#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله

#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله
يركز أهل الضلال من إخوان ومن خرج من تحت عباءتهم على قضية الجهاد والشهادة, لأنه بهما يقدم الشباب أرواحهم طمعا في نيل الشهادة التي رتب عليها في شرعنا المطهر أجورا عظيمة، ولكنهم لا يؤصلون في الشباب معنى الجهاد الحقيقي في سبيل الله والفرق بين قتال الكفار وقتال غيرهم، والفرق بين الجهاد وبين غيره من أنواع القتال الجائزة والممنوعة، ولا يهتمون ببيان شروطه الواجب توافرها ليكون الجهاد مشروعا، ولا تكون الراية المرفوعة فيه راية عمية نهي عن القتال تحتها, تجاهل الإخوان كل ذلك لأن أغراضهم الحزبية تتنافى مع بيان ذلك.
ولما كان الشعار الذي رفعوه ليغطوا به أغراضهم السلطوية هو تحكيم الشريعة أولوا نصوص الشرع فأفهموا الأغرار الأغمار من الشباب أن خصومهم على اختلاف توجهاتهم لا يريدون تحكيم الشريعة, فهم إما أعداء للدين، وإما موالون لأعداء الدين، وزرعوا في عقولهم أنهم على حق وأن قتالهم يستمد شرعيته من نصوص الشريعة، ومنها قول الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} وقوله تعالى: { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، وهذا نادر العمراني يوظف حديث {القتلى ثلاثة} توظيفا حزبيا بعيدا عن التأصيل العلمي للشباب.
*رد الصحابة لشبهة الجهاد المزعوم عند الإخوان:
وهذا عبد الله بن عمر وسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين يردان على هذه الشبهة.
جاء في صحيح البخاري، باب قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
4243 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي فقالا ألم يقل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فقال قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمرو المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه قال يا ابن أخي بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت قال يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله قاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة قال فما قولك في علي وعثمان قال أما عثمان فكأن الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده فقال هذا بيته حيث ترون
قال ابن حجر في الفتح في شرح الحديث: " قوله : ( ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله ) أطلق على قتال من يخرج عن طاعة الإمام جهادا وسوى بينه وبين جهاد الكفار بحسب اعتقاده وإن كان الصواب عند غيره خلافه ، وأن الذي ورد في الترغيب في الجهاد خاص بقتال الكفار ، بخلاف قتال البغاة فإنه وإن كان مشروعا لكنه لا يصل الثواب فيه إلى ثواب من قاتل الكفار ، ولا سيما إن كان الحامل إيثار الدنيا .
وفي صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد رحمه الله قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَة}.
فانظر يا رعاك الله إلى فقه الصحابة كيف فرقوا بين قتال وقتال, قاتل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تكون فتنة وهي الشرك، وكان الدين كله لله، واعتزل من اعتزل منهم القتال حيث قدر أن القتال بين المسلمين سيترتب عنه عواقب غير محمودة، ومما هو معلوم أن القتال, سواء أكان للكفار، أو قتال لفئة باغية لا بد أن يكون تحت راية إمام شرعي استتب له الأمر واستقر على إمامته المسلمون, إما بيعة، وإما تغلبا، وفي غير هذا يسمى القتال قتال فتنة يترتب عليه مفاسد عظيمة, من كثرة لسفك الدماء في غير طائل، ومن استباحة العدو للمسلمين بضعفهم وتفككهم، إلى غير ذلك. وغاب فقه الصحابة لهذه الأمور عن الإخوان ومن خرج من تحت عباءتهم, ففي عصرنا هذا عمد شيوخ الإخوان والمقاتلة إلى تجميع أكبر عدد من الشباب للقتال بهذه الشبهة التي ردها الصحابة رضوان الله عليهم من قبل من أجل تحقيق الأغراض الحزبية ولكي تعلم أن قتالهم على غير أساس شرعي انظر إلى تحالفهم أول الأمر مع الدواعش والقاعدة، مكونين ما يعرف بمجالس الشورى. ثم اقتضت مصالحهم التخلص منهم لإرضاء رغبات داخلية وخارجية لكن طال نفس الحرب وفتح الإخوان والمقاتلة على أنفسهم جبهات كثيرة للقتال استهلكت فيها كثير من طاقاتهم البشرية حيث صار أصدقاء الأمس من قاعدة ودواعش أعداء اليوم وتغير المواقف بهذه الدرجة يدل على عدم ثبات الأصول والمبادئ، وحيث إنه لا بد من استمرارهم في حربهم لئلا يخسروا الداعمين للوصول إلى الحكم، أو يدرجوا ضمن قوائم الأرهاب، سعى نادر العمراني ومن لف لفه إلى استجلاب مزيد من الوقود البشري للاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة.
وذلك بما جرت به مع الأسف الشديد عادة الإخوان والمقاتلة إلى توظيف الحماسة الدينية للشباب بتوظيف نصوص الشريعة وتأويلها على حسب أغراضهم بدون أن يكون غرضهم التأصيل العلمي الصحيح، بل بالتلبيس والتضليل, ومن تلك القضايا التي وظفوها قضية الجهاد و(الشهادة في سبيل الله).
*العمراني يخفي عن الشباب شرط من شرطي قبول العمل وهو المتابعة لأغراض حزبية:
أقام الإخوان والمقاتلة الدنيا ولم يقعدوها عندما شاع نبأ اغتيال العمراني متهمين بذلك السلفيين وهم ومنهجهم براء من سفك الدماء بهذه الطريقة، ومتناسين أن العمراني ذاته مارس هذه الطريقة بتوظيف نصوص شرعية تخدم هذه الجماعات الضالة بمزيد من سفك الدماء.
كتب نادر العمراني مقالا في موقعه الرسمي تحت عنوان, [حديث القتلى ثلاثة]جاء فيه:
(للشهيد بشارات عدة، بشَّره الله بها ورسوله ، ولست بصدد حصرها وتعدادها. وإنَّما مرادي أن أنبِّه على واحدة منها، يغفَل عنها الكثير من الناس، خاصَّة في أيامنا هذه. فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ لا دليل عليه.
فليس من شرط المجاهد ألاَّ يكون خطَّاء، وليس من شرط الشهيد أن يكون كاملاً، بل الشرط أن يكون مؤمناً بالله ورسوله ، مخلصاً لله في عمله وإقدامه. ومتى تحقق فيه هذان الشرطان، استحقَّ وعد الله له).
ترك العمراني الكلام في تأصيل المسائل الشرعية عند الشباب, فترك تعليمهم شرطا قبول العمل, فلنيل الشهادة عند العمراني شرطان هما: الإيمان بالله ورسوله، وإخلاص العمل لله. نعم، لا بد من وجود أصل الإيمان الذي هو الشهادتان لقبول الأعمال التي هي من مسمى الإيمان، وهو ما عبر عنه في أحد روايات حديث أركان الإسلام عن ابن عمر ب{إيمان بالله ورسوله}، وقد تقدم، قال ابن رجب رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: {أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " حَجٌّ مَبْرُورٌ }:
" وأما حديث أبي هريرة: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في حديث: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، وفي رواية ذكر: "الإيمان بالله ورسوله" بدل "الشهادتين"؛ فدل على أن المراد بهما واحد؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان "الجهاد" ثم "الحج"، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما".
فالشهادتان ركن لا يكون الإسلام إلا بهما، ثم تأتي بقية الشرائع والأعمال التي لا تصح إلا بشرطين ذكر العمراني أحدهما وأغفل الآخر, فالذي ذكره العمراني الإخلاص وهو مندرج في الشهادتين، والشرط الذي أغفله المتابعة بأن يكون العمل على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ذكر العمراني هذا الشرط لتبين العاقل الفارق بين الجهاد الذي هو مشروع لئلا تكون فتنة وهي الشرك والقتال الذي هو فتنة من أجل السلطة، ولافتضح أمر الإخوان والمقاتلة.
ترك شرط المتابعة مع أنه منصوص عليه في كتاب الله, جاء في مقال ماتع في موقع راية الإصلاح تحت عنوان: [إخلاص الدين لله وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم]: "الله عزّ وجلّ لم ينصّ على أنّه يتقبّل العمل الأكثر من حيث الكميّة، ولكنّه ينصّ دائما على أنّه يتقبّل العمل الأحسن، كما في قوله سبحانه: ﴿إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿إِنَا لاَ نُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنّ العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقْبل، وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنّة».
وقال سعيد بن جبير والحسن البصري رحمهما الله: «لا يُقبل قول إلاّ بعمل، ولا يُقبل عمل إلاّ بقول، ولا يُقبل قول وعمل إلاّ بنيّة، ولا يُقبل قول وعمل ونيّة إلاّ بنيّة موافقة السنّة». انظر شرح أصول الإعتقاد للالكائي (18)، (20).
وعن سفيان بن عبد الله الثقفيّ قال: «قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا، قال: قل آمنت بالله ثمّ استقم» رواه مسلم.
وقد فسّر هذا بعض السّلف بالإخلاص والمتابعة، روى ابن بطّة في «الإبانة /الإيمان» (156) بسند صحيح عن سلام بن مسكين قال: كان قتادة إذا تلا: ﴿إِنَّ الّذين قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، قال: «إنّكم قد قلتم ربّنا الله، فاستقيموا على أمر الله، وطاعته، وسنّة نبيّكم، وأمضوا حيث تؤمرون، فالاستقامة أن تلبث على الإسلام، أن تلبث على الإسلام، والطريقة الصالحة، ثمّ لا تمرق منها، ولا تخالفها، ولا تشذّ عن السنّة، ولا تخرج عنها ...».
وفي هذا المعنى قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ من قَبْلَ أَنْ يأْتِيَكُمْ العَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ﴾، فأمرَ باتّباع أحسن ما أنزل، وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن اقتفى أثر رسول الله في ذلك، وهذا بعد أن أمر الله عزّ وجلّ بالإسلام له في قوله: ﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، والإسلام إذا جاء متعدّيًا لزم حمله على الإخلاص", فلو نص العمراني على شرط المتابعة لافتضح بأن حربه حزبية, حيث لا أمام شرعيا، ولا راية واضحة، فكيف يسمى جهادا في سبيل الله لتحكيم شرع الله؟!
*استغلال الحزبيين لجهل الشباب بالدين وتعميقه فيهم:
ترك العمراني تعليم الشباب الشروط الشرعية للجهاد وما يجب أن يتوفر فيه، لأنه لو علمهم ذلك لتبين كثير من التناقضات التي في مواقف هذه الجماعات, فلا بد للقتال من إمام يقاتل تحت رايته، والإخوان والمقاتلة لم تعد لهم ولاية بنصوص المواد التي وافقوا عليها وبسطوا الفتاوى في إثبات شرعيتها وفيها تحديد نهاية جسم المؤتمر الوطني، وتعنتوا بعدها في التمسك بالسلطة بحجج واهية تتمثل في إجراءات شكلية في مكان استلام وتسليم، فإن علموا الشباب أن من شروط الجهاد القتال تحت راية واضحة مع إمام شرعي فستنهال عليهم الأسئلة, سسيسألون العمراني ويقولون له هو ومن معه: ما حكم القتال تحت راية من انتهت ولايته؟ وماذا يسمى من يقاتل بعد انتهاء ولايته في الشرع؟ وهل تثبت الولاية شرعا وتنفى من أجل إجراءات تتعلق باستلام وتسليم؟ وكيف تفتون أن من يقاتل تحت راية من انتهت ولايته يكون شهيدا في سبيل الله وفي نصوص الشرع أنه لا يحكم لأحد بالشهادة إلا من جزم له الشارع الحكيم بها وهو يقاتل تحت راية شرعية واضحة فكيف بإثبات الشهادة في سبيل الله لمن يقاتل تحت راية من انتهت ولايته وهو يعلم بفترة انتهاء ولايته ووافق عليها أولا؟ وهو لا يقاتل كفارا بل يقاتل إخوانه في الدين والوطن؟ والمشكلة التي لا يستطيع الإخوان والمقاتلة تبريرها أن الوسيلة التي أوصلتهم إلى تولي مقاليد الأمور وبذلوا الجهد في إثبات شرعيتها أولا وهي الانتخابات هي الوسيلة ذاتها التي سلبتهم هذا الحق فتعنتوا؟
*القيد الذي يؤكد أن العمراني أراد توظيف النصوص لغرض حزبي:
ترك العمراني تبصير الشباب بشروط الجهاد مركزا على حقيقة واحدة يريدها، هي التي يغفل عنها الناس خاصة في أيامنا هذه كما يقول العمراني، ولعلك أيها القارئ الكريم تركز على هذا القيد [في أيامنا هذه]، وتربط بينه وبين ما يحدث فيها من أحداث جارية في بلادنا ليتبين لك الأمر، وهذا إن دل فإنما يدل على توظيف للنص أراده العمراني لا من باب تأصيل الشباب تأصيلا صحيحا.
ها هو ذا نادر العمراني لما أراد توظيف النصوص لأغراض حزبية يخفي كثيرا من الأمور عن الجهاد والشهادة فلا يبدي إلا ما أراده, فيظن القارئ أول وهلة حين يطالع قول العمراني: (فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ)، أنه سيبصر الشباب بما ينبغي أن يتوفر في الجهاد الشرعي الذي تترتب عليه الشهادة لمن يقتل في سبيل الله،, ، لكنه لما ساق الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وحسن إسناده المنذري والألباني رحمة الله على الجميع أراد استجلاب القوة المعطلة من الشباب عن الحرب، وذلك الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: { القَتْلى ثَلاثةٌ:
رَجَلٌ مُؤمنٌ جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يُقتلَ، فذلك الشهيد المُمْتَحَن في خَيمة الله تحت عرشه. ولا يَفْضُلُه النبيون إلاَّ بفضل درجة النبوة ورجل مؤمن قَرَفَ على نفسه من الذنوب والخطايا، جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فتلك مَصْمَصَةٌ مَحَتْ ذنوبَه وخطاياه. إنَّ السَّيفَ محَّاءٌ للخطايا، وأُدخِل من أي أبواب الجنة شاء؛ فإنَّ لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض.
ورجلٌ منافق، جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فذلك في النار. إنَّ السيف لا يمحو النفاقَ}
وها هو يوظف الحديث توظيفا حزبيا, فأثبت أن المجاهدين والشهداء على منزلتين, منزلة كاملي الإيمان, وهم من يقاتلون في حزبه وشربوا أفكار الإخوان والمقاتلة القائم على الطاعة العمياء لمشايخهم بدون تفهم الأدلة فكل ما يقوله مشايخهم حق لا يقبل المناقشة، فجعل هؤلاء الخارجين بالسيف في وجه إمامهم كاملي الإيمان، وأهل هذه المنزلة كثير منهم منتظم في الحرب، والمنزلة الثانية المجاهدون والشهداء أصحاب المعاصي الذين لم ينخرطوا في حزبهم وتأثروا بهم أو الذين انشغلوا بالدنيا وهم بعيد عن هذه التجاذبات السياسية والقتالية، وهؤلاء يهدف العمراني لانخراطهم مع حزبه لأن هذه الحرب التي يخوضها الإخوان طال نفسها وأتت على كثير من الأغرار الأغمار من شبابهم، فيطمح العمراني ومن لف لفه إلى انخراط هؤلاء الشباب في معركتهم الحزبية من أجل السلطة موظفا هذا الحديث في وعدهم أن ينالوا الشهادة على ما عندهم من معاصي, بدون أن يذكرهم بالتوبة، وبدون أن يبصرهم بشرط المتابعة لرسول الله فيفضح حزبه. فأنت يا من ابتليت بالزنا وشرب الخمر وغير ذلك ما هو إلا أن تقاتل معنا في أيامنا هذه لتنال الشهادة، لا فرق في هذا بينمعصية ومعصية. هذا ما يحتمله الإجمال في كلام العمراني.
وقد نص أهل العلم أن الشهيد يغفر له كل ذنب في حق الله لا في حقوق الآدميين, روى مسلم (1886) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ ) .
وروى مسلم (114) عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَلَّا ، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ) قَالَ : فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ : أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ " .
وهذا دأب هؤلاء المشايخ, يوردون النصوص على ما يريدون بدون ذكر مقيداته أو مبيناته،, أو تفسيراته على فهم السلف الصالح، لأن غرضهم التوظيف للأغراض الحزبية لا التأصيل العلمي الصحيح. والله تعالى أعلم.
ملحوظة:
مقال العمراني من هنا:
http://naderomrani.ly/article/323#sdfootnote2sym

السبت، 25 ديسمبر 2021

شذرات حول مسألة التأمين الصحي أو التأمين الطبي:

يشيع في عصرنا الحاضر عقود معاملات تسمى بالتأمين، يلتزم بها العميل بدفع أقساط معلومة في أوقات معلومة لمؤسسة ما أو شركات تعرف باسم شركات التأمين بشروط تبين في عقد التأمين، مقابل ضمان الشركة لدفع مبلغ معين إذا وقع تلف أو ضرر على ما أبرم العميل عقد التأمين من أجله، بضوابط متفق عليها حول هذا الضرر أو التلف، وقد يقل مبلغ الضمان عما دفعه العميل أو يساويه، أو يكون أكبر منه، بحسب السقف المحدد في العقد، وقد يدفع العميل ولا يحصل له ذاك الضرر أو التلف فلا يعود عليه من التأمين نفع. ولكي يعلم حكم التأمين الشرعي، لا بد من التمييز بين نوعي عقد التأمين، ولعقده صورتان, تجاري، وتكافلي، سئل الشيخ ابن باز رحمه الله ما نصه: نسمع عن التأمين الإسلامي ولا نعلم ما حكمه؟ فهلا تكرمتم ببيان الجائز منه والمُحَرَّم. التأمين قسمان: قسم يُسمَّى: التأمين التّجاري: يُؤَمِّن على سيارته، أو على عمارته، أو على نفسه بأموالٍ يدفعها للشَّركات في كل وقت كذا وكذا، وإذا خربت سيارته أصلحوها، وإذا خرب بيته أو احترق عمروه، وإذا مات أو قُتِلَ أدَّوا ديته، هذا التأمين التِّجاري مُحَرَّمٌ؛ لما فيه من الربا والغرر. وقد صدر من مجلس هيئة كبار العلماء منذ سنتين أو ثلاث قرارٌ بتحريم ذلك، وهو واضحٌ من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام. التأمين الثاني: تأمين تعاوني بين المسلمين: ليس المقصود منه الربا ولا الغرر، ولكن المقصود منه التَّعاون، فهذا يُقال له: التأمين التَّعاوني، كأن يجتمع أهلُ قريةٍ أو قبيلةٍ أو أهل حيٍّ من الأحياء أو أسرة من الأُسَر على بذل أموالٍ معينةٍ -كل واحدٍ يبذل كل شهرٍ كذا: مئة ريـال، ألف ريـال، أو كل سنة- يقولون: هذه نجمعها لمواساة الفقير منا ومَن يُصاب بحدثٍ: كقتلٍ أو غيره، تؤدّى منه الدية، وهكذا يُواسون الفقير والمسكين، والغارم الذي عليه ديون يُؤدُّون عنه، ومَن أصابه قتلٌ، مثلًا: دهس أو انقلاب وصار عليه شيءٌ من الديات يُساعدونه، ليس المقصود من ذلك إلا المساعدة. فهذا ليس فيه زكاة، وهذا عمل صالح، فهذا يُسمَّى: التأمين التعاوني، وإذا جعلوه بيد إنسانٍ يعمل فيه ويُنميه ويتَّجر فيه فلا بأس بجزءٍ من ربحه، كأن يُقال لفلان أو مؤسسة مُعينة: تعمل فيه بنصف الربح، بثلث الربح، بربع الربح، كمُضاربةٍ؛ فلا بأس بذلك، وهو مُعدٌّ للأعمال الخيرية، هذا يُقال له: التأمين التَّعاوني. https://files.zadapps.info/binbaz.org.sa/fatawa/fatawa_dross/0542%D8%AD%D9%83%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D9%85%D9%8A%D9%86%20%D9%81%D8%AA%D8%A7%D9%88%D9%89%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%A7%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D8%AA%20%D9%84%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE%20%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B2%D9%8A%D8%B2%20%D8%A8%D9%86%20%D8%A8%D8%A7%D8%B2%20%D8%B1%D8%AD%D9%85%D9%87%20%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87.mp3 وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي ما يلي: "بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين. قرار رقم: 200 (21/6) بشأن الأحكام والضوابط الشرعية لأُسس التأمين التعاوني إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي المنعقد في دورته الحادية والعشرين بمدينة الرياض (المملكة العربية السعودية) من: 15 إلى 19 محرم 1435هـ، الموافق 18-22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013م، بعد اطلاعه على توصيات الندوة العلمية للأحكام والضوابط الشرعية لأُسس التأمين التعاوني التي عقدها المجمع في الفترة من: 20 إلى 21 جمادى الثانية 1434ه، الموافق 30 أبريل – 1 مايو 2013م، بمدينة جدة، والتي جاء انعقادها تنفيذًا لقرار مجلس المجمع رقم: 187 (2/20) الصادر عن الدورة العشرين التي انعقدت بمدينة وهران (الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية) في الفترة من: 26 شوال إلى 2 ذي القعدة 1433هـ، الموافق 13-18 سبتمبر 2012م، وبعد استماعه إلى المناقشات والمداولات التي دارت حولها، قرر ما يلي: التأمين التعاوني عقد جديد أساسه مبدأ التعاون المنضبط بضوابطه الشرعية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية. وينقسم التأمين من حيث إنشائه إلى قسمين: الأول: تأمين تجاري يهدف إلى تحقيق الربح في صيغته التأمينية من خلال المعاوضة على المخاطر، أما من حيث إدارته من شركة فإن الشركة تستهدف الربح. الثاني: تأمين غير تجاري لا يهدف إلى تحقيق الربح؛ وإنما يهدف إلى تحقيق مصلحة المشتركين فيه باشتراكهم في تحمل وجبر الضرر عنهم. ويطلق على النوع الثاني من التأمين مصطلحات متعددة، منها: التأمين التعاوني، والتأمين التكافلي، والتأمين التبادلي، والتأمين الإسلامي. وهناك فروق جوهرية بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري، من أهمها: (1) أن التأمين التعاوني الإسلامي تعاون بين مجموعة أو عدة مجموعات من أفراد المجتمع من خلال الاشتراك في تحمل المخاطر ولا يهدف إلى الربح، لذلك فلا يعد من عقود المعاوضة، والغرر فيه مغتفر. أما التأمين التجاري فهو عقد معاوضة يستهدف الربح من المعاوضة على نقل المخاطر من المؤمن إلى شركة التأمين، وتنطبق عليه أحكام المعاوضات المالية التي يؤثر فيها الغرر. (2) أطراف العلاقة في التأمين التعاوني هم: مجموع المشتركين في صندوق التأمين التعاوني، والجهة الإدارية، أما في التأمين التجاري فهم الشركة وحملة الوثائق. (3) الصندوق، وتتكون موجوداته من مجموع اشتراكات حملة الوثائق وأرباح استثماراتها والاحتياطات المعتمدة. وأما في التأمين التجاري فلا يوجد مثل هذا الصندوق. (4) الشركة المديرة، وهي التي تدير التأمين، من حيث إدارة التغطية وأعمال التأمين واستثمار أموال الصندوق. أما في التأمين التجاري فالشركة هي المؤمنة، وتملك أقساط التأمين، ولها أرباحه وفائضه. (5) حامل الوثيقة والمؤمِّن في التأمين التعاوني في حقيقتهما واحد، لكن باعتبارين مختلفين، وهما في التأمين التجاري مختلفان تمامًا، فالمشترك هو المؤمَّن له والمؤمِّن هو شركة التأمين. (6) الإدارة في التأمين التعاوني سواء كانت هيئة منتخبة من بين المشتركين أو شركة متخصصة أو مؤسسة عامة وكيلة في التعاقد عن صندوق المشتركين (حملة الوثائق)، ولها الحق في الحصول على أجر مقابل ذلك في حين أنها طرف أصلي في التأمين التجاري وتتعاقد باسمها. (7) الإدارة في التأمين التعاوني لا تملك أقساط التأمين (الاشتراكات)؛ لأن الأقساط مملوكة لصندوق المشتركين (حملة الوثائق)، أما الشركة في التأمين التجاري فإنها تملك الأقساط في مقابل التزامها بمبلغ التعويض. (8) الباقي من الأقساط وعوائدها -بعد حسم المصروفات والتعويضات- يبقى ملكًا لحساب الصندوق، وهو الفائض الذي تقرر لوائح الصندوق كيفية التصرف فيه، ولا يتصور هذا في التأمين التجاري؛ لأن الأقساط تصبح ملكًا للشركة بالعقد والقبض، فهو يعتبر إيرادًا وربحًا في التأمين التجاري. (9) عوائد استثمار أصول الأقساط بعد حسم تكلفة الإدارة للشركة المديرة تعود لصندوق حملة الوثائق في التأمين التعاوني، وتعود للشركة في التأمين التجاري. (10) موجودات الصندوق عند تصفيه صندوق التأمين التعاوني تصرف في وجوه الخير أو تعطى للمشتركين في حينه (كما هو مفصل في المادة الثالثة عشرة)، في حين أنها تعود للمساهمين في التأمين التجاري. (11) الشركة في التأمين التعاوني ملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية وفتاوى هيئاتها الشرعية، أما التأمين التجاري فهو على خلاف ذلك. (12) يشترك التأمين التعاوني مع التأمين التجاري في اعتبار المبادئ الأساسية للتأمين، وهي: (‌أ) مبدأ المصلحة التأمينية: هو الحق القانوني في التأمين والذي ينشأ من علاقة مالية معتبرة قانونيًا بين المؤمَّن له والشيءِ موضوعِ التأمين. (‌ب) مبدأ حسن النية: هو الواجب الطوعي الإيجابي في الكشف الدقيق والكامل لكل الحقائق الجوهرية المتعلقةِ بالخطر المطلوب التأمين عليه، طلبت أم لم تطلب. (‌ج) مبدأ السبب القريب المباشر: هو ذلك السبب الفعال الكافي لإحداث سلسلة من الحوادث تكون السبب في النتيجة الحاصلة عنها بدون تدخل أي عامل آخر ناشئ عن مصدر جديد مستقل يقطع ترابط تلك السلسلة. (‌د) مبدأ التعويض. (‌ه) مبدأ المشاركة. (‌و) مبدأ الحلول والحقوق. وينفرد التأمين التعاوني بمبادئ خاصة منها: (‌أ) الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية في كافة المعاملات والعقود. (‌ب) عدم التأمين على المحرمات. (‌ج) عدم الدخول في أي معاملات ربوية أخذًا وإعطاء". فهذان هما نوعا التأمين وهذه الفروق بينهما. وإذا علم هذا وفهم الفرق بين النوعين فما حكم ما يعرف بالتأمين الطبي أو التأمين الصحي في الحالات الآتية:  إذا كان قسط التأمين مدفوعا من قبل شخصيات ذاتية, أي العميل أو المستفيد نفسه، أو مدفوعا من قبل شخصيات اعتبارية, جهة العمل، ؟  -- إذا كانت شركة التأمين تتعامل بنظام التأمين التجاري، أو بطريقة التأمين التكافلي؟  -- إذا كان الضمان المدفوع من قبل الشركة للعميل يساوي أو يقل أو هو أكثر ما دفعه للشركة؟  وللجواب ينقل من كلام أهل العلم ما يلي:  سئل الشيخ ابن باز رحمه الله:  التأمين الصحي ما حكمه؟  فأجاب:  ما يجوز، التأمين الصحي من المَيْسِر؛ لأنهم يعطون دراهم معدودة على أنه يعالج كل ما أصابه.  س: يقول صاحبه: أدفع بالكشف عشرين بالمئة فقط وعندي زوجتي الآن على وشك الولادة، يقول هل أضعها فيها أم لا؟  الشيخ: عند المستشفيات الأخرى.  س: إذن هو مُحَرّم على الإطلاق؟  الشيخ: نعم هو يشبه المَيْسِر.  ............................  س: التأمين الصحي وجه كونه "مَيْسِر"، الله يجزاك الجنة؟  الشيخ: لأنه يُوضع شيء من المال كل شهر أو كل سنة على علاج جميع ما يقع للشخص أو أهله، قد يقع لهم أمراض كثيرة تستحق عشرات الآلاف.  س: يقول: لكل فرد مائة ألف، هذا هو المَيْسِر؟ يقول: ما ندفع ولا شيء من راتبنا، ما يأخذون شيئًا أبدًا، كيف يكون مَيْسِرًا؟ وَجْهُ المَيْسِر؟  الشيخ: المَيْسِر مع المستشفى الذي يودعون له هذا الشيء، إذا قال لك مائة ريال كل شهر أو ألف ريال كل شهر على أنك تعالج جميع أهل البيت من كل ما أصابهم، قد يصيبهم أمراض كثيرة تستحق أكثر من ذلك.  https://binbaz.org.sa/fatwas/23280/%D9%85%D8%A7-%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%8A  فعلة الحرمة بحسب فتوى الشيخ هو الغرر الحاصل, بأن ما يتعاقد عليه غير واضح المعالم، فقد يدفع ولا يتعالج لعدم حصول الضرر، وقد يتعالج ويدفع له باقي تكاليف علاجه من أموال العملاء الآخرين لدى الشركة، وتردد موقف العميل بين الغنم والغرم يجعل هذا التأمين من الميسر الذي شدد الله عز وجل فيه فقال:  {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}. وفي فتاوى اللجنة الدائمة، المجموعة الأولى، (15/310-311) ما نصه: "الفتوى رقم (20629) س: قامت إدارة شركة الاتصالات السعودية مؤخرا بالتعاقد مع إحدى شركات التأمين لعلاج موظفي الشركة مع أبنائهم وزوجاتهم، وذلك بأن تدفع شركة الاتصالات مبلغا مقطوعا مقابل التأمين لعلاج كل شخص، فنسأل في هذه الحالة: 1- هل يجوز لإدارة شركة الاتصالات توقيع هذا العقد مع شركة التأمين بحيث تدفع إدارة شركة الاتصالات مبلغا مقطوعا مقابل رسم الاشتراك السنوي لكل شخص، بغض النظر زادت تكاليف علاج هذا الشخص خلال السنة عن قيمة الرسم أم كانت أقل؟ 2- هل يجوز لموظفي شركة الاتصالات الاستفادة من العلاج المقدم بموجب هذا العقد الذي تم بين إدارة شركة الاتصالات وشركة التأمين؟ علما بأن الموظفين لم يشاركوا في دفع قيمة هذا العقد، وليسو بملزمين بدفع جزء من رسم التأمين. ج: التأمين الطبي المذكور ضرب من ضروب التأمين التجاري المحرم شرعا؛ لما فيه من الغرر والمقامرة، وأكل أموال الناس بالباطل. لهذا فلا يجوز لشركة الاتصالات السعودية إجراء هذا العقد، ولا يجوز لموظفيها الاستفادة منه، ولا الدخول فيه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز" وفي فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية، (11/201-202) " الفتوى رقم (21238) س: أفيد سماحتكم أن شركة الرياض للتعمير تقوم بتوفير التغطية الطبية لموظفيها وأبنائهم وأزواجهم دون مقابل عبر تسديد فواتير علاجهم في الجهات الطبية المعتمدة من الشركة، وذلك وفق تنظيم خاص بذلك، والشركة تتجه الآن إلى إلغاء هذا التنظيم والتعاقد مع إحدى شركات التأمين لتوفير العلاج للموظفين وعوائلهم، وذلك بأن تدفع شركة الرياض للتعمير مبلغا مقطوعا سنويا مقابل التأمين لعلاج كل شخص، بغض النظر إن زادت تكاليف العلاج خلال السنة عن قيمة المبلغ المقطوع أو قلت، ونسأل في هذه الحالة: 1- هل يجوز للشركة توقيع عقد التأمين مع شركة التأمين؟ 2- هل يجوز لموظفي الشركة الاستفادة من العلاج المقدم بموجب هذا العقد؟ علما أن الموظفين مطالبون حسب أحكام هذا العقد بدفع نسبة محددة من تكاليف علاجهم تسدد لشركة التأمين مباشرة؟ 3- هل ينطبق على هذه الحالة، فتوى اللجنة الدائمة رقم (20629) وتاريخ 13\10\1419هـ ج: التأمين الطبي المذكور ضرب من ضروب التأمين التجاري المحرم شرعا؛ لما فيه من الغرر والمقامرة وأكل أموال الناس بالباطل. وقد صدر قرار هيئة كبار العلماء بتحريم التأمين التجاري، لهذا فلا يجوز لشركة الرياض للتعمير إجراء هذا العقد، ولا يجوز لموظفيها الاستفادة منه، ولا الدخول فيه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ: وفيها أيضا (11/199-200) " الفتوى رقم (20693) س: أعمل في شركة، وقد قامت هذه الشركة باتفاقية مع بعض المستشفيات للتأمين الطبي على موظفي الشركة، وذلك بأن تدفع للمستشفيات مثلا مليون ريال سنويا، على أن تقوم تلك المستشفيات بمعالجة منسوبي الشركة لمدة عام لأمراض وإصابات موضحة في العقد المتفق عليه، فهل يجوز لنا أن نعالج في هذه المستشفيات وفق هذا النظام، أم أن ذلك من المقامرة؟ ج: التأمين التجاري ـ ومنه التأمين الصحي ـ محرم بجميع أنواعه؛ لما فيه من أكل المال بالباطل ولما فيه من الجهالة والغرر والمقامرة، والواجب على المسلم أن لا يدخل فيه ولا يستعمله إذا كان يعمل في شركة تستعمله مع موظفيها، وعليه أن يتعالج على حسابه وفي الحلال غنية عن الحرام. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز" وفي المجموعة الأولى أيضا (15/294-295) ما نصه: " السؤال الأول والثاني من الفتوى رقم (4306) س1: عند شرائنا للدواء نبعث إلى الضمان الاجتماعي بالعلامة التي تبين أننا دفعنا قيمة من المال لشرائه، عندئذ يرجع لنا الضمان المال. هل يجوز شرعا أم لا؟ علما بأن المؤسسة التي نعمل فيها تأخذ كل شهر قيمة من الراتب لأجل الضمان الاجتماعي. ج1: هذا النوع من التأمين ضد الأمراض، فلا يجوز لكم أن تؤمنوا على أنفسكم عند مصلحة الضمان الاجتماعي ولا عند غيرها، لما في ذلك من الغرر والجهالة وأكل المال بالباطل، لكن إذا كانت مصلحة الضمان الاجتماعي تحفظ لكم المبالغ الى تدفعونها، وتعيدها إليكم عند الحاجة إليها والانتهاء من العمل، فهذا لا شيء فيه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز" وفي كتاب فتاوى الطب والمرضى الذي تم جمعه بإشراف الشيخ صالح بن فوزان الفوزان من فتاوى كبار العلماء فتوى للجنة الدائمة تحت عنوان, (حكم التأمين الطبي لموظفي وأسر المؤسسات والشركات)، جاء فيها ص44-441 " س: بعض المؤسسات والشركات الأهلية تكفل العلاج الطبي لموظفيها وأسرهم، ومن أجل ذلك تتفق مع بعض المستشفيات الأهلية لتأمين هذا العلاج، وتكون صورة الاتفاق كالتالي: 1- تدفع المؤسسة للمستشفى مبلغا شهريا عن كل شخص، قدره 100 مائة ريال فقط، بغض النظر عن عدد الزيارات التي يتردد بها المريض على المستشفى لتلقي العلاج. 2- يتولى المستشفى علاج الأشخاص وصرف الأدوية اللازمة لهم، وإجراء بعض العمليات الجراحية إن لزم الأمر. ومن المعلوم أنه في بعض الأشهر ينفق المستشفى على علاج الشخص أكثر من 100 مائة ريال، وخاصة إذا أجريت له عملية جراحية أو نحوها، وأحيانا أخرى قد لا يأتي الشخص إلى المستشفى؛ لأنه ليس محتاجا لذلك، ومن ثم فإنه لم يستهلك شيئا من المائة ريال، أو استهلك جزءا يسيرا منها. والسؤال هو: أولا: هل هذا التأمين الطبي جائز شرعا، أو أنه من الشروط المبنية على الجهالة والغرر؟ ثانيا: هل هذا يدخل في باب الجعالة الجائزة شرعا، كما قال بذلك بعض الباحثين في (مجلة البحوث الفقهية المعاصرة) العدد 31؟ ثالثا: ما صورة التأمين الطبي التعاوني الجائزة شرعا؟ ج: ما ذكر في السؤال هو من التأمين التجاري المحرم؛ لما فيه من الغرر والجهالة، وأكل أموال الناس بالباطل، والتأمين التعاوني الجائز هو: أن يوضع صندوق تجمع فيه تبرعات المحسنين لمساعدة المحتاجين للعلاج أو غيره، ولا يعود منه كسب مالي للمتبرع، وإنما يقصد به مساعدة المحتاجين؛ طلبا للأجر والثواب من الله تعالى. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز [من فتاوى اللجنة الدائمة] الفتوى رقم (19399)" وفي لقاءات الباب المفتوح (191/30) سئل الشيخ ابن العثيمين ما نصه: " إنسان مريض والشركة عندهم تأمين صحي، فهل له أن يدخل المستشفى بهذا التأمين حيث أنهم يخصمون من راتبه مبلغاً شهرياً سواءً مرض أو ما مرض، والشركة تدفع لشركة التأمين؟" فأجاب: " يتعالج بقدر ما أخذوا منه ولو كان مبلغاً بسيطاً، ولو كان ريالاً واحداً، فالريال به حبة إسبرين، حبة الإسبرين لا يحاسبهم عليها والباقي يعطيهم، أما إذا كانوا هم الذين يدفعون، أحياناً الشركات لا تأخذ على العامل شيئاً من أجرته، لكنهم فيما بينهم وبين المستشفى مثلاً يؤمِّنون هذا ما عليه منهم. لا يدخل ما دام أنهم متعاقدون مع المستشفى هو بنفسه، فالمهم أنه إذا كان التأمين من الشركة التي هو عندها وراتبه ما يأخذون منه شيئاً فلا بأس؛ لأنه هو الآن لم يتعاقد معاقدة ميسر وأما إذا كان معه فهو ميسر لا يجوز العمل به. وعلى ما تقدم يتحصل ما يلي:  التأمين الصحي يجوز إذا كان تكافليا لا تجاريا كما هو موضح في فتوى الشيخ ابن باز بالخصوص.  -- إذا كان الطرفان بنيا التأمين على قصد الربح والخسارة فالتأمين عندئذ تجاري لا يجوز سواء أكان العميل يدفع بنفسه أو دفعت عنه جهة من الجهات.  -- اختلف العلماء في صورة التأمين الذي يدفعه غير العميل كجهة العمل مثلا، هل يعد جائزا بناء على أن المتعاقد الشركة لا المستفيد، أو أنه غير جائز بناء على أن المستفيد قد يستهلك أكثر من الأقساط التي دفعت عنه فيغرم غيره، وهذا من الميسر، ولعل التقوى والورع أولى، وإن عمل المستفيد بفتوى الجواز كما هو في فتوى الشيخ ابن عثيمين، فليتحر أن يستهلك مقدار ما دفع عنه تجنبا لعلة الحرمة التي ذكرها المانعون وهي الدخول في الميسر.  -- لا بد من النظر في نظام التأمين في الشركة أو المؤصسسة المتعاقد معها، إن كان تكافليا على الحقيقة، أو تجاريا، فإن بعض الشركات تسمي نظامها تكافليا وتسمي نفسها بشركة التأمين الإسلامية ونظامها بعيد كل البعد عن النظام التأميني الشرعي. وفي المسألة فتاوى أخرى تعنى بجوانب، وتترك أخرى، وتراعي تفاصيل وظروفا مختلفة، وفيها تفريعات ومسميات لم أنقلها لقصد الاختصار، ولعلي أكون بإذن الله وفقت لاختيار أكثر ما تدعو إليه حاجة الناس منها بما هو أقرب للدليل. والله أعلم.

الاثنين، 18 أكتوبر 2021

المولد النبوي ومعنى السنة الحسنة

من أدلة جوازه حديث, {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة}، ولنا إن شاء الله مع هذا الحديث وقفتان: الأولى, في صنيع الأئمة في إيراده في تبويباتهم، ونصوص بعض السلف القدامى في تفسيره. الثانية, في النص على جوازه مع القول بإغلاق باب الاجتهاد. أولا-- قد روى هذا الحديث مسلم وغيره، وترجم له النووي رحمه الله في تبويب صحيح مسلم "بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً وَمَنْ دَعَا إِلَى هُدًى أَوْ ضَلَالَةٍ""، ينظر صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي, (4/2059) وهذا لفظ مسلم: 15 - (1017) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي الضُّحَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمِ الصُّوفُ فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ، فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَبْطَئُوا عَنْهُ حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «§مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ». ثم ذكر مسلم رحمه الله متابعات للحديث، ثم روى عن أبي هريرة فقال: 16 - (2674) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «§مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»، (4/2060). فصنيع الإمام مسلم كان بذكر متابعات لحديث جرير، ثم روى حديث أبي هريرة.وقد بوب النووي رحمه الله بترجمة تشمل اللفظين، فهل هذا العطف في الترجمة يفهم منه المغايرة؟ يعني, هل اختلاف اللفظين يقتضي اختلاف المضمونين للحديث بحيث شملهما الإمام النووي بترجمة تشمل هذين المضمونين؟ أم الحديثان يصبان في مضمون واحد؟ وهل وافق صنيع النووي رحمه الله بهذه الترجمة مقصد الإمام مسلم من إيراد اللفظين؟ والمتتبع لمن روى الحديث في كتابه من الأئمة غير مسلم يجد أنهم وافقوا مسلما رحمه الله في إيراده للفظين،فمثلا, الترمذي رحمه الله أورد هذه الترجمة في كتاب العلم فقال:"بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ أَوْ إِلَى ضَلاَلَة". أورد فيه (4/340) بتحقيق بشار عواد معروف حديث أبي هريرة فقال: 2674 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ العَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ..." فذكر لفظ أبي هريرة عند مسلم. وقال عنه بعد ذلك: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ". وهو لفظ كما علمت فيه ذكر أجر الدعوة إلى الهدى، ووزر الدعوة إلى الضلال. ثم ذكر الحديث السابق في صحيح مسلم من حديث جرير رضي الله عنه بذكر الاستنان. إذن، فالترمذي شمل اللفظين بترجمة واحدة هي الجزء الثاني من ترجمة النووي رحمه الله، وهي أن المقصود من اللفظين فضل من دعا إلى الهدى فاتبعه الناس، والتحذير من الدعوة إلى الضلال فيكون متبوعا عليه. وابن ماجه رحمه الله أورد في مقدمة سننه (1/73) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي هذه الترجمة فقال: "§بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً". أورد فيه لفظ مسلم المتقدم ونحوه من حديث أبي هريرة بذكر الاستنان، ثم أورد في الباب ذاته من حديث أنس فقال: 205 - حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: «§أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»، (1/74). ومن حديث أبي هريرة أيضا (1/75): بنحو حديث أنس، وهو لفظ مسلم بذكر أجر الدعوة إلى الهدى، ووزر الدعوة إلى الضلال. ثم عاد لذكر الاستنان المذكور في حديث جرير ولكن من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه برقم, 207. فابن ماجه رحمه الله استعمل الشطر الأول من ترجمة النووي رحمه الله للفظين. وكذلك فعل الدارمي رحمه الله في سننه بتحقيق حسين سليم أسد فذكر في سننه (1/443) ترجمة قال فيها: "§بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً". أورد فيه حديث جرير رضي الله عنه برقم 529، بذكر الاستنان، وبرقم 530 حديث أبي هريرة عند مسلم بذكر الدعوة إلى الهدى.ثم عاد إلى حديث جرير من طريق أخرى برقم 531 في ذكر الاستنان، ثم أورد من مراسيل حسان بن عطية الحديث رقم 532 فقال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «§أَنَا أَعْظَمُكُمْ أَجْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ لِي أَجْرِي، وَمِثْلَ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَنِي}. ثم أورد من حديث أنس الحديث رقم 533 فقال: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ بِشْرٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " §مَنْ دَعَا إِلَى أَمْرٍ وَلَوْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلًا، كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَوْقُوفًا بِهِ، لَازِمًا بِغَارِبِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] " ومن حديث ابن مسعود فقال: 534 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «§أَرْبَعٌ يُعْطَاهَا الرَّجُلُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُلُثُ مَالِهِ إِذَا كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ لِلَّهِ مُطِيعًا، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يَدْعُو لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وَالسُّنَّةُ الْحَسَنَةُ يَسُنُّهَا الرَّجُلُ، فَيُعْمَلُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمِائَةُ إِذَا شَفَعُوا لِلرَّجُلِ شُفِّعُوا فِيهِ» فأنت ترى أهل العلم المترجمين لأبوابهم بأنفسهم وهم سابقون على النووي رحمه الله وافقوا مسلما رحمه الله في رواية اللفظين, لفظ الاستنان، ولفظ الدعوة، فمنهم من ترجم بلفظ أجر الدعوة إلى العمل على اللفظين، كالترمذي، ومنهم من ترجم بلفظ الاستنان على اللفظين، كابن ماجه، والدارمي، فوافقوا مسلما في روايته للفظين وقد علمت أن مسلما رحمه الله ليست الترجمة له، وهذا يدلك على أن معنى اللفظين واحد، وإن كان أحد اللفظين مشكلا، فتفسره الرواية الأخرى، بناء على القاعدة العلمية أن روايات الحديث يفسر بعضها بعضا، ومعنى الحديثين أن المقصود به الدعوة إلى أمر مشروع فيقتدي الناس بمن دعا إليه قولا أو فعلا، وليس المقصود به إحداث أمر جديد، وقصة لفظ حديث جرير رضي الله عنه تبينه، وهو الدعوة إلى الصدقة، والصدقة مأمور بها شرعا، والناس أبطأوا ثم تتابعوا بعد ذلك الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين. ولئلا يقول قائل: هذا مجرد استنباط يستفاد من النقل الآتي من شعب الإيمان للبيهقي رحمه الله، فقد أورد في ترجمة له فقال (9/231): "§بَابٌ فِي السُّرُورِ بِالْحَسَنَةِ وَالِاغْتِمَامِ بِالسَّيِّئَةِ" أورد فيه بأسانيده حديث: {§كُتِبَ لَكَ أَجْرَانِ, أَجْرُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ}. ثم قال (9/239): "قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، أَنَّ مَعْنَاهُ: فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي لِيُقْتَدَى بِي، وَيُعْمَلُ مِثْلُ عَمَلِي، لَيْسَ أَنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يُذْكَرَ وَيُثْنَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا " وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَرَآهُ جَارٌ لَهُ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَغُفِرَ لِلْأَوَّلِ، يَعْنِي أَنَّ الثَّانِيَ أَخَذَ عَنْهُ وَتَابَعَهُ". إلى أن قال (9/239-240): وَالَّذِي رَوَاهُ الْحَلِيمِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، فَقَدْ رُوِّينَاهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا : 6610 - أَخْبَرَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ، نا أَبُو الطِّيبِ الْمُظَفَّرُ بْنُ سَهْلٍ الْخَلِيلِيُّ الْقَائِدُ، بِمَكَّةَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ حَسَّانَ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأُسِرُّ الْعَمَلَ، فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " §لَكَ أَجْرَانِ، أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ "قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هَذَا مِنْ أَجْوَدِ الْأَحَادِيثِ وَأَحْكَمِهَا لِرَجُلٍ يُسِرُّ الْعِبَادَةَ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ مُطَّلِعٌ فَيَعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ فَسَرَّهُ إِذَا بَلَغَهُ أَنَّ فُلَانًا قَدْ عَمِلَ بِمَا عَمِلْتَ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §" مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا" فهذا تفسير بعض السلف للحديث، يوافق صنيع الأئمة في تراجم أبوابهم، وإليه يرد كلام الشافعي رحمه الله في قوله عما له أصل وعما ليس له أصل، وبه تجتمع الأدلة. وعليه، فللمولد النبوي مع هذا الاستدلال بالحديث احتمالان, إما أن يستدل بالحديث على أن المولد بدعة حسنة على أن معنى الحديث يتناوله، فقد عرفت أن معنى الحديث ليس كما قالوا، وذلك إضافة إلى ما تقدم من لفظ الحديث ذاته، فالحديث فيه الحث على الصدقة، والصدقة مأمور بها شرعا، وفيه إبطاء الناس ثم تتابعهم بعد ذلك بعد الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين، فهل ينطبق هذا على المولد النبوي؟ أما الاحتمال الثاني, فأن يقال: الحديث على المعنى المستفاد من تراجم أبواب الأئمة وعلى تفسير من تقدم من السلف من أنه في الدعوة إلى هدى مما أصله مشروع في الكتاب والسنة، والمولد النبوي مما له أصل مشروع في السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سؤل عن صيام الإثنين أجاب بأنه يوم ولد فيه. فقد علم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن طريقتكم اختلاف تعظيم يوم المولد، فأنتم تعظمون يوم المولد يوما أو شهرا، وتتخذونه موسما للمدائح والفرح والسرور بسائر أنواع المطعوم والمشروب، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصومه تعبدا لله كل أسبوع في أغلب أحواله، وليس ذلك فحسب، بل كان من سبب صيامه كما ثبت عنه بأنه فيه عليه أنزل، فلماذا تركتم هديه في تعظيم يوم مولده؟ ولماذا ترك طريقتكم في تعظيم يوم مولده؟ فإما أنكم على سبيل أهدى من سبيله، وهذا ممتنع، وإما أنكم على تأسيس ضلالة وجب التحذير منها، وإذا علم أنه كان يعظم يوم مولده ويشكر الله عليه بالتعبد لله بصيامه بطل قول من يقول إننا نحتفل بمولده من قبيل العادات، فإنهم لم يقدروا النبي صلى الله عليه وسلم حين جعلوا تعظيم يوم مولده عادة. ثانيا-- يقال لمن جوزوا أو استحبوا فتأولوا الحديث: التجويز أو الاستحباب حكم شرعي، والدعوة في أوساطكم عريضة بإغلاق باب الاجتهاد، فالحكم الشرعي لا يثبت إلا بدليل صحيح صريح، إذ الأصل في العبادات المنع إلا بدليل، فيقال لكم: تجويزكم للمولد النبوي لا يمكن إلا أن يكون بأحد طريقين, إما أن يكون عن توقيف، نحتاج أن نعرفه، وإما أن يكون عن اجتهاد، فدعوة إغلاق باب الاجتهاد عريضة في أوساطكم. وتجويزكم له بلا دليل صحيح صريح بهذا الدليل المتأول المحتمل بأحدى هتين الدعوتين يسقط تجويزكم له من أساسه، إذ لا توقيف، بل أدلة عامة محتملة، وإما إن أبطلتم دعوى غلق باب الاجتهاد فقلتم هو اجتهاد على أصول عامة وأدلة عامة لا تخرج عن مقاصد الإسلام، فيرد عليكم صنيع الأئمة المتقدم في تراجم تبويباتهم عن الحديث المتقدم، وتفسير من وافقهم في تفسير السنة الحسنة، هذا مع هدمكم لباب عريض من أبواب البدعة وهو البدعة الإضافية، وتخصيصكم لعموم أحاديث بغير مخصص قطعي الدلالة, وهي النصوص التي فيها كل بدعة ضلالة، فتأويلكم للحديث المتقدم غير مسلم لكم كما تقدم، فالموالد إذن ليس لها أصل شرعي تبنى عليه، والله أعلم.

الأربعاء، 11 أغسطس 2021

الآثار السلفية في أن الدعاء لا يقتصر فيه على الوالدين إذا كانت الجنازة لطفل:

الآثار السلفية في أن الدعاء لا يقتصر فيه على الوالدين إذا كانت الجنازة لطفل: ينقل بعض الإخوة عند الصلاة على السقط إذا نفخت فيه الروح، أو الصبي إذا لم يبلغ الحلم أنه يصلى عليه ويكون الدعاء لوالديه بالمغفرة والرحمة، لحديث المغيرة بن شعبة عند أبي داود وغيره، وهذا لفظ أبي داود: 3180 - حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَحْسَبُ أَنَّ أَهْلَ زِيَادٍ أَخْبَرُونِي أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «§الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا، وَأَمَامَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا، وَعَنْ يَسَارِهَا قَرِيبًا مِنْهَا، وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ. وليس معنى الحديث ترك الدعاء للصبي مطلقا، ولا في الحديث دليل على الاقتصار في الدعاء للصبي والسقط بأن يكون فرطا وذخرا وأجرا لوالديه، فقد وردت أحاديث وآثار فيها الدعاء للصبي. وقد أورد العلماء إشكالا عند تعرضهم للخلاف في الصلاة على السقط، وهي, ما حاجة السقط إلى الصلاة عليه؟ ولا شك في أن العبادة إذا ثبتت بالدليل يتعبد بها لله سواء عرفنا الحكمة أو لم نعرفها، لكن نجد مثلا في شروح الرسالة لأبي زيد القيرواني اجتهادا للعلماء في بيان العلة التي من أجلها أفرد ابن أبي زيد الدُّعَاءِ لِلطِّفْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغُسْلِهِ بباب مستقل, قال شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي في الفواك الدواني ج1، ص300:: "(بَابٌ فِي) صِفَةِ (الدُّعَاءِ لِلطِّفْلِ) وَهُوَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. (وَ) فِي حُكْمِ (الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغُسْلِهِ) وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ عَمَّا قَبْلَهُ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا شَفَاعَةٌ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا، وَرَدَّ كَلَامَهُ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ قَدْ تَكُونُ لِمَحْضِ رَفْعِ دَرَجَاتٍ فَلَا تَتَقَيَّدُ بِالْمُذْنِبِينَ". ومما يدل على أن صلاة الجنازة شفاعة ما في صحيح مسلم وغيره, (948) حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ، قَالَ الْوَلِيدُ: حَدَّثَنِي، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ - أَوْ بِعُسْفَانَ - فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ، انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: تَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخْرِجُوهُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «§مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ»، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَعْرُوفٍ: عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ". فصلاة الجنازة دعاء وشفاعة، ولو كانت لسقط أو صبي، والصبي ولو لم يكن له ذنب فمما يرجى له رفعة الدرجة به صلاة المسلمين عليه، وهذا بعد كوننا متعبدين بهذا وإن لم نعلم الحكمة. ومن الأدعية الثابتة عن السلف في الدعاء للصبي والسقط في الجنازة: {اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الاسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الايمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده}. ولا شك أنه دعاء عام، لكن الذين مالوا إليه في الدعاء للصبي أو السقط اختاروه لورود الصغير فيه نصا، وقد خرج الحديث الشيخ الألباني في كتابه أحكام الجنائز ص124 فقال: "أخرجه ابن ماجه (1/ 456) والبيهقي (4/ 41) من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عنه، وأبو داود (2/ 68) والترمذي (2/ 141) وابن حبان في صحيحه (757 - موارد) والحاكم (1/ 358) والبيهقي أيضا وأحمد (2/ 368) من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به نحوه، دون قوله " اللهم لا تحرمنا ... " فهي عند أبي داود وحده، وصرح يحيى بالتحديث عند الحاكم ثم قال: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وأعل بما لا يقدح. وليحيى فيه إسنادان آخران، عند أحمد (4/ 170، 308) والبيهقي. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس نحوه. رواه الطبراني في " الكبير ". فهذا حديث له من المتابعات والشواهد كما خرجه الشيخ الألباني رحمه الله، وفيه الدعاء للصغير في ثمانية أصناف تشمل أمة الإسلامجمعاء. وقد مال إلى هذا الدعاء عند الصلاة على السقط أو الصبي جماعة من العلماء, جاء في التلخيص الحبير، ج2، ص290:: " قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلًا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُضِيفُ إلَيْهِ "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ سَلَفًا وَفَرْطًا لِأَبَوَيْهِ وَذُخْرًا وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا وَشَفِيعًا وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا وَأَفْرِغْ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ وَلَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ" انتهى". فقدم الدعاء المرفوع عن أبي هريرة على تلك الأدعية التي فيها سؤال الله للطفل أن يكون أجرا وفرطا وذخرا وسلفا وشفيعا. وفي عون المعبود ج8، ص362: "وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الطِّفْلِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ فَكَالصَّلَاةِ عَلَى الْكَبِيرِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ النبي بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ عَلَّمَ أَصْحَابَهُ دُعَاءً آخَرَ لِلْمَيِّتِ الصَّغِيرِ غَيْرَ الدُّعَاءِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ لِلْمَيِّتِ الْكَبِيرِ بَلْ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا كَمَا عَرَفْتَ". فمن اتخذ التفريق ديدنا بين جنازتي الكبير والصغير فيلزمه الدليل، إلا ما كان من الخلاف في طلب المغفرة للصبي، وفيه أوجه يأتي نقلها، إن شاء الله. والشيخ الألباني رحمه الله استحب هذا الدعاء أيضا فقال في حاشية ص127: "والذي أختاره أن يدعو في الصلاة على الطفل بالنوع (الثاني) لقوله فيه: " وصغيرنا ... اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده "". وفي شرح سنن أبي داود (532/35)سؤل الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله: ما هو الدعاء الصحيح للطفل الميت؟ فأجاب: " يقول: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وشاهدنا وغائبنا، ولجميع موتانا)) يعني: سواء كان الميت صغيراً أو كبيراً، هذا دعاء ورد للصغير وللكبير، ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة، وقد جاء في الحديث أنه يصلى عليه ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة". وهذا فيه الجمع في الدعاء للطفل الميت ولوالديه. وقد نص جماعة من فقهاء المذاهب على هذا, قال النووي في الأذكار ص158-159: "قال أصحابنا: فإن كان الميت طفلاً دعا لأبويه فقال: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَهُما فَرَطاً، واجْعَلْهُ لَهُما سَلَفاً، واجْعَلْهُ لَهُما ذُخْراً ، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُما، وأفرغ الصبر على قُلوبِهِما، وَلا تَفْتِنْهُما بَعْدَهُ، وَلا تَحْرِمْهُما أجْرَهُ ". هذا لفظ ما ذكره أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا في كتابه " الكافي "، وقاله الباقون بمعناه، وبنحوه قالوا: ويقول معه: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا ... " إلى آخره". فهذا النووي رحمه الله يحكي استحباب الشافعية لهذا الدعاء في الصلاة على الصبي، وأن منهم من استحب جمع هذا الدعاء مع ما اختاروه من صيغ الدعاءء، واستحبوا أيضا الجمع بين الطفل وبين والديه في الدعاء. وفي الفروع لابن مفلح ج3، ص336: "ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَدْعُو سِرًّا "و" قَالَ أَحْمَدُ: لَا تَوْقِيفَ، اُدْعُ لَهُ بِأَحْسَنِ مَا يَحْضُرُك، أَنْتَ شَفِيعٌ، يُصَلِّي عَلَى الْمَرْءِ عمله، ويستحب ما روي وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُُ". إلى آخر ما ذكر من دعاءء. ثم قال ص3377: "وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا زَادَ الدُّعَاءَ لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِلْخَبَرِ، ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ، وَاقْتَصَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، لِلْخَبَرِ، لكن زادوا: وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ: سُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ لَهُ. وَفِي الْخِلَافِ وَغَيْرِهِ: فِي الصَّبِيِّ الشَّهِيدِ أَنَّهُ يُخَالِفُ الْكَبِيرَ فِي الدُّعَاءِ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي الْفُصُولِ: أَنَّهُ يَدْعُو لِوَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَالْعُدُولُ إلَى الدُّعَاءِ لِوَالِدَيْهِ هُوَ السُّنَّةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ الدُّعَاءَ لِوَالِدَيْهِ، بَلْ "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا ذُخْرًا وَفَرَطًا، وَشَفِّعْهُ فِينَا" وَنَحْوَهُ. وَعِنْدَنَا: إنْ لَمْ يَعْرِفْ إسْلَامَ وَالِدَيْهِ دَعَا لِمَوَالِيهِ"، فهو يحكي الخلاف عن الحنابلة، فمنهم من جمع بين الدعاء للطفل وبين الدعاء لوالديه، ومما قدمه في الدعاء على الجنازة حديث أبي هريرة المتقدم الذي فيه الدعاء للأصناف الثمانية، وفي المنقول آنفا عن بعضهم قوله, "لكن زادوا: وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ: سُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ لَهُ"، وهذا الاستحباب منهم لسؤال المغفرة له موافق لحديث أبي هريرة المتقدم، وفيه دلالة على عدم الاكتفاء بأن يسأل العبد الله له أن يكون سلفا وأجرا وذخرا وفرطا لوالديه، فتأمله، وبهذا يتبين أنه لا تعارض بين الحديثين, حديث {ويدعى لوالديه}، وحديث الدعاء للصبي أو السقط، وإنما يستفاد من المنقولات آنفا، أن الشأن في الدعاء للصغير كالكبير، ويزاد في الدعاء للصغير الدعاء لوالديه، والله أعلم. ويبقى الإشكال في سؤال المغفرة للصبي مع أن المغفرة لا تكون إلا لذنب وقع، وللعلماء في تأويل ذلك وجوه، منها, ما حكاه الشيخ ابن عثيمين عن أهل العلم في شرح رياض الصالحين ج4، ص544 أن ذكر الصغير من باب التبع فقال: " أما هذا الدعاء الذي ذكره المؤلف رحمه الله فهو الدعاء العام يقول المصلي على الميت اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا وهذه الجمل تغني عنها جملة واحدة لو قال اللهم اغفر لحينا وميتنا شمل الجميع لكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط والتفصيل لأن الدعاء كل جملة منه عباده لله عز وجل وإذا كررته ازددت بذلك ثوابا فقوله حينا وميتنا يشمل الحي الحاضر والميت القديم والميت في عصره وصغيرنا وكبيرنا كذلك أيضا يشمل الصغير والكبير. الحي والميت وذكر الصغير مع أن الصغير لا ذنب له من باب التبعية وإلا فإن الصغير ليس له ذنب حتى تسأل له المغفرة وذكرنا وأنثانا مثلها عامة وشاهدنا وغائبنا الحاضر والمسافر". فلعل هذا عند الشيخ من باب, (يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا), وعندئذ, لا يدعى للسقط أو الصبي الصغير بالمغفرة بدعوة مستقلة. وفي ذخيرة العقبى للشيخ الإثيوبي ج19، ص312: "وههنا إشكال، وهو أن المغفرة مسبوقة بالذنوب، فكيف تتعلّق بالصغير، ولا ذنب له، وذكروا في دفعه أوجهًا، فقال السنديّ: المقصود في مثله التعميم. وقال ابن حجر الهيتميّ: الدعاء بالمغفرة في حقّ الصغير لرفع الدرجات. وقال القاري: يمكن أن يكون المراد بالصغير والكبير الشابّ والشيخ. وقال التوربشتيّ: سئل أبو جعفر الطحاويّ عن معنى الاستغفار للصبيان، مع أنه لا ذنب لهم، فقال: معناه السؤال من اللَّه أن يغفر لهم ما كتب في اللوح المحفوظ أن يفعلوه بعد البلوغ، من الذنوب حتى إذا كانوا فعلوه كان مغفورًا، وإلا فالصغير غير مكلّف، لا حاجة له إلى الاستغفار انتهى". وقد تقدم كلام جمع من العلماء في أنه يدعى به للصبي، فهو عندهم يشمله، وقد علم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم استحباب الجوامع من الدعاء، وقد أوتي صلوات ربي وسلامه عليه جوامع الكلم، فلما أطنب ههنا وكان قادرا على الإيجاز علمنا أن النص على هذه الأصناف مقصود إليه، ولعل ذلك كما قال الشيخ ابن عثيمين لزيادة الثواب بتكثير الجمل التي كل منها عبادة, إذ المقام مقام دعاء، وكذلك الإطناب ههنا لعل له فوائد أخرى غير تكثير الثواب بجمل الدعاء، ولعل منها الدعاء بهذا للسق\ط أو الصبي، وبهذا يعد دعاء جامعا مع إطنابه، ومجيؤه على هذه الصيغة أفضل من الدعاء بالمغفرة لعموم المسلمين إجمالا، ولذا استحب بعض العلماء تقديمه في الدعاء في جنازة الطفل لكونه لفظ نبوي مرفوع، ويحصل به الغرض بالدعاء للصبي ولوالديه، لدخولهم في الأصناف المنصوص عليها، وذكر الصبي بالنص عليه خاصة، والقول بأن المقصود بالصغير الشباب في مقابل الشيوخ لاشتراك الصنفين في التكليف تقييد يحتاج إلى برهان، ولا تكفي علة عدم التكليف لإخراج الصبي أو السقط، بما سيأتي من أثر أبي هريرة رضي الله عنه الآتي وفيه الدعاء للصبي بأن يعيذه الله من عذاب القبر. هذا، ومما ينبغي التنبيه عليه أنه ينبغي تقييد لفظة (التكليف) في الإشكال الوارد بقولنا, (في الدنيا)، فالسقط إذا نفخت فيه الروح ومات، وكذلك الصبي الذي لم يحتلم فإنه غير مكلف في الدنيا لكن جاء أنه يكلف في الآخرة، كما ذكر ابن القيم رحمه الله عن بعض أهل العلم وانتصر له، وذلك عند ذكره للطبقة الرابعة عشر من طبقات المكلفين، وهي الطبقة التي فيها من لم يصدر منهم إيمان ولا كفر، كالأطفال والمجانين ومن في حكمهم، وبعد أن ذكر المذهب الثامن فيهم وهو الراجح عنده لما دلت عليه النصوص وهو أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، تعرض لمسألة أن التكليف لا ينقطع إلى أن يصل المرء إلى دار القرار، إذ كيف يمتحنهم الله ولا تكليف، فقال في طريق الهجرتين ص400: "الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف". ثم قال ص400-401: "فإن قيل: فالآخرة دار جزاءٍ، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف. وأما في عرصة القيامة فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] ، [فهذا] صريح في أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف، بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به في الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم، ولهذا قال تعالى: {وَقدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43)". وثمرة هذا أن الإشكال في الاستغفار والتعوذ للطفل يكون قويا إذا انقطع التكليف بالموت، فإذا مات من لم يبلغ الحلم كان غير مكلف، فكيف يستغفر له ويستعاذ له من عذاب القبر؟! فأما إن علم أن التكليف لا ينقطع إلا بدخول الجنة أو النار عند من ذهب إليه بالأدلة التي ذكرها ابن القيم وغيره، فلا إشكال، لأنه يتماشى مع ما وجهه بعض أهل العلم من أن الدعاء زيادة، أو سؤال للتثبيت على الحالة التي هو عليها، وكذلك يتماشى مع ما وجهه بعض أهل العلم من أن فتنة القبر وعذاب القبر يعمان الصغير والكبير كما سيأتي ذكره، فمع وجود التكليف لمن ذهب عقله أو مات قبل الحلم في غير هذه الدار تظهر قوة وجوه الدعاء للطفل ومن كان مثله، وأما كون الاستغفار لا يكون إلا بعد ذنب، فتقدم، وكلام ابن القيم في تقرير تلك المسألة طويل، فإن أردت الإلمام به فعليك بكتابه, (طريق الهجرتين). ومن الآثار المروية في الدعاء للصبي إذا مات ما رواه البيهقي في السنن الكبرى 4، ص15، برقم 6794، بسنده عن هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْمَنْفُوسِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ، وَيَقُولُ: " §اللهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا وَفَرَطًا وَذُخْرًا " قَالَ نُعَيْمٌ: وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ أَتُصَلِّي عَلَى الْمَنْفُوسِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ؟ قَالَ: قَدْ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَغْفُورًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَعْصِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ " وروى البيهقي وغيره أيضا والبخاري تعليقا في صحيحه ج2، ص89-90، باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة هذا عن الحسن فقال: "وَقَالَ الحَسَنُ: " يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا "، قال الشيخ الألباني رحمه الله في حاشية أحكام الجنائز ص126-127: "الثانية: قال الشوكاني في " نيل الأوطار " (55 4): " إذا كان المصلي عليه طفلا استحب أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا، روى ذلك البيهقي من حديث أبي هريرة، وروى مثله سفيان في " الجامعة " عن الحسن ". قلت: حديث أبي هريرة عند البيهقي إسناده حسن، ولا بأس في العمل به في مثل هذا الموضع، وإن كان موقوفا، إذا لم يتخذ سنة، بحيث يؤدي ذلك الى الظن إنه عن النبي صلى الله عليه وسلم". وهذا ما يتمسك به بعض الأئمة عند الصلاة على الطفل ، فلا يذكرون للمصلين غيره، فيأمرونهم بالصلاة عليه، والدعاء لوالديه، فلو أنهم بحثوا أو سألوا. فيا ترى، ماذا لو عرفوا أن لأبي هريرة أثراآخر صحيحا موقوفا عليه أيضا، وفي ديوان من أشهر دواوين السنة، وهو موطأ الإمام مالك، وفيه الاستعاذة من أبي هريرة للصبي من عذاب القبر، ففي الموطأ ج2، ص320 في التبويب الذي عقده الإمام مالك فيما جاء في التكبير على الجنائز فقال: "776 - مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ. فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ". جاء في مشكاة المصابيح بتحقيق الشيخ الألباني ج1 ص531: "1689 -[44] (صَحِيح)". وقد استشكل هذا كما استشكل الاستغفار للصبي، فقال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار ج3، ص39-40: ""وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الصَّبِيِّ اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ اللَّهِ تعالى (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) الْفَتْحِ 14 وَلَوْ عَذَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ كَانَ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ كَمَا أَنَّهُ إِذَا هَدَى وَوَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَأَضَلَّ وَخَذَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ كَانَ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ وَإِنَّمَا الظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ غَيْرَ مَا أَمَرَ بِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَأْمُورٍ لَا شَرِيكَ لَهُ". وفي شرح الزرقاني على الموطأ ج2، ص88: "وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ هُنَا عُقُوبَتَهُ وَلَا السُّؤَالَ بَلْ مُجَرَّدَ الْأَلَمِ بِالْغَمِّ وَالْهَمِّ وَالْحَسْرَةِ وَالْوَحْشَةِ وَالضَّغْطَةِ وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأَطْفَالَ وَغَيْرَهُمْ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اعْتَقَدَهُ لِشَيْءٍ سَمِعَهُ مِنَ الْمُصْطَفَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ عَامٌّ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَأَنَّ الْفِتْنَةَ فِيهِ لَا تَسْقُطُ عَنِ الصَّغِيرِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْعَادَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْكَبِيرِ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ كَبِيرٌ أَوْ دَعَا لَهُ عَلَى مَعْنَى الزِّيَادَةِ كَمَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَهَا وَتَسْتَغْفِرُهُ". فأما حمل عذاب القبر على غير الحقيقة الشرعية فأمر يعوزه الدليل، وأذا جاز القول بأنه قال هذا التعوذ على توقيف عنده من النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنع من القول به وجها في الاستغفار للصبي أيضا؟ يزيده وضوحا ما ذكره العيني في نخب الأفكار ج7، ص431: "قوله: "اللهم أعذه من عذاب القبر" يدل على أن عذاب القبر حق ردًّا على من أنكره من المعتزلة، وأنه يعم الصغير والكبير. فإن قيل: المنفوس الذي لم يعمل خطيئة كيف يعذب في القبر؟ قلت: لما لم يَخْل الصغير عن السؤال في القبر حتى عن نظره إلى الدنيا مرة واحدة أطلق على ذلك العذاب؛ لأن في السؤال نوع عذاب في حقه، والأولى أن يحمل هذا على سؤال الثبات والدوام على ما هو عليه من عدم العذاب في حقه، كما كان رسول الله - عليه السلام - يتعوذ من عذاب القبر مع العلم قطعًا أنه لا يعذب أصلًا. فما المانع أن يكون سؤال المغفرة للصبي أو السقط الذي نفخت فيه الروح والتعوذ لهما من عذاب القبر من باب طلب الثبات لهما إذا قيل بعموم فتنة القبر وعذاب القبر للصغير والكبير، وإذا قيل إن الأنبياء يتعوذون وهم معصومون منه ويستغفرون وقد غفر لهم من باب التعبد والاقتداء، فيقال إن في الصحابة من بشر بالجنة، وكان يتعوذ لنفسه، ويفرق فرقا شديدا من العذاب، وإن كان هؤلاء مكلفون، والصبية لم يكلفوا، فهو عمل صحابي، لا يعلم له مخالف، والسند إليه صحيح، واحتمال فعله على توقيف في المسألة وارد، وفعل ذلك اقتداء به عمل بأثر، كما يقتدي به من يدعو للصبي بأن يكون سلفا وفرطا وذخرا أو أجرا، وقبله استغفر النبي صلى الله عليه وسلم للأصناف الثمانية وفيهم الصغير، ويشمل الصغير حيا وميتا إلى ما شاء الله أن تكون بقية باقية من أمته صلوات ربي وسلامه عليه. وقد اختار المالكية صيغة دعاء جمعوا فيها بين سؤال الله أن يكون الصبي سلفا وفرطا وأجرا، وبين الاستغفار والاستعاذة له، كيف وأمامهم هو من روى استعاذة أبي هريرة للطفل من عذاب القبر، جاء في النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني ج1، ص595: "وأما الدعاء للطفل، قال ابن وهب، عن مالك، في (المجموعة): يسأل الله له الجنة: ويستعاذ له من النار، ونحو ذلك من الكلام، كما روي عن أبي هريرة. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يكبر الأولى فيقول ما ذكرنا من حمد الله، والصلاة على نبيه فقط، ثم يكبر الثانية ويقول: اللهم إنه عبدك، وابن عبدك، أنت خلقته، وأنت قبضته إليك، وأنت عالم بما كان عاملا به وصائرا إليه، اللهم جاف الأرض عن جنبيه، وأفسح له في قبره، وافتح أبواب السماء لروحه، وأبدله دارا خيرا من داره، وأعذه من عذاب القبر، وعذاب النار، وصيره إلى جنتك برحمتك، وألحقه بصالح سلف المسلمين، في كفالة إبراهيم، واجعله لنا ولأبويه سلفا وذخرا، وفرطا وأجرا. وفي موضع آخر: وثقل به موازينهم وأعظم به أجورهم ولا تحرمنا وإياهم أجره، ولا يفقتنا وإياهم بعده. تقول ذلك بإثر كل تكبيرة. ويدعو بعد الرابعة بما ذكر، على مذهب من يدعو بعد الرابعة". وفي الرسالة له ص58: "باب في الدعاء للطفل والصلاة عليه وغسله تثني على الله تبارك وتعالى وتصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم تقول اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك أنت خلقته ورزقته وأنت أمته وأنت تحييه اللهم فاجعله لوالديه سلفا وذخرا وفرطا وأجرا وثقل به موازينهم وأعظم به أجورهم ولا تحرمنا وإياهم أجره ولا تفتنا وإياهم بعده اللهم ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وعافه من فتنة القبر ومن عذاب جهنم تقول ذلك في كل تكبيرة وتقول بعد الرابعة اللهم اغفر لأسلافنا وأفراطنا ولمن سبقنا بالإيمان اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام واغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ثم تسلم". ​​​​​​​مما تقدم يعلم أن المقصود من حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ويدعى لوالديه}، الجمع لا قصر الدعاء في الجنازة للوالدين، فهي واو لمطلق الجمع لا للمغايرة، والدليل قوله وفعله، وفعل أصحابه من بعده، ونص كثير من أهل العلم عليه، وأن الدعاء له ليس فيه صيغة مخصوصة، بل الدعاء للصغير كالكبير كما قال أهل العلم، إلا أنه يزاد الدعاء لوالديه معه، والله أعلم.

الأربعاء، 14 يوليو 2021

تحصيل المنفعة في أحوال نفع الرقى والأدوية:

تحصيل المنفعة في أحوال نفع الرقى والأدوية: كثيرا ما يتناول الإنسان الدواء أو يرقي نفسه امتثالا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتداوي، وقد يجد أثر الدواء عاجلا، وقد يتأخر الشفاء، وقد لا يشفى، وقد يرتاب بعض الناس في تأثير الرقية الشرعية حين لا يجد أثرها عاجلا، أو يظن بالله الظنون، فيتبادر إلى ذهنه أن رقيته هذه لم يكن لها تأثير، وينسى أنه قد يكون السبب، أو يتناسى أن أفعال الله عز وجل كلها حكمة، أو أنه لو لم يستعمل الرقية لربما استفحل الداء أكثر، أو زادت حدة الأعراض، وسرعان ما يتسرب التسخط على أقدار الله عز وجل إليه, أسر ذلك أو أعلنه، والله عز وجل لطيف بعباده. والله عز وجل أطلعنا أن لتأثير الدواء الحسي عوامل وأسباب وأحوال قد تجعله فاعلا، وقد تبطئ من مفعوله، وقد لا يكون له تأثيرا، أو يختلف تأثيره من مريض إلى آخر، مع أن الدواء هو الدواء، والكمية هي الكمية، فبدلا من التسخط، لماذا لا نستلهم العبرة بما أطلعنا الله عليه عما غاب عنا؟ ولقد أنبأنا النبي صلى الله عليه وسلم وحي الله إليه بما لا يدع مجالا للظن بأحوال نفع التداوي، ، ومنهالتداوي بالرقية، وهذا كلام بعض أهل العلم في هذه الأحوال للتداوي والرقية. -- المسألة الأولى: في أنواع الطب، وأن معرفة طبائع الأمراض وأسبابها تعين على اختيار الدواء الأنسب: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري في شرحه لكتاب الطب من صحيح البخاري: والطب نوعان : طب جسد وهو المراد هنا ، وطب قلب ومعالجته خاصة بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام عن ربه سبحانه و - تعالى - . وأما طب الجسد فمنه ما جاء في المنقول عنه - صلى الله عليه وسلم - ومنه ما جاء عن غيره ، وغالبه راجع إلى التجربة . ثم هو نوعان : نوع لا يحتاج إلى فكر ونظر بل فطر الله على معرفته الحيوانات ، مثل ما يدفع الجوع والعطش . ونوع يحتاج إلى الفكر والنظر كدفع ما يحدث في البدن مما يخرجه عن الاعتدال ، وهو إما إلى حرارة أو برودة ، وكل منهما إما إلى رطوبة ، أو يبوسة ، أو إلى ما يتركب منهما . وغالب ما يقاوم الواحد منهما بضده ، والدفع قد يقع من خارج البدن وقد يقع من داخله وهو أعسرهما . والطريق إلى معرفته بتحقق السبب والعلامة ، فالطبيب الحاذق هو الذي يسعى في تفريق ما يضر بالبدن جمعه أو عكسه ، وفي تنقيص ما يضر بالبدن زيادته أو عكسه ، ومدار ذلك على ثلاثة أشياء : حفظ الصحة ، والاحتماء عن المؤذي ، واستفراغ المادة الفاسدة . وقد أشير إلى الثلاثة في القرآن : فالأول من قوله - تعالى - فمن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وذلك أن السفر مظنة النصب وهو من مغيرات الصحة ، فإذا وقع فيه الصيام ازداد فأبيح الفطر إبقاء على الجسد . وكذا القول في المرض الثاني وهو الحمية من قوله - تعالى - : ولا تقتلوا أنفسكم فإنه استنبط منه جواز التيمم عند خوف استعمال الماء البارد . والثالث من قوله - تعالى - : أو به أذى من رأسه ففدية فإنه أشير بذلك إلى جواز حلق الرأس الذي منع منه المحرم لاستفراغ الأذى الحاصل من البخار المحتقن في الرأس . ا.ه وجملة علوم الطب لا تخرج عن هذا، قديما أو حديثا، وهذا الذي ذكره الحافظ في الفتح أورده ابن القيم في بداية كتاب الطب النبوي مفصلا في فصل عقده لذلك. -- المسألة الثانية, في صفة التداوي، ومعنى "ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء"، وفي ما لا شفاء منه من الأدواء، وأن الأدوية لا تؤثر بذاتها بل هي أسباب تؤثر بإذن الله ذلك وأنه قد يكون في المتطبب مانع يمنع حصول الشفاء: روى البخاري رحمه الله في صحيحه في باب ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء 5354 حدثنا محمد بن المثنى حدثنا أبو أحمد الزبيري حدثنا عمر بن سعيد بن أبي حسين قال حدثني عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء قال ابن القيم في الطب النبوي: فقد تضمَّنت هذه الأحاديثُ إثبات الأسباب والمسبِّبات، وإبطالَ قولِ مَن أنكرها، ويجوزُ أن يكون قوله((لكل داءٍ دواء))، على عمومه حتى يتناول الأدواءَ القاتِلة، والأدواء التي لا يُمكن لطبيب أن يُبرئها، ويكون الله عَزَّ وجَلَّ قد جعل لها أدويةً تُبرئها، ولكن طَوَى عِلمَها عن البَشَر، ولم يجعل لهم إليه سبيلاً، لأنه لا عِلم للخلق إلا ما علَّمهم الله، ولهذا علَّق النبي صلى الله عليه وسلم الشِّفاءَ على مصادفة الدواء لِلداء، فإنه لا شيءَ من المخلوقات إلا له ضِدّ، وكلُّ داء له ضد من الدواء يعالَج بضدِّه، فعلَّق النبيصلى الله عليه وسلم البُرءَ بموافقة الداء للدواء، وهذا قدرٌ زائدٌ على مجرد وجوده، فإنَّ الدواء متى جاوز درجة الداء في الكيفية، أو زاد في الكمية على ما ينبغي، نَقَلَه إلى داء آخر، ومتى قصر عنها لم يَفِ بمقاومته، وكان العلاج قاصراً، ومتى لم يقع المُداوِي على الدواء، أو لم يقع الدواء على الداء، لم يحصُل الشفاء، ومتى لم يكن الزمان صالحاً لذلك الدواء، لم ينفع، ومتى كان البدنُ غيرَ قابل له، أو القوةُ عاجزةً عن حمله، أو ثَمَّ مانعٌ يمنعُ من تأثيره، لم يحصل البُرء لعدم المصادفة، ومتى تمت المصادفة حصلَ البرءُ بإذن الله ولا بُدَّ، وهذا أحسنُ المحملَيْن في الحديث. ا.ه فهذه أمور تتحقق بها موافقة الدواء للداء: 1.الكمية, وهي بتعبير العصر الحاضر الجرع. 2. الكيفية، ويدخل فيها طريقة إيصال الدواء، وطريقة تناوله 3. التوفيق للدواء الناجع، فالأدوية وإن كانت لمرض واحد، يختلف تأثيرهاقوة وضعفا، وبحسب شدة المرض. 4. موافقة هذا الدواء للداء, فلا يمنع مانع من وصوله إليه.5. زمن التداوي, ويدخل فيه: أوقات تناول الدواء، والعوامل الزمنية التي تؤثر في فاعلية الدواء. 6. أن يقبل الجسم الدواء فلا يرفضه. 7. قد يقبل الجسم الدواء، ويمنع من تأثيره مانع. 8. قدرة الجسم على تحمل الدواء. وكل هذا يطول تفصيله في علم الطب، وأوجزه وحي الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأوجز عبارة, {فإذا أصيب دواء الداء}. والأحاديث التي عناها ابن القيم رحمه الله هي الأحاديث التي ورد فيها الأمر بالتداوي وأن الله عز وجل ما أنزل داء إلا أنزل له شفاء، وهذا زيادة بيان من كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله في بيان تلك الأحوال مستنبطة من سائر روايات الحديث.. قال الحافظ في الفتح: قوله : ( إلا أنزل له شفاء ) في رواية طلحة بن عمرو من الزيادة في أول الحديث يا أيها الناس تداووا " ووقع في رواية طارق بن شهاب عن ابن مسعود رفعه إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء فتداووا وأخرجه النسائي وصححه ابن حبان والحاكم ، ونحوه للطحاوي وأبي نعيم من حديث ابن عباس ، ولأحمد عن أنس إن الله حيث خلق الداء خلق الدواء ، فتداووا وفي حديث أسامة بن شريك " تداووا يا عباد الله ، فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء ، إلا داء واحدا الهرم " أخرجه أحمد والبخاري في " الأدب المفرد " والأربعة وصححه الترمذي وابن خزيمة والحاكم ، وفي لفظ إلا السام بمهملة مخففة يعني الموت . ووقع في رواية أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود نحو حديث الباب في آخره " علمه من علمه وجهله من جهله " أخرجه النسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم . ولمسلم عن جابر رفعه لكل داء دواء ، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله - تعالى - ولأبي داود من حديث أبي الدرداء رفعه إن الله جعل لكل داء دواء فتداووا ، ولا تداووا بحرام " وفي مجموع هذه الألفاظ ما يعرف منه المراد بالإنزال في حديث الباب وهو إنزال علم ذلك على لسان الملك للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا ، أو عبر بالإنزال عن التقدير . وفيها التقييد بالحلال فلا يجوز التداوي بالحرام . وفي حديث جابر منها الإشارة إلى أن الشفاء متوقف على الإصابة بإذن الله ، وذلك أن الدواء قد يحصل معه مجاوزة الحد في الكيفية أو الكمية فلا ينجع ، بل ربما أحدث داء آخر . وفي حديث ابن مسعود الإشارة إلى أن بعض الأدوية لا يعلمها كل أحد ، وفيها كلها إثبات الأسباب ، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله لمن اعتقد أنها بإذن الله وبتقديره ، وأنها لا تنجع بذواتها بل بما قدره الله - تعالى - فيها ، وأن الدواء قد ينقلب داء إذا قدر الله ذلك ، وإليه الإشارة بقوله في حديث جابر " بإذن الله " فمدار ذلك كله على تقدير الله وإرادته . والتداوي لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع الجوع والعطش بالأكل والشرب ، وكذلك تجنب المهلكات والدعاء بطلب العافية ودفع المضار وغير ذلك ، وسيأتي مزيد لهذا البحث في " باب الرقية " إن شاء الله - تعالى - . ويدخل في عمومها أيضا الداء القاتل الذي اعترف حذاق الأطباء بأن لا دواء له ، وأقروا بالعجز عن مداواته ، ولعل الإشارة في حديث ابن مسعود بقوله وجهله من جهله إلى ذلك فتكون باقية على عمومها ، ويحتمل أن يكون في الخبر حذف تقديره : لم ينزل داء يقبل الدواء إلا أنزل له شفاء ، والأول أولى . ومما يدخل في قوله جهله من جهله " ما يقع لبعض المرضى أنه يتداوى من داء بدواء فيبرأ ثم يعتريه ذلك الداء بعينه فيتداوى بذلك الدواء بعينه فلا ينجع ، والسبب في ذلك الجهل بصفة من صفات الدواء فرب مرضين تشابها ويكون أحدهما مركبا لا ينجع فيه ما ينجع في الذي ليس مركبا فيقع الخطأ من هنا ، وقد يكون متحدا لكن يريد الله أن لا ينجع فلا ينجع ، ومن هنا تخضع رقاب الأطباء ، وقد أخرج ابن ماجه من طريق أبي خزامة وهو بمعجمة وزاي خفيفة " عن أبيه قال : قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا ؟ قال : هي من قدر الله - تعالى - " والحاصل أن حصول الشفاء بالدواء إنما هو كدفع الجوع بالأكل والعطش بالشرب ، وهو ينجع في ذلك في الغالب ، وقد يتخلف لمانع والله أعلم. ثم الداء والدواء كلاهما بفتح الدال وبالمد ، وحكي كسر دال الدواء . واستثناء الموت في حديث أسامة بن شريك واضح ، ولعل التقدير إلا داء الموت ، أي المرض الذي قدر على صاحبه الموت . واستثناء الهرم في الرواية الأخرى إما لأنه جعله شبيها بالموت والجامع بينهما نقص الصحة ، أو لقربه من الموت وإفضائه إليه . ويحتمل أن يكون الاستثناء منقطعا والتقدير : لكن الهرم لا دواء له ، والله أعلم . وما يذكر في الأدوية الحسية يذكر في الرقى والأدعية، ولذا قرن ذكرهما في الحديث الذي مر ذكره, {قال : قلت يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به هل يرد من قدر الله شيئا ؟ قال : هي من قدر الله - تعالى - " وقال ابن القيم رحمه الله في الجواب الكافي(1/15): وَالْأَدْعِيَةُ وَالتَّعَوُّذَا تُ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ، وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ، لَا بِحَدِّهِ فَقَطْ، فَمَتَى كَانَ السِّلَاحُ سِلَاحًا تَامًّا لَا آفَةَ بِهِ، وَالسَّاعِدُ سَاعِدُ قَوِيٍّ، وَالْمَانِعُ مَفْقُودٌ؛ حَصَلَتْ بِهِ النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ، وَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ، فَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ صَالِحٍ، أَوِ الدَّاعِي لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فِي الدُّعَاءِ، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَانِعٌ مِنَ الْإِجَابَةِ، لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ. ولا يخفى أن الرقآ أدعية يتوسل إلى الله بها لحصول المقصود. وقال أيضا رحمه الله في المصدر نفسه: وأمراضُ الأبدان على وِزَانِ أمراض القلوب، وما جعل الله للقلب مرضاً إلا جعل له شفاءً بضده، فإنْ علمه صاحبُ الداء واستعمله، وصادف داءَ قلبِه، أبرأه بإذن الله تعالى. وقال أيضا رحمه الله في الطب النبوي (1/126): وَمَنْ جَرَّبَ هَذِهِ الدَّعَوَاتِ وَالْعُوَذَ، عَرَفَ مِقْدَارَ مَنْفَعَتِهَا، وَشِدَّةَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، وَهِيَ تَمْنَعُ وُصُولَ أَثَرِ الْعَائِنِ، وَتَدْفَعُهُ بَعْدَ وُصُولِهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ إِيمَانِ قَائِلِهَا، وَقُوَّةِ نَفْسِهِ، وَاسْتِعْدَادِه ِ، وَقُوَّةِ تَوَكُّلِهِ وَثَبَاتِ قَلْبِهِ، فَإِنَّهَا سِلَاحٌ وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ. وقال أيضا رحمه الله في الجواب الكافي (1/9): وَلَوْ أَحْسَنَ الْعَبْدُ التَّدَاوِيَ بِالْفَاتِحَةِ، لَرَأَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي الشِّفَاءِ. وَمَكَثْتُ بِمَكَّةَ مُدَّةً يَعْتَرِينِي أَدْوَاءٌ وَلَا أَجِدُ طَبِيبًا وَلَا دَوَاءً، فَكُنْتُ أُعَالِجُ نَفْسِي بِالْفَاتِحَةِ، فَأَرَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا، فَكُنْتُ أَصِفُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشْتَكِي أَلَمًا، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَبْرَأُ سَرِيعًا. وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَذْكَارَ وَالْآيَاتِ وَالْأَدْعِيَةَ الَّتِي يُسْتَشْفَى بِهَا وَيُرْقَى بِهَا، هِيَ فِي نَفْسِهَا نَافِعَةٌ شَافِيَةٌ، وَلَكِنْ تَسْتَدْعِي قَبُولَ الْمَحِلِّ، وَقُوَّةَ هِمَّةِ الْفَاعِلِ وَتَأْثِيرَهُ، فَمَتَى تَخَلَّفَ الشِّفَاءُ كَانَ لِضَعْفِ تَأْثِيرِ الْفَاعِلِ، أَوْ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمُنْفَعِلِ، أَوْ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ فِيهِ يَمْنَعُ أَنْ يَنْجَعَ فِيهِ الدَّوَاءُ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْوَاءِ الْحِسِّيَّةِ، فَإِنَّ عَدَمَ تَأْثِيرِهَا قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ الطَّبِيعَةِ لِذَلِكَ الدَّوَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ يَمْنَعُ مِنَ اقْتِضَائِهِ أَثَرَهُ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ إِذَا أَخَذَتِ الدَّوَاءَ بِقَبُولٍ تَامٍّ كَانَ انْتِفَاعُ الْبَدَنِ بِهِ بِحَسْبِ ذَلِكَ الْقَبُولِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ إِذَا أَخَذَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذَ بِقَبُولٍ تَامٍّ، وَكَانَ لِلرَّاقِي نَفْسٌ فَعَّالَةٌ وَهِمَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ. وَكَذَلِكَ الدُّعَاءُ، فَإِنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ، وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَخَلَّفُ أَثَرُهُ عَنْهُ، إِمَّا لِضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ - بِأَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ - وَإِمَّا لِضَعْفِ الْقَلْبِ وَعَدَمِ إِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ وَقْتَ الدُّعَاءِ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْسِ الرِّخْوِ جِدًّا، فَإِنَّ السَّهْمَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجًا ضَعِيفًا، وَإِمَّا لِحُصُولِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِجَابَةِ: مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ، وَالظُّلْمِ، وَرَيْنِ الذُّنُوبِ عَلَى الْقُلُوبِ، وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ وَالشَّهْوَةِ وَاللَّهْوِ، وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهَا. كَمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ» . «وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ» فَهَذَا دَوَاءٌ نَافِعٌ مُزِيلٌ لِلدَّاءِ، وَلَكِنَّ غَفْلَةَ الْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ تُبْطِلُ قُوَّتَهُ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْحَرَامِ يُبْطِلُ قُوَّتَهُ وَيُضْعِفُهَا. كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَا أَيُّهَا النَّاسُ،إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [الْمُؤْمِنُونَ: 51] وَقَالَ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 172] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟» . وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ: أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَاءٌ، فَخَرَجُوا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنْ أَخْبِرْهُمْ: إِنَّكُمْ تَخْرُجُونَ إِلَى الصَّعِيدِ بِأَبْدَانٍ نَجِسَةٍ، وَتَرْفَعُونَ إِلَيَّ أَكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِهَا الدِّمَاءَ، وَمَلَأْتُمْ بِهَا بُيُوتَكُمْ مِنَ الْحَرَامِ، الْآنَ حِينَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ؟ وَلَنْ تَزْدَادُوا مِنِّي إِلَّا بُعْدًا. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَكْفِي مِنَ الدُّعَاءِ مَعَ الْبِرِّ، مَا يَكْفِي الطَّعَامَ مِنَ الْمِلْحِ. وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: إن تأثير الإنسان في قراءته على حسب إخلاصه ونيته، والذي ينبغي للقراء الذين ينفع الله بهم أن يخلصوا النية لله عز وجل، وأن ينووا بذلك- أي: بقراءتهم على المرضى- التقرب إلى الله، والإحسان إلى عباد الله، حتى ينفع الله بهم، ويجعل في قراءتهم خيراً وبركة. فتاوى نور على الدرب (/4/2. فأياك ونفسي الظالمة من التسخط، وانتظار الفرج عبادة كما جاء في بعض الآثار عن بعض السلف، والله أعلم.

الثلاثاء، 29 يونيو 2021

تعقيبا على مقال, (الصلابي يُجيب.. تساؤلات بشأن حديث لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة):

بسم الله الرحمن الرحيم. تعقيبا على مقال, (الصلابي يُجيب.. تساؤلات بشأن حديث لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) توطئة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فقد قال د. علي الصلابي: "حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً).. هل يمنع من تولي المرأة المناصب السيادية في الدول؟ – ما أسباب وسياقات ورود الحديث النبوي الشريف؟" د. علي الصلابي يذكر لفظ المرأة بلا قيد، ولفظة الدول بلا قيد، وكأنه يتناول لفظ الدول بلا قيد عنده تولي المرأة المسلمة بعض المناصب في الدول غير المسلمة، هذا ما يحتمله عدم تقييد لفظة الدول، ، وقد يكون يحتمل عدم ذكر قيد للفظة المرأة حصول غير المسلمات على مقاعد برلمانية في الدول المسلمة، من باب التعددية في الدولة الحديثة، وما دام المقام مقام تبيان حكم شرعي، فالأولى تحرير العبارة، ومراعاة القيود والأحوال في بيان الحكم، ربما يمثل في الذهن بهذه الإطلاقات وصول نائبات مسلمات للكونجرس الأمريكي، وليت شعري، ما الذي استطاعت النائبات المسلمات تقديمه للإسلام عند وصولهن لمقاعد الكونجرس الأمريكي، وعند قيام إحداهن بانتقاد مساعدة الولايات المتحدة لدولة اليهود تعرضت لانتقادات لاذعة وصلت لمطالبتها من قبل الرئيس الأمريكي بالاستقالة، وما الذي تغير عند الفتوى بوجوب دخول المسلمين أو العرب للتصويت في الانتخابات الأمريكية؟، وما الذي سيفيده دخول الرجال غير المسلمين في الدولة الحديثة المسلمة فضلا عن النساء للإسلام؟ هل سيحافظ هذا على الترابط الإسلامي متينا؟. ومع هذا، فلنقل إن الألف واللام في اللفظين غير المقيدين هي للعهد، يعني: المرأة المسلمة، والدول المسلمة، حتى لا تنتقد هذه السطور بالحكم على النوايا بغير قرينة، وتحميل اللفظ ما لا يحتمل، مع أن ظاهر اللفظ يقتضي ما سبق من الاحتمالات. قال د. الصلابي: "وردت تساؤلات في الصورة المرفقة تتهكم على ما جاء في الخطاب القرآني والحديث النبوي حول أهلية المرأة لتولي الحكم ومساهمتها ككائن اجتماعي له دوره وكيانه وأداؤه الذي ينافس الرجال ويتفوق عليهم أحياناً، فقد وضع أحدهم صورة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وكتبوا تحتها ب- استهزاء وتهكم – الحديث النبوي الشريف: (ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة). وقد وضع عدة احتمالات يُكذب فيها الحديث الذي رواه البخاري وغيره، ويخير القارئ بين صدقيته واختيارات الشعب الألماني الذين أعادوا انتخاب ميركل عدة دورات، فهؤلاء المتهكمون عدّوا ألمانيا دولة فاشلة ومقام ميركل هو مقام لا يبلغه إلا الرجال فقط". إذن، فسبب كتابة هذه المقالة، أو جواب هذه التساؤلات الشرعية صورة من متهكم، ذلك المتهكم الذي لا يدرى وزنه العلمي، ولا قوة تأثيره في الوسط العام. والحق أن القضية, قضية تعارض هذا النص الحديثي مع تولي المرأة للمناصب السيادية قديمة قبل صورة هذا المتهكم، فهي مطروحة عند محمد الأشقر، والغزالي المعاصران، وقد سبقا الصلابي إلى هذا التأويل للحديث. أيها القارئ الكريم هذا ما ذكره د. الصلابي من الأسباب التي من أجلها رد على ذلك المتهكم بتوجيه الحديث توجيها يخالف توجيهات المتقدمين والمتأخرين من علماء الحديث خاصة، وعلماء الشريعة عامة، مقدمات تتمثل في تهكم المتهكمين الذين لم يخبرنا د. الصلابي عن وزنهم العلمي، وقوة تأثيرهم، مقدمات تتمثل في إظهار الإسلام بمظهر التخلف، مقدمات تتمثل في إثارة شبهة تحتاج إلى جواب حول نص متين من نصوص شريعتنا المطهرة، ، وهو الحديث المذكور، لا لشيء إلا لأن هذا الحديث يتعارض مع مبادئ الدولة الحديثة، هذه مقدمات نريد أن نعلم سلامتها فبسلامتها مع المنهج العلمي السليم في البحث تكون سلامة النتائج. فهل يضر المرأة ألا تتولى المناصب السيادية في الدولة؟ وهل هناك تلازم أو هناك علاقة طردية بين تخلف المجتمعات أو الشريعة وبين تبوؤ المرأة المناصب السيادية فيها؟ وهل يلزم من تهكم المتهكم على نصوص الشريعة وجود نقص في الشريعة يحتاج ترقيعه إلى رد أو تأويل للنصوص حتى لا يظهر الدين في مظهر عدم الحضارة؟ وقد تعرف حقيقة الأمور بنظائرها, وقد يستدل على نقضها بنقيضها، ومما يستدل به من نظائر أن يقال: لو نادت قيم ستسمى حضارية لدولة حديثة في زمن ما بقوامة النساء في الأسرة فضلا عن غيرها، أو بتساوي الرجل والمرأة في القوامة، أو أن القوامة للأعلى شهادة، أو راتبا، أو درجة وظيفية، وعد من خالف ذلك متخلفا، فماذا سنصنع بقول الله تعالى: {الرجال قوامون على النساء}؟! ذهب د. الصلابي في مبحثه الثامن في كتابه (البرلمان والدولة الحديثة المسلمة) إلى تخصيص هذه الآية بالأسرة، فقال: "ويقول المودودي: إن القرآن لم يقيد قوامة الرجال على النساء بالبيوت.. وأن قوامية الدولة أخطر شأنا وأكثر مسؤولية من قوامية البيت، راداً بذلك على القائلين بأن هذا الحكم يتعلق بالحياة العائلية َل بسياسة الدولة". فالمودودي كما نقل عنه يرد على من خصص الآية بالأسرة بأن الآية عامة، لكن الدولة الحديثة التي لا بد للشريعة أن تستوعبها عند المتحمسين لها لا يتفق مع قيمها القول بتعميم الآية، فها هي تفرض على د. الصلابي البحث عن تأويل لهذه الآية الكريمة, ، فبعد أن نقل كلام المودودي تعقبه فقال: "لم يرَ علماء السياسة الشرعية قبل المودودي سنداً لمنع المرأة من الوَلاية العامة إجمالا، إذ أن القوامة، إذا كان معناها الرئاسة بإطلاق، كانت نتيجة منع المرأة من الرئاسة في أي مستوى من المستويات حتى ولو كانت مدرسة أو حضانة أطفال، أو إشرافاً على مصحة أو إدارة متجر أو مصنع، ما وجد رجل في تلك المؤسسات، وهذا مخالف لمقاصد الشريعة ولم يذهب إليه فيما أعلم علماء اإلسلامم المعتبرن في القدامى والمحدثين ومفسري القرآن الكريم" ويبدو مصطلح علماء السياسة الشرعية عند د. الصلابي ضيق جدا، أو أنه انتقائي, يشمل من يتفق معه فكريا في طريقة تناول هذه المسائل الحساسة، أو أنه لم يطلع على كتب السياسة الشرعية التي ذكرت شروط الولاية العامة، مع أنه قدم في كتابه أن العلماء لا يرون بتبوؤ المرأة للولاية العامة، وعلى أي حال، فقد خالف د. الصلابي المودودي فارتضى أن تكون القوامة في الآية خاصةبالأسرة، مع أن الآية جاءت بلفظ الجمع المحلى بأل التي للجنس، {الرجال قوامون على النساء}، بمعنى أفضلية جنس الرجال على جنس النساء، بدون ذكر تخصيص الأسرة، وأفضلية جنس الرجال على جنس النساء لا تعني وجود أفراد من جنس النساء هن أفضل من كثير من الرجال، وبذا يعلم أن هذه الأفضلية لا تحط من قدرهن، ولكن المقصود أن هناك سمات عامة في جبلة جنس الرجل أهلته للقوامة، وإن كان هناك فضليات من النساء، فلما افتقد جنس النساء هذه السمات العامة بمن فيهن الفضليات، كانت القوامة بعدل الله وحكمته وعلمه للرجل دون المرأة. ولو أن د. علي الصلابي جمع إلى الآية الكريمة حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري وغيره واللفظ للبخاري من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كَمَلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرانَ، وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وفَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعامِ}. جاء في تحفة الأحوذي للمباركفوري: "[1834] قَوْلُهُ (كَمُلَ) بِتَثْلِيثِ الْمِيمِ قَالَ فِي الْقَامُوسِ كَمَلَ كَنَصَرَ وَكَرُمَ وَعَلِمَ كَمَالًا وَكُمُولًا انْتَهَى أَيْ صَارَ كَامِلًا أَوْ بَلَغَ مَبْلَغَ الْكَمَالِ قَوْلُهُ (مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ) أَيْ كَثِيرُونَ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْجِنْسِ حَتَّى صَارُوا رُسُلًا وَأَنْبِيَاءَ وَخُلَفَاءَ وَعُلَمَاءَ وَأَوْلِيَاءَ (وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ) وَالتَّقْدِيرُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُنَّ". فقد وصف الشرع مريم بالكمال، في هذا الحديث، لكن، إياك أن تحفل بالحديث وحده معزولا عن قول الله عز وجل في قصتها بلسان أمها: {رب إني وضعتها، أنثى، والله أعلم بما وضعت، وليس الذكر كالأنثى}، فكمالها لم يغير من أنثويتها، ولم يعطها تلك السمات العامة التي فضل بها جنس الرجال، ولذا قالت أمها كما حكى الله: {وليس الذكر كالأنثى}. وتأول الصلابي مستدلا لخصوص القوامة بالأسرة بجملة, {وبما أنفقوا من أموالهم}، متجاوزا ما قبلها, {بما فضل الله بعضهم على بعض}، فيا ليته قرأ في تفسير القرطبي ليجد في تفسير الآية الكريمة ما نصه: "فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ﴾ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، أَيْ يَقُومُونَ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ وَالذَّبِّ عَنْهُنَّ، وَأَيْضًا فَإِنَّ فِيهِمُ الْحُكَّامَ وَالْأُمَرَاءَ وَمَنْ يَغْزُو، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي النِّسَاءِ. يُقَالُ: قِوَامٌ وَقِيَمٌ". فهذا القرطبي سبق المودودي في تقرير عموم الأفضلية لجنس الرجال على جنس النساء، فهذا الذي كان السبب في اختصاص الرجال بالقوامة. ثم فرع د. الصلابي على تعميم الأفضلية بسبب اختصاص الرجال بالقوامة لوازم تبطل هذا القول، وهو, أن التعميم يبطل ولاية المرأة فيما يختص بالنساء، ولم يقل بهذا أحد، وهذا اللازم ليس بلازم، فالكلام على المناصب السيادية في الدولة التي يكون فيها تدبير أمر المسلمين ذكورا وإناثا، فإذا كان الأمر خاصا بالنساء، فلا يرد الإشكال هنا. وهذا التأويل كله بسبب ويلات الدولة الحديثة لكي تطاوعها نصوص الشريعة. وإذا كانت آية القوامة تحتمل التخصيص بالأسرة، فكيف ستصنع ولاية المرأة العامة ومشاركتها في المناصب السيادية كالبرلمانات في الدولة الحديثة بقول الله تعالى: {وقرن في بيوتكن}، فإن الوفود السياسية بما فيها من بروتوكولات، والزيارات الدولية وما يصحبها من أحكام السفر، وتعاهد الرعية في أقطار الدولة، كل هذا لا يمكن القيام به مع آية القرار في سورة الأحزاب؟، فإن قيل القرار عام، فعليهم الجمع بين أصل قرار المرأة المأمور به في آية الأحزاب، وبين كيفية ممارسة المرأة لدورها السيادي في الدولة الحديثة، وإن كانت خاصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم كما لعلهم يتأولون فذلك يقتضي حرمان نساء فضليات من حقوقهن السياسية بحسب قيم الدولة الحديثة، وحصول من هن أقل منزلة منهن على هذه الحقوق، وبذا لا تتحقق العدالة بحسب منظور الدولة الحديثة، ولعلهم يقولون: هذا قبل الدولة الحديثة، فلا يرد هنا، وكل دولة تحاكم بحسب معاييرها وقيمها، فيقال: هذا يصح في مشروع بشري قاصر، ولا يقال في شأن شرعي رباني، فإن كانت مشاركة المرأة في المناصب السيادية خير، ويتفق مع المرأة بطبيعتها الجبلية، لكان الشرع بينه بيانا شافيا، ولو بينه بيانا شافيا لكان من أسعد الناس به أولئك الفضليات، أو بعضهن، أو إحداهن، فإما أن يكون الشرع أهمله فما لنا نستدرك عليه؟، وإن كان من أمور الدنيا والله بكل شيء محيط عليم، فلماذا يشرع للمرأة القرار وهو لا يتفق مع تولي المناصب السيادية، وبالذات في معايير الدولة الحديثة كما سبق ذكره؟. وقد كان، فقد نقل د. الصلابي تأويل من تأولوا هذا النص وارتضاه، فكما أن الأمر بالقوامة مخصوص بالأسرة، فآية القرار مخصوصة بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل سياقي أتى بعدها وهو {واذكرن ما يتلى في بيوتكن}، الآية، وجاء التخصيص باتحاد الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم، فلا فرق عندهم بين أمر مطلق، وأمر ذكر معه القيد، وبين ما الأصل فيه القدوة، وبين ما دل على خصوصيته دليل، والعلة في التأويل هي العلة,مخالفة قيم الدولة الحديثة! وعلماء الشريعة لم يكونوا يبحثون عن تأويل إلا حين ظهور تعارض بين نصين، وعدم إمكان الجمع الصحيح بينهما بحال من الأحوال، والغرض اتفاق نصوص الشريعة، بما أن مصدرها واحد، وهو الوحي، فلا يمكن أن يكون هناك تعارض حقيقي بينها، فهو مقصد حميد، وسيلته حميدة، أما التأويل عند المتحمسين للدولة الحديثة، فأنه يكون لتطويع النصوص لئلا يكون هناك تعارض بين النصوص وبين قيم الدولة الحديثة، حتى لا تظهر الشريعة بمظهر التخلف المثير للسخرية، فتنقض نصوص وأحكام الشريعة من أجل المحافظة على الشريعة، والنتيجة تمييع وتضييع.، وارتباك وتخبط في تطبيق القواعد، والتعامل مع النصوص، قال القرطبي رحمه الله في تفسير آية القرار: "الثَّانِيَةُ- مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْأَمْرُ بِلُزُومِ الْبَيْتِ، وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِنِسَاءِ النَّبِيِّ ﷺ فَقَدْ دَخَلَ غَيْرُهُنَّ فِيهِ بِالْمَعْنَى. هَذَا لَوْ لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يَخُصُّ جَمِيعَ النِّسَاءِ، كَيْفَ وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِلُزُومِ النِّسَاءِ بُيُوتَهَنَّ، وَالِانْكِفَافِ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْهَا إِلَّا لِضَرُورَةٍ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نِسَاءَ النَّبِيِّ ﷺ بِمُلَازَمَةِ بُيُوتِهِنَّ، وَخَاطَبَهُنَّ بِذَلِكَ تَشْرِيفًا لَهُنَّ". إلى آخر كلامه رحمه الله. وذكر ابن كثير في تفسير الآيات 32-34، أن الخطاب عام فقال: "هَذِهِ آدَابٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا نِسَاءَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِسَاءُ الأمة تبع لهن في ذلك". إلى أن قال: وقوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ أي الزمن فَلَا تَخْرُجْنَ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، وَمِنِ الْحَوَائِجِ الشَّرْعِيَّةِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ بِشَرْطِهِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ وَلْيَخْرُجْنَ وَهُنَّ تَفِلَاتٌ» وَفِي رِوَايَةٍ «وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ» وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ الْكَلْبِيُّ رَوْحُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ثِقَةٌ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جِئْنَ النِّسَاءُ إِلَى رَسُولِ الله فَقُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِالْفَضْلِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا لَنَا عَمَلٌ نُدْرِكُ بِهِ عَمَلَ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من قعدت- أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا- مِنْكُنَّ فِي بَيْتِهَا، فَإِنَّهَا تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى» ثُمَّ قَالَ: لَا نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ ثَابِتٍ إِلَّا رَوْحَ بْنَ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ. وَقَالَ الْبَزَّارُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا محمد المثنى، حدثني عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ مُوَرِّقٍ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنِ الْمَرْأَةَ عَوْرَةٌ، فَإِذَا خَرَجَتِ اسْتَشْرَفَهَا الشَّيْطَانُ وَأَقْرَبُ مَا تَكُونُ بِرَوْحَةِ ربها وهي في قعر بيتها» رواه التِّرْمِذِيُّ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ بِهِ نَحْوَهُ. وَرَوَى الْبَزَّارُ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ وَأَبُو دَاوُدَ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «صَلَاةُ الْمَرْأَةِ فِي مَخْدَعِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهَا، وَصَلَاتُهَا فِي بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِي حُجْرَتِهَا» وَهَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ. فيا ترى كيف سينسجم قربها من روحة ربها وهي في قعر بيتها مع ما تمليه عليها الدولة الحديثة من خروج ومشاركة في العملية السياسية؟! وإذا كانت الصلاة التي أجر الجماعة فيها أفضل من صلاة الفذ في حق المرأة بشروط، وصلاتها في بيته خير لها من صلاة الجماعة ولو كان مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بما هو دونها؟! وفي محاولة تأويل الآية لتوافق الدولة الحديثة في كتاب الصلابي حكاية إجماع يخالف مصطلح الإجماع وشروطه، واستعمال لمفهوم الموافقة فيما هو أبعد عن الموافقة، أما أدلته على جواز ذلك فعمومات لا دليل فيها على تولي المرأة للمناصب السيادية، وأما النصوص الخاصة, واضحة الدلالة، مما مر ذكره فهي التي يجب أن تأول لتوافق الدولة الحديثة. وإنما القصد هنا بيان أن هذا مسلك عام عند المتحمسين للدولة الحديثة مع نصوص كثيرة، وليس مع هذا النص الحديثي الذي كتب الصلابي مقاله حوله. قلنا: قد يستدل على حقيقة الأمور بنظائرها، وقد يستدل لنقضها بنقيضها، فلو اختلفت معايير دولة حداثية أخرى في زمننا أو في أزمنة بعده فنادت قيم ستسمى عند أهلها حضارية بتبادل الأدوار بين الرجل والمرأ, أي: بأمومة الرجل وأبوة المرأة، أو أن يكون على الرجل التربية وأعباء المنزل، والمرأة تكد وتعمل وتنفق على العائلة، لو وقع هذا وتمسك متمسك بالأصل الذي هو أصل الخلقة للجنسين، فهل ستنطبق عليه حقيقة التخلف إذا وافق الفطرة وخالف معايير تلك الدول؟ في ذلك الزمن وماذا سنصنع يومئذ بقول الله تعالى: {وليس الذكر كالأنثى}. ولا تعجب, فمما بلغه العقل البشري من أبحاث تمكن من تغيير طبيعة بعض الرجال هرمونيا وبما يمكن أن يتاح من وسائل تقنية تعينه على ذلك يمكن أن يظهروا بعض الرجال في صورة الأمومة لا حقيقتها، وقد وجدت مقدماته في عصرنا الحاضر، كما في المتحولين جنسيا والمناداة بحقوقهم، صورة من متهكم، وسط منظومة من الشبهات، ربما ألهبت الحماسة في بعض الغيورين على الإسلام فلجأوا لتأويل نصوص كثيرة في مسائل مشابهة لمسألة تولي المرأة للمناصب السيادية، فليست هذه المسألة فريدة في بابها في التعامل فيها مع النصوص بهذه الطريقة. قال الصلابي في مقاله: "قد تكلمنا في هذه المسألة الجدلية؛ أيّ دور المرأة في تولي المناصب السيادية في كتابنا “البرلمان في الدولة الحديثة المسلمة” (في المبحث الثامن، ص 217) وقد رددنا على من يقول بمنع المرأة من دخول البرلمان والانتخابات". ثم ذكر د. علي الصلابي الحديث، ووجه الحديث عنده على أنه مختص بالفرس, لأن الحديث ورد في معرض سؤال عنهم، فتكون ولاية بوران بنت كسرى علامة على زوال ملكهم خاصة. ولا بد أيها القارئ الكريم أن تعلم أنه حين يقوم الباحث بمعالجة مشكلة أن يكون متجردا فلا يجعل أفكاره المسبقة هي التي تقوده، بل سلامة مقدماته هي التي تقوده إلى النتائج إذا ما طبق منهج البحث العلمي الصحيح. وإليك إيها القارئ الكريم سرد هذه النقاط في حلقات، لبيان مسلك د. علي الصلابي في نقض الاستدلال بالحديث، وبيان ما إذا كان وافق الصواب، أو جانبه، أو أصاب بعضا، وأخطأ بعضا. وهذه حلقات تحاول فيها هذه الوريقات التماس الصواب في هذه المسألة، وذلك بتناول ما يلي: -- بعض البواعث التي دفعت الصلابي ومن وافقه لتأويل هذا النص. -- الفرق بين أهل العلم المختصين بالشريعة وبين الصلابي ومن وافقه في التعامل مع هذا النص بحسب القواعد الأصولية، دلالات هذا الفرق، وانسجامه مع البواعث والأفكار المسبقة التي انطلق منها د. علي الصلابي في الحكم على الحديث. -- قصة ملكة سبأ, سياقها القرآني، ومدى انسجام دلالته على تجويز تولي المرأة المناصب السيادية والدولة الحديثة المسلمة، وهل وفق د. علي الصلابي في توظيفه للاستدلال على جواز تولي المرأة للمناصب السيادية؟ الحلقة الأولى: البواعث على نقض الاستدلال بالحديث: د. علي الصلابي عنده أن مسألة دخول المرأة في المناصب العليا مسألة جدلية، ولا يبدوا أنه هنا حرر مصطلحاته، فإنه يخاطب العامي، والمتخصص, كدارس الفلسفة وعلم الكلام، ودارس الفقه، وكل هؤلاء يختلف مفهومهم لما هو جدلي، ولو أذن في استبدالها بمصطلح شرعي أقرب لموافقة الحال لكان التعبير بأنها خلافية أولى، لأن الجدلي يدخل فيه ما عليه دليل، وما ليس عليه دليل، وما يناقش بغية الحق، وما يكون فيه الجدل من أجل اللجاج والخصام، وما له ثمرة وفائدة في الواقع، وفرضيات قد لا يكون لها وجود إلا في التصور الذهني، فهذه المسألة بالمعنى الواسع الفضفاض يمكن أن يقال عنها خلافية لا جدلية، على الأقل في وقتنا الراهن، وإلا فحيثياتها عند أهل الاختصاص فيها تفصيل، بين ما فيه إجماع شائع، وبين ما فيه خلاف، وترك هذا التفصيل يفضي إلى عدم سلامة النتائج. وقد ناصر في هذه المسألة د. علي الصلابي القول بجواز دخول المرأة في هذه المناصب في كتابه (البرلمان في الدولة الحديثة المسلمة). وحتى لا يطول المقال أكثر مما هو عليه أترك لك أيها القارئ الكريم التأمل في تقديم الحداثة على الإسلام في عنوان الكتاب, فلماذا كان العنوان, (في الدولة الحديثة المسلمة)، ولم يكن (في الدولة المسلمة الحديثة)، وقد يبدو الأمر مجرد اتساع عبارة في اللغة العربية، وقد يكون صاحب العنوان لم يقصد إلى هذا التقديم والتأخير، لكن، إذا كان المقال في جواب إشكال يقرأه الناس بمختلف أصنافهم وانتماءاتهم الفكرية، فينبغي على أي أحد منا أن يراعي عباراته، وبالذات في المواضيع الحساسة، كموضوع الإسلام والحداثة، وفي سياق الجدل الكبير في مسألة الإسلام والحداثة، وتحديد نقاط الاتفاق والافتراق بينهما ينبغي على أي كاتب أن يراعي عباراته، فمن يقرأ عنوان الكاتب، -- وفيه تقديم الحداثة على الإسلام – تتبادر إلى ذهنه تساؤلات, هل مففهوم الدولة مما تناوله الإسلام أو أهمله؟ وهل الإسلام في ثبات أصوله وكماله وصلاحيته لكل زمان ومكان حدد الأطر العامة للدولة أم جعل ذلك لاجتهادات العقول؟ فيا ترى، هل وجدت الدولة الحديثة ولم يعرفها الإسلام وأقرها بعد ذلك، وهل تطبيق النصوص المحكمة، والنصوص المتشابهة التي ترد إلى المحكمة من نصوص الحكم في الإسلام تتعارض مع الدولة الحديثة أم توافقها، وإن كان ثمة فوارق فما نسبتها إلى المجموع الكلي العام للتوافق بينهما، وهل مسألة شكل الدولة التي هي من أشكال الحكم من مسائل الدين، أم من مسائل الدنيا، فإن كانت من مسائل الدنيا ف{أنتم أعلم بشؤون دنياكم}، وإن كانت من مسائل الدين, فهل هي من المسائل التوقيف، أم من المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد، وإذا كانت مسألة الحكم – وهنا مربط الفرس – من المسائل الشرعية، فهل يقر الإسلام الدولة الحديثة بما فيها من انقسام للسلطات، ورأي الأغلبية، وغير ذلك، وإذا كانت بعض مسائل الحكم اجتهادية ومنها شكل الدولة، فلماذا لم تصرح النصوص ولا كتب السياسة الشرعية والقضاء بذلك؟ وأهم البواعث المستقاة من سطور مقال الصلابي باعثان: الأول: مصادمة الحديث لما قرره في كتابه, (البرلمان والدولة الحديثة المسلمة): فافتراض الصلابي لوجود دولة حديثة مسلمة يطوع فيها الإسلام للنهج الحداثي الغربي ينسجم مع قوله أن مسألة تولي المرأة المناصب السيادية في الدولة، فالكاتب إذن متحمس مع موجة المتغير، وعادة ما يضطر المتحمسون من أمثال الكاتب إلى تطويع النصوص إذا ما صادمت أفكاره المسبقة، أو الهجمة الشرسة في الواقع حول ما هو بصدد بحثه، أو خشيته من ردود الأفعال، بينما المنهج العلمي الصحيح يكمن في تطبيق قواعد أهل العلم بالتخصص الشرعي مع النصوص، فلا ينبغي لنا أن ننسى إذا ما تناولنا مسألة شرعية بالبحث أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فهي ثابتة، وكذلك هي تستوعب ما يتماشى مع ثوابتها ونصوصها من التطورات وقواعد العلوم الشرعية المستقاة من النصوص ثابتة، وإنما الإشكال في تطبيق المجتهد كما سيأتي في بيان أقسام المسائل الشرعية، فينبغي أن يدرس الطارئ من المتطورات على وفق نصوصها، لا أن تطوع النصوص لتواكب المتغيرات، فالشريعة لا ترفض الحداثة بإطلاق، لكنها لا تستقبل إلا ما كان موافقا لأصولها وثوابتها ونصوصها المحكمة، ولذا لا تجد نصا شرعيا يدل في زمن ما على حل شيء معين مثلا ثم يأتي زمان آخر ويكون الشيء عينه فيه حراما، فالخمر محرمة حتى لو جاء بحث علمي في زمن من الأزمنة يثبت أن الخمر المعروفة بصفاتها وماهيتها عندنا وعند الزمن الأول الذي نزل فيه التشريع ليس فيها أي ضرر, لأن الشريعة من عند الله المحيط علمه بكل شيء، والأبحاث تتغاير وينقض بعضها بعضا، وهذا إنما يعلمه أهل الإيمان. ولا يمكن أن تكون السرقة مثلا حلالا في زمن من الأزمنة، حتى حين تقتضي الظروف تعطيل الحدود، أو في زمن يعطل فيه الحكم بما أنزل الله. والمسائل في الشريعة, إما معلومة من الدين بالضرورة وقطعية إجماعية، وإما اجتهادية، وإما مسائل يحكم غير مستندة إلى دليل شرعي صحيح، أو تستند إلى استدلال غير صحيح، فمثلها ما يقال فيها بأنها من قبيل الضعيف أو الشاذ. فأما المعلومة بالضرورة، أو الإجماعية إجماعا صحيحا فهي ثابتة بالنص أو الإجماع،وأما مسائل الاجتهاد إذا كانت محتملة للخلاف ولا قرينة، فيقال فيها إن الحكم في أصلها واحد، والحق واحد ليس بمتعدد، ف" لا تُسمَّى أحكامُها بالمتغيِّرات لأنها ثابتةٌ في حقيقة الأمر، وحكمُها واحدٌ معلومٌ عند الله، وقد جَعَلَ له أدلَّةً وأماراتٍ يُعرف بها، وإنما التغيير حاصلٌ في اجتهاد المجتهد ونظرِه الذي له فيه نصيبٌ بين الأجر والأجرين إذا اتَّقى اللهَ في اجتهاد"ه، أما الشاذ أو الضعيف فلا التفات للخلاف فيه، وبالذات إن خالف سنة صحيحة أو إجماعا شائعا، هكذا طريقة أهل الاختصاص في التعامل مع المسائل الشرعية، وليس من منهجهم تطويع النص أو تأويله تبعا لأفكار أو فرضيات مسبقة في أذهان الباحثين، فالمراد معرفة مراد الله لا مطاوعة كل جديد، وبهذا يعلم الخلل الكبير فيما يعرف بأسلمة المفاهيم الحداثية، فكثيرا ما يعمد مأسلموا هذه المفاهيم إلى إيجاد مداخل لهذه المفاهيم في الشريعة، فيعمد إلى أمور تكون نظرته إليها فضفاضة وتخفى عليه القيود التي في نصوص الشريعة لها، ومن ثمرات ذلك أن سمعنا بإسلام اشتراكي، وإسلام ليبرالي، وسمعنا بأنه لا تعارض بين العلمانية وبين الإسلام، وغيرها من المصطلحات، وهذا من العجب العجاب, أن يجمع الإسلام كل هذه التناقضات فيما بينها، أو أن يطوع الإسلام لمفاهيم تخالفه أو تناقضه في نفسه، كل هذا لأن من قالوا بهذا تأثروا بتلك النظريات, الاشتراكية، أو الليبرالية، وغيرها، وفي مرحلة الصدمة الثقافية أو الحضارية، يجد نفسه إما أن ينبذ الإسلام بالكلية، أو يشكك في بعض ما صادم نظريته التي تأثر بها، أو في أحسن أحواله يحاول أن يطوع الإسلام ويجد لنظريته المتأثر بها مداخل في الشرع الحنيف، بينما المطلوب منا أن نتعبد بالإسلام الذي أراده الله في أصوله وجزئياته، لا تلك المفاهيم المأسلمة قصرا. ولا تضجر أيها القارئ الكريم، فهذه سطور ابتدئت بالنظر في المقدمات التي بنى عليها د. علي الصلابي نتائجه، وانتقدتها، ومن باب الإنصاف أن تعلم المقدمات التي بنيت عليها هذه السطور وتسلسلت إلى نتائجها، ليكون معيار حكم عليها بالمنهج العلمي الصحيح هو المعيار نفسه في حكم هذه السطور على رأي د. علي الصلابي في نقض الاستدلال بحديث. {لن يفلح قوم ولوا أمورهم امرأة} على تولي المرأة للمناصب السيادية. والحاصل أن هذا النص صادم ما قرره د. علي الصلابي في كتابه, (البرلمان في الدولة الحديثة المسلمة)، لكن لما كان هذا النص صحيحا متواترا معنى احتاج إلى تأويله بدون النظر إلى ما قرره أهل العلم، وفي مقدمتهم الصحابة رواة الحديث، في المعنى المراد من هذا النص النبوي الشريف. الباعث الثاني الذي ربما جعل د. علي الصلابي ومن سبقه في تأويل الحديث أو رده ما يظهر من مصادمة الحديث للواقع، فالقرآن كما يرى الصلابي في مقامه ذكر سيرة ناجحة لامرأة كانت على سدة الحكم، وهي ملكة سبأ، وعدد من الشخصيات في الواقع السياسي المعاصر ظهر نجاحها وتفوقها، والحق أن هذا التعارض الظاهر مما يمتحن به القلوب، فكم من نظريات أدلت بأمور وجد في القرآن أو السنة ما يبدو فيه التعارض معها، ومع أن مجال النسبية والتغير في النظريات العلمية مجالها واسع، والدين ثابت لأنه من عند الله، إلا أن كثيرا من الناس انعكست عندهم القضية، فتعاملوا مع بعض النظريات التي ظهر بينها وبين الشرع نوع تعارض بمعيار معكوس، وما ذلك إلا لشكل مقيت من أشكال التبعية الثقافية السيئة، مع أن النظرية العلمية قد تقال اليوم، ويظهر ما يكذبها غدا، وقد يكذبها من قال بها بالأمس. قال الله عز وجل: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله]، روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآيات ثم قال: { فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ منه فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ}، لم يأمرنا بإيراد جواب على كل من يتبع ما تشابه منه، ثم قال الله عز وجل: {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا}, ولو لم نععلم حقيقته، {كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب}، فهل نحن بالتماسنا جوابا لكل ما خفي علينا علمه، أو ما ظهر لنا فيه التعارض في أذهاننا هل نحن سلكنا سبيل الراسخين في العلم؟: {يقولون آمنا به كل من عند ربنا}، أم سلكنا سبيل من يتبع ما اشتبه على الكفار وضعاف الإيمان علمه، ولما كان ما اشتبه على الناس علمه فتنة عظيمة لمن لم يرسخ الإيمان في قلبه، كان من سبيل الراسخين في العلم أن ألهمهم الله عز وجل وعلمهم هذا الدعاء: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب}، فماذا لو نشر رجل صورة (ميركل) وتحتها حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل نحن مطالبون بالجواب على كل أحد؟ كثير من الشبهات ترد، ونخاف من سطوتها على العوام، وحين نرى العوام وغيرهم في الواقع نجدهم يتعاملون مع الأمر واقعا بما هو مركوز م في فطرهم مما يوافق الحق، وليس معنى ذلك أن ينام الداعية ملء جفونه بدون اتخاذ الأسباب التي من أهمها التوكل على الله، وطلب العلم الذي به تدفع الشبهات، لكن التعامل مع كل موقف بحسبه، فما يقتضي الإهمال يهمل، وما ينبغي الرد عليه يتصدى له. لما جهل الناس هذه الحقائق كان موقفهم مع ما ظهر بينه وبين الشرع نوع تعارض متباينا, فمن الناس من يتذبذب في تدينه حتى يرتد، وعلى النقيض قد يدافع إنسان فيهرف بما لا يعرف متمحلا وجوه درء لهذا التعارض، فلا الأول حفظ دينه، ولا الثاني أزال الإشكال، بل قد يبدو أمام قرائه الدين في موقف الضعيف لأن من يتأثرون به كانت حجته ضعيفة، والوسط هو الحق, فما علمنا جوابه ذكرناه، وما لم نعلم جوابه وكلنا علمه إلى علام الغيوب حتى يجليه إن شاء، وقد وقع هذا في الزمن الأول والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهراني الناس، فتارة حدث بما لا تحتمله العقول، فثبت المؤمنون بالغيب على إيمانهم، ونكص مرضى القلوب على أعقابهم، كما وقع في خبر الإسراء إلى بيت المقدس في ليلة، وهو زمن يستحيل فيه وقوع ذلك عند من أعمل عقلا لا يؤمن إلا بالمحسوس، ولا إيمان لصاحبه، وتارة أخبرهم بما لم يدل الواقع الذي كانوا فيه على وقوعه، كحديث المسير من صنعاء إلى حضرموت في أمان حتى لا يخشى إلا الله، والراعي على غنمه من الذئب، وتارة كان يكل الأمر إلى علام الغيوب, فسأله من سأله عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فأجاب بما أوحى الله إليه في القصتين، فسرد عليهم منها ذكرا، وأجاب بما أوحى الله إليه بأن يكل علم الروح إلى باريها، فلم يأنف رسول الله وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن لا يجيب في الثالثة، مع أن خصومه قد يتجاهلون المسألتين الأوليين، ويتهمونه على الثالثة، فكان رد علمه لعلام الغيوب خير جواب ارتضاه خصومه قبل غيره، وكذلك فعل موسى عليه السلام حينما سؤل عن القرون الأولى لم يزد على قول: {علمها عند ربي في كتاب، لا يضل ربي ولا ينسى}، ولذا, كانت أول صفة امتدح الله بها عباده المؤمنين في سورة البقرة في قوله: {الذين يؤمنون بالغيب}، ومن الغيب ما استأثر الله عز وجل بعلمه، ومنه ما يعلمه عبد ويخفى على غيره، ومنه ما يكون غيبا في وقت ويظهر في غيره, كحديث المسير من صنعاء إلى حضرموت في أمان، وقد مر الإشارة إليه، فعدم الجواب عما لا نعلمه فضلا عما هو غيب ليس منقصة، ولم يطعن في رسالة الرسل الذين فعلوا ذلك ليكون طعنا في الإسلام بعد انتهاء بعث الرسل، لكن، المسلم صحيح الإسلام يبتلى بمثل هذا, أن يورد عليه من هذه الشبهات، فالعامي لا يستمع إليها ولا يدخل فيها لئلا يفتن عن دينه، والدعاة لا يتجاسرون على جوابها بلا علم أو بما يظهر الشريعة في مظهر الضعف وعدم الإقناع، وإنما يستدل على ما آمن به ولم يعلم خبره بما آمن به وتبين خبره، من باب الاستدلال على ما لم يقع بما وقع، فهذا عدي بن حاتم يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في البخاريفيقول: { بيْنَا أنَا عِنْدَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إذْ أتَاهُ رَجُلٌ فَشَكَا إلَيْهِ الفَاقَةَ، ثُمَّ أتَاهُ آخَرُ فَشَكَا إلَيْهِ قَطْعَ السَّبِيلِ، فَقَالَ: يا عَدِيُّ، هلْ رَأَيْتَ الحِيرَةَ؟ قُلتُ: لَمْ أرَهَا، وقدْ أُنْبِئْتُ عَنْهَا، قَالَ: فإنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ أحَدًا إلَّا اللَّهَ -قُلتُ فِيما بَيْنِي وبيْنَ نَفْسِي: فأيْنَ دُعَّارُ طَيِّئٍ الَّذِينَ قدْ سَعَّرُوا البِلَادَ؟!- ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ لَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى، قُلتُ: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ؟ قَالَ: كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكَ حَيَاةٌ، لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخْرِجُ مِلْءَ كَفِّهِ مِن ذَهَبٍ أوْ فِضَّةٍ، يَطْلُبُ مَن يَقْبَلُهُ منه، فلا يَجِدُ أحَدًا يَقْبَلُهُ منه، ...} الحديث، وفي آخره: { قَالَ عَدِيٌّ: فَرَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْتَحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطُوفَ بالكَعْبَةِ، لا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ، وكُنْتُ فِيمَنِ افْتَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بنِ هُرْمُزَ، ولَئِنْ طَالَتْ بكُمْ حَيَاةٌ، لَتَرَوُنَّ ما قَالَ النَّبيُّ أبو القَاسِمِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ...} الحديث. والخلاصة أن التهكم وتهمة التخلف، وإثارة الشبه ليست أسبابا كافية تدعو إلى تأويل الحديث أو رده، ولا تلغي فهما ساد لقرون طويلة عند علماء الإسلام وفي مقدمتهم من روى الحديث كما سيأتي بيانه إن شاء الله ونشر هذا المقال. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل. أسامة عبد الله محمد.

الأحد، 30 مايو 2021

فضل الإيمان بالغيب على إيمان الشهادة

كلام يستحق أن تقرأه ببصيرتك: أول صفة تفصيلية مدح الله بها عباده المتقين في القرآن هي قوله: {الذين يؤمنون بالغيب}، لماذا فضل الإيمان الغيب إيمان الشهادة؟ لماذا كانت أول صفة أثنى الله بها على عباده المتقين؟ قال الدارمي رحمه الله في الرد على الجهمية له ص123-124: "وَمَا تَعْجَبُونَ مِنْ أَنْ كَانَ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ خَلَقَ الْخَلْقَ، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ فَوْقَ سَمَوَاتِهِ، وَاحْتَجَبَ مِنْ خَلْقِهِ بِحُجُبِ النَّارِ وَالظُّلْمَةِ، كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، يُعَرِّفُهُمْ نَفْسَهُ بِصِفَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ، لِيَبْلُوَ بِذَلِكَ إِيمَانَهُمْ أَيُّهُمْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيَعْرِفُهُ بِالْغَيْبِ وَلَمْ يَرَهُ، وَإِنَّمَا يَجْزِي الْعِبَادَ عَلَى إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ بِالْغَيْبِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ تَبَدَّى لِخَلْقِهِ وَتَجَلَّى لَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَكُنْ لِإِيمَانِ الْغَيْبِ هُنَاكَ مَعْنًى، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَكْفُرْ بِهِ عِنْدَهَا كَافِرٌ، وَلَا عَصَاهُ عَاصٍ، وَلَكِنَّهُ احْتَجَبَ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ بِالْغَيْبِ، وَإِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِرُبُوبِيَّتِهِ لَيَؤُمِنَ بِهِ مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنْهُ السَّعَادَةُ، وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. وَلَوْ قَدْ تَجَلَّى لَهُمْ لَآمَنَ بِهِ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا بِغَيْرِ رُسُلٍ وَلَا كُتُبٍ، وَلَا دُعَاةٍ، وَلَمْ يَعْصُوهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ تَجَلَّى لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَصَدَّقَ رُسُلَهُ وَكُتُبَهُ وَآمَنَ بِرُؤْيَتِهِ وَأَقَرَّ بِصِفَاتِهِ الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ، حَتَّى يَرَوْهُ عِيَانًا، مَثُوبَةً مِنْهُ لَهُمْ وَإِكْرَامًا، لِيَزْدَادُوا بِالنَّظَرِ إِلَى مَنْ عَبَدُوهُ بِالْغَيْبِ نَعِيمًا، وَبِرُؤْيَتِهِ فَرَحًا وَاغْتِبَاطًا، ... وَحَجَبَ عَنْهُ الْكُفَّارَ يَوْمَئِذٍ إِذْ حُرِمُوا رُؤْيَتَهُ كَمَا حُرِمُوهَا فِي الدُّنْيَا لِيَزْدَادُوا حَسْرَةً وَثُبُورًا". فأول ما يستفاد من هذا الكلام: 1. الطريق إلى توحيد الله معرفته، وأقرب الطرق الموصلة إلى معرفة الله ومحبته معرفة أسمائه وصفاته التي لا تعلم من أقصر الطرق إلا بالوحي المنزل على رسله، ولن تهتدي إليه إلا بفضل الله عليك. 2. إن صفات الجمال والجلال التي لا تعد ولا تحصى ولا يحيط بكنهها إلا الله، وهي صفات تحبب الخلق إلى ربهم أيما محبة، ، وهو أجل محبوب وأأجل مطلوب، ومحبة ما سواه تابعة لمحبته، ومن حكم احتجابه عن خلقه ألا يصل إليه من عباده إلا الخلص، ولو تجلى لعباده جميعا لآمنوا كلهم لما يعاينونه من جمال الصفات والذات، ولو وقع هذا لم يكن لخلص عباده مزية على غيرهم، ولارتفع من لم يكن أهلا، ولذا كان من حكم احتجابه عن خلقه أن يكون تجليه لخلص عباده أكمل نعيم يكافأون به لما آمنوا به بالغيب، إذ كانت أصدق أمارة على أنهم خلص عباده إيمانهم به بالغيب، وكان احتجابه في الدنيا والآخرة عمن لا يستحق الرفعة أشد عذابا لهم في الدنيا والآخرة، فحرموا لذة نعيم معرفته في الدنيا، وحرموا نعمة تجليه لهم في الآخرة فلم يعاينوا ذاك الجمال والجلال للصفات والذات حين يتجلى الجبار جبار القلوب المنكسرة له سبحانه فيرون وجهه، وتدبر كيف يكون حالهم حين ينشغلون عن كل نعيم أعطوه في الجنة بهذا النعيم، فما هم بأشد شوقا إلى شيء في الجنة شوقهم إلى هذا النعيم. 3. ولولا فضل إيمان الغيب على إيمان الشهادة ما حصل التفاضل في الدرجات بين الصفوف صفوف أولياء الله وصفوف أعدائه، فكان من كمال عدل الله ورحمته أن من أجل شرائع الدين الإيمان بالغيب. 4. القوة العجيبة لإيمان أهل الإيمان باللغيب، وما هو إلا محض جود الله عليهم، فمع توفر دواعي الهوى وميل النفس إليها، تركوا هواهم لأجل من آمنوا به بالغيب، بل أصبح هواهم تبعا لأوامره ونواهيه لما أحبوه سبحانه، فإن كان تجلي الله لخلقه يجعل العباد جميعا لا يعصونه فارتفع أهل الإيمان بالغيب درجات على من سواهم حيث قويت قلوبهم بمحض جود الله عليهم فتركوا أهواءهم بسبب ما تغير فيهم بمعرفة الجمال والجلال للصفات والأسماء، فكان ما عرفوه منها يدل على ما غاب عنهم، وكان وكان الغيب دليلهم على ما سيعاينونه في الشهادة يوم النعيم والملك الكبير. وأما إيمان الشهادة فقد قال الله عز وجل عنه بصريح العبارة: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك، يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا} الآية. فيا من شغلت نفسك بالجدال والمراء في دين الله فيما لا يفيد، بل يضيع عليك عمرك, رأس مالك، تنبه لهذا، فإن كنت وكنا معك من أهل الإيمان بالغيب فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وتأمل كيف ينعم الله بهذه النعم على عباده ثم لا يتدبرون ولا ينتفعون، تأمل هذا، فليس التوحيد مجرد الحفظ للمسائل وضبطها على أهمية ذلك، بل ما يثمره العلم من عمل، وكل ذلك بمحض جود الله على عباده تفضلا، والله أعلم.

(لا يطيب القلب فيها بالفشل)

(لا يطيب القلب فيها بالفشل) *هَلِّلي يا روح، قد لاح الأملْ * انفُضي عنكِ التراخي والمللْ * البسي حُلَّةَ جِدٍّ، وافرحي * من أراد الله، لم يرضَ الكسلْ * ها هي العشر البواقي، عَجِّلي * كيف يحيى من عن الخيرِ نََكلْ * ليلة القدر تبَدَّى نورها* لا يطيب القلب فيها بالفشلْ * ليلة القدر تنادي أهلها* أهلُها أهلُ افتقار ووجلْ * أسرجوا بالحبِّ أنوارَ الرجا * فسروا فيها كبدرٍ مكتملْ * هَزَّهم شوقٌ إلى الله فما * فَتَرَ الإيمانُ يحدو للعملْ * ليتنا منهم، فيا لحسرتي * بَطَّأَ التسويفُ، واستشرى الخللْ * ليلة لله فيها منحٌ * ليس يحظى بالعطايا من هَزَلْ * ليلة القدر عظيم قدرها * لا يطيب القلب فيها بالفشلْ *

زكاة الفطر بين الخلاف الفقهي وبين انتقاض عرى الإسلام، واندراس الشعائر:

زكاة الفطر بين الخلاف الفقهي وبين انتقاض عرى الإسلام، واندراس الشعائر: لعله يهولك هذا العنوان، وما بين طرفيه من بون شاسع، ولعلك تخاله من المبالغات، وبخاصة أن كاتب هذه السطور ليس من أهل العلم، ولا عليه سيماه، ومن حقك أن تحجم عن هذه السطور، إن رأيت أنك لن تجد فيها ضالة منشودة، لكن، أن تنقلب شعيرة مطهرة إلى عراك سنوي لا في قطر بعينه، بل في العالم الإسلامي بعامة، وحين ينقلب بيان الحكم الشرعي إلى تهم بالتسييس، وبالفتاوى المستوردة، ويناصب المسلمين هذا الحكم الشرعي بالعداء تحت هذه الذرائع، اعلم أن المسألة ليست مجرد خلاف فقهي، بل الأمر أكبر من ذلك، فحين تهون أيها السلفي من شأن هذا الخلاف، وتحصره في دائرة الخلاف الفقهي فاعلم أنك جانبت الصواب يقينا، لا في تعويلك في المسائل التي فيها الخلاف معتبر، أو خلاف تنوع، بل في كونك صرت معولا في اندراس الشعائر، دريت أو لم تدرِ. لقد تعددت الرئاسات والهيئات الدينية، منها ما هو رسمي، ومنها ما يتبع أحزابا وجماعات، وتنوعت فتاويها بتنوع مناهجها وطريقتها في التفكير، وتبين بما لا يدع مجالا للشك أن المشبوه منها والمنحرف تتباين مواقفها وتتناقض في الفتاوى إذا ما امتحنت وابتليت بما يخالف توجهها، وبما يحقق مصالحها، وفي ثورات الخريف العربي بالذات لم يبق عذر لعاقل، وخطورة الأمر تكمن في وجود قاعدة عريضة من العوام تبعا لهؤلاء، يستنون بسنتهم، ويهتدون بهديهم، فإذا صادف قلب العامي الفارغ هوى مع أحد هؤلاء الأئمة المضلين، ثم بين لهذا العامي الحق أزبد وأرعد، فقد جئت تنتزع منه ما كان يعتقد بأنه الحق الزمان الطويل، ومسألة زكاة الفطر خير شاهد. يا ترى! لماذا يؤجج الصراع سنويا حول إخراج زكاة الفطر نقودا، لماذا فشا هذا المذهب مع أنه مرجوح من حيث النظر والاستدلال؟ كيف صار هو الحق الغالب في العالم الإسلامي؟ بل هو الدين كما يبينه الواقع اليوم؟ وصار الإطعام مرجوحا، إذا تمعنت في هذه الأسئلة لا بد أنك ستتجاوز زاوية التهوين بحجة الخلاف الفقهي، وسيجلو لك سر عنوان هذه السطور, (زكاة الفطر بين الخلاف الفقهي وانتقاض عرى الإسلام، واندراس الشعائر). قد لا تعجب ممن ينسبون إلى ما يسمى جماعة الحنابلة الجدد حين يجددون القول بحرمة الخروج عن المذاهب الأربعة، مع أن التحريم حكم شرعي يحتاج إلى دليل، قد لا تعجب من مفتٍ حمل نفسه عهدة مشاركة بعض أهل الكتاب فيما يسمى بالصلاة من أجل الإنسانية، أو حمل نفسه إجازة دفع الزكاة أو صدقة الفطر لمفوضية اللاجئين، قد لا تعجب من فوضى الفتوى ممن يتصدرون الساحة الدعوية، لأنهم على أصول فاسدة، والشيء من معدنه لا يستغرب. لكن الأدهى أن ينهض منتسب للسلفية ممن عليه سيما من سيماء طلب العلم فينبز إخوانه قليلي البضاعة في العلم بأن لديهم ضيق في الأفق، ولا يستوعبون الخلاف ولا ينتفعون بدراسة المذاهب، فهذا عجب، لا لشيء إلا أنهم قلدوا من تصدى لإحياء تقديم الدليل من أهل العلم، ومن ثمرات هذه الدعوى أن بعض من تأثروا بها صاروا ينبز بعضهم بعضا: أنت سلفي مالكي، أنت سلفي حنبلي، نعم، المذاهب الأربعة من مذاهب السلف، لكن الحق ليس منحصرا في بعضها دون بعض، ولا منحصرا فيها وحدها، كما قرره أهل العلم، وهذا آخر ينقل عمن سوى بين المعصوم والمجتهد, حيث ذهب هذا المتأخر في دفاعه عن المذهبية إلى أن أقوال العلماء لا بد أن يكون لها وجه من الاستدلال, علم ذلك أو لم يعلم، وآخر رأى وضوح المستقبل في نيل المناصب بالعناية بالمذاهب والشهادات، فتناوبت الوسائل والغايات على هذا الرأي بينهما في المنزلة، فأصبحت الغاية وسيلة، وآخر يقول: لا يجوز فتوى أهل البلد بخلاف المذهب الشائع عندهم، فإن كان مذهب البلد إخراج زكاة الفطر نقودا، فلا ينبغي إحداث فتنة، إلى أن يتفهم الناس مسألة تقديم الدليل! كل هذا يقوله منتسبون لمذهب السلف، وعندهم الحمية للحق في الدفاع عن مذهب السلف! الاختلاف سنة كونية أرادها الله عز وجل كونا، والأصل الاتفاق لا الاختلاف, { كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَٰحِدَةً فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّۦنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ ۚ وَمَا ٱخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ ٱلْبَيِّنَٰتُ بَغْيًۢا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلْحَقِّ بِإِذْنِهِۦ ۗ وَٱللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٍۢ مُّسْتَقِيمٍ}. (البقرة - 213)، } والمطلوب إصابة السداد في الحق ومقاربته، والمسألة فيها إفراط وتفريط، فمصطلح الخلاف المعتبر صحيح في بابه وبضوابطه، ومن ذلك ألا يتناسى أن الحق واحد وليس بمتعدد، والموفق من أصاب ذلك الحق، وإصابة السداد في الحق أو مقاربته لا يعنى بها اعتبار كل ما حام حوله من وجوه الاستدلال. وكذلك المقاصد العامة، وجريان الشريعة بين درء المفسدة وجلب المصلحة كل ذلