا، قَالَ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُ تَرَاجِمَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَبُلْدَانَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، فَقُلْتُ لَهُ هَذَا عَزِيزٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، أَدْرَكْتَ أَنْتَ أَحَدًا كَذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ كَانَ لَهُ فِي هَذَا مُشَارَكَةٌ جَيِّدَةٌ، وَلَكِنْ أَيْنَ الثَّرَى مِنَ الثُّرَى، فَقُلْتُ: كَانَ يَصِلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا كَانَ يُشَارِكُ مُشَارَكَةً جَيِّدَةً فِي هَذَا، أَعْنِي فِي الْأَسَانِيدِ، وَكَانَ فِي الْمُتُونِ أَكْثَرَ لِأَجْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ فَتْحُ الدِّينِ بْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فِي عَصْرِنَا فَهُوَ:
مَنِ اشْتَغَلَ بِالْحَدِيثِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَجَمَعَ رُوَاةً، وَاطَّلَعَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ وَالرِّوَايَاتِ فِي عَصْرِهِ، (وَتَمَيَّزَ فِي ذَلِكَ حَتَّى عُرِفَ فِيهِ حِفْظُهُ) وَاشْتُهِرَ فِيهِ ضَبْطُهُ، فَإِنْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ حَتَّى عَرَفَ شُيُوخَهُ، وَشُيُوخَ شُيُوخِهِ، طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْهَلُهُ مِنْهَا فَهَذَا هُوَ الْحَافِظُ، وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ صَاحِبَ حَدِيثٍ مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ فِي الْإِمْلَاءِ، فَذَلِكَ بِحَسَبِ أَزْمِنَتِهِمْ. انْتَهَى.
وَسَأَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَرٍ شَيْخَهُ أَبَا الْفَضْلِ الْعِرَاقِيَّ فَقَالَ: مَا يَقُولُ سَيِّدِي فِي الْحَدِّ الَّذِي إِذَا بَلَغَهُ الطَّالِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى حَافِظًا؟ وَهَلْ يُتَسَامَحُ بِنَقْصِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمِزِّيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ فِي ذَلِكَ لِنَقْصِ زَمَانِهِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: الِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي وَقْتٍ بِبُلُوغِ بَعْضِهِمْ لِلْحِفْظِ وَغَلَبَتِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَبِاخْتِلَافِ مَنْ يَكُونُ كَثِيرَ الْمُخَالَطَةِ لِلَّذِي يَصِفُهُ بِذَلِكَ. وَكَلَامُ الْمِزِّيُّ فِيهِ ضَيِّقٌ، بِحَيْثُ لَمْ يُسَمِّ مِمَّنْ رَآهُ بِهَذَا الْوَصْفِ إِلَّا الدِّمْيَاطِيَّ، وَأَمَّا كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ فَهُوَ أَسْهَلُ، بِأَنْ يَنْشَطَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ شُيُوخِهِ إِلَى شُيُوخِ شُيُوخِهِ، وَمَا فَوْقُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ شُيُوخُهُمُ التَّابِعِينَ أَوْ أَتْبَاعَ التَّابِعِينَ، وَشُيُوخُ شُيُوخِهِمُ الصَّحَابَةَ أَوِ التَّابِعِينَ، فَكَانَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَسْهَلَ بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ الزَّمَانِ، فَإِنِ اكْتَفَى بِكَوْنِ الْحَافِظِ يَعْرِفُ شُيُوخَهُ وَشُيُوخَ شُيُوخِهِ، أَوْ طَبَقَةً أُخْرَى، فَهُوَ سَهْلٌ لِمَنْ جَعَلَ فَنَّهُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ حِفْظِ الْمُتُونِ وَالْأَسَانِيدِ، وَمَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عُلُومِ الْحَدِيثِ كُلِّهَا، وَمَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ، وَالْمَعْمُولِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى فَرَاغٍ وَطُولِ عُمُرٍ، وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُولَدُ الْحَافِظُ إِلَّا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
فَإِنْ صَحَّ كَانَ الْمُرَادُ رُتْبَةَ الْكَمَالِ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَإِنْ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ مَنْ يُوصَفُ بِالْحِفْظِ. وَكَمْ مِنْ حَافِظٍ غَيْرُهُ أَحْفَظُ مِنْهُ. انْتَهَى.
وَمِنْ أَلْفَاظِ النَّاسِ فِي مَعْنَى الْحِفْظِ، قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الْحِفْظُ: الْإِتْقَانُ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الْإِتْقَانُ أَكْثَرُ مِنْ حِفْظِ السَّرْدِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِفْظُ: الْمَعْرِفَةُ. انتهى من تدريب الراوي.
فيتلخص من هذا المنقول أمور:
--الحافظ رتبة عالية لمن كان مبرزا في الحديث رواية ودراية بحيث يكون ما يغيب عنه في الجملة أقل مما يعيه.
--خضع لقب الحافظ لعرف المشتغلين بالحديث عبر العصور بنص الأئمة أنفسهم في النقل المتقدم على هذا، وذلك تبعا لاجتهاد كل أهل عصر في تحصيل علم الحديث، وعليه فتحمل الآثار المذكور فيها العدد على اجتهاد أهل كل عصر، وليس العدد شرطا في المحدث أو الحافظ، وتطبيق معايير زمن متقدم على زمن تأخر عنه قد يكون فيها إغضاء من المتقدم ورفع للمتأخر إلى رتبة المتقدم، وجرى عمل أهل العلم على توقير من تقدم من الأئمة لعلمه وسبقه، وكذلك على قدر المتأخر من الأئمة حق قدره بعلمه وحسن تأليفه وسبره.
--مع أن رتبة الحافظ عند أهل العلم رتبة عالية، إلا أنه وجد في مفهومها اختلاف, فمنهم من فهم العلماء من كلامه مساواته بين المحدث والحافظ، ومنهم من فرق.
--مع نص الأئمة على التباين بين كل عصر مع الذي سبقه وضعوا ضوابط ثابتة تواطأت عباراتهم حولها فلا بد أن يتصف الحافظ بها، وقد مضى شيء منها وسيأتي نقل كلام الحافظ ابن حجر فيها.
فانظر يا رعاك الله إلى فطنة أئمة السلف وكيف وصل بهم السبر إلى معرفة ما هو ثابت وما يخضع للتغيير بحسب عرف أهل الزمان.
فتبين أن لعلماء الحديث استعمالان للفظة حافظ, استعمال في ضبط الراوي، واستعمال في مرتبة من مراتب المحدثين، يتضح هذا فيما ذكره الحافظ ابن حجر في النكت على مقدمة ابن الصلاح بتحقيق الشيخ ربيع بن هادي حفظه الله فقد جاء تحت عنوان, [تعذر التصحيح في هذه الأعصار بمجرد اعتبار الأسانيد في نظر ابن الصلاح:] ج1 ص266 من كلام ابن الصلاح رحمه الله  ما نصه: 20- قوله (ص) : (فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريًّا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان فآل الأمر إذن في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة ... إلى آخر كلامه. ا.ه رحمه الله.
فعلق الحافظ ابن حجر قائلا ص268: هذا إن أراد المصنف بالحفظ حفظ ما يحدث به الراوي بعينه، وإن أراد أن الراوي شرطه أن يعد حافظا، فللحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا.

... 1- وهو الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف.
2- والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم.
3- والمعرفة بالتجريح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون.
فهذه الشروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا.
ولم يجعله أحد من أئمة الحديث شرطا للحديث الصحيح.
نعم والمصنف لما ذكر حد الصحيح لم يتعرض للحفظ أصلا، فما باله يشعر هنا بمشروطيته.
ومما يدل على أنه إنما أراد حفظ ما يحدث به بعينه أنه قابل به من اعتمد على ما في كتابه، فدل على أنه يعيب من حدث من كتابه ويصوب من حدث عن ظهر قلبه. ا.ه رحمه الله.
فتلخص من النقل السابق أمران:
--النص على الشروط الثابتة الواجب توفرها فيمن يلقب بالحافظ عبر العصور وليس منها اشتراط العدد.
--وجود الاستعمالين للفظة حافظ عند علماء الحديث في الضبط وفي رتبة من رتب الحديث.
وللشيخ الألباني رأي في المسألة حيث سئل في الشريط الثامن من سلسلة الهدى والنور حيث جاء فيه: قال السائل :

وصفكم بعض أهل العلم في مكة المكرمة بقوله الحافظ الألباني فعندما سؤل عن ذلك قال أنّك –أي الألباني –وقفتَ على ما لم يقف عليه مَن قبلك من أهل العلم وأيّد ذلك بقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته لشيخه العراقي"انباء الغَمر بأنّ الحفظ المعرفة" ووقفتَ أنت وعرفتَ من المتون والأسانيد ما يزيد على ذلك فما رأيكم؟

جواب الشيخ :

على كل حال،

أولا : لاأرضى بهذا اللقب .

ثانيا: تعود القضية إلى المعنى المصطلح عليه الذي تذكره الآن أنت عن الحافظ ابن حجر مع شيخه العراقي ،هذا اصطلاح خاص ليس على الإصطلاح العام المفهوم في كتب المصطلح أنّ الحافظ الذي يحفظ كذا ألف حديث ما أذكر العدد بالضبط – مئة ألف حديث –هذا الإصطلاح العام إما أن يقول هو الإطلاع على ما لم يطّلع عليه الآخرون والمعرفةأيضا هذا يكون اصطلاحا خاصا وأنا على كل حال أتبرأ من أن يصفني أحد بهذه الصفة سواءا بالمعنى الإصطلاحي العام أو بهذا المعنى الخاص إنّما أنا كما أقول دائما وأبدا طالب علم أجتهد أن أطلّع بقدر ما أستطيع ا.ه.
وسواء أكان العدد مشترطا في الإطلاق العام أم كان مما يختلف من عصر لآخر فتنزيل اصطلاح المحدثين
وخلاصة القول: إذا كان هذا القائل أو الكاتب استعمل قواعد السلف في إنكار وجود حافظ في هذا الزمن على ما اشترطه السلف، فكان يلزمه أمران, إما إثبات غلط القول بأن غالب عادة السلف استعمال لقب (إمام أهل السنة والجماعة) مقيدا بالعصر أو الزمن، وإما السير على نهج الأئمة, فيما إطلقوه وقيدوه واشترطوا له شروطه، وإما أن يفسر تضارب مواقفه في إعمال قواعد السلف، والله أعلم.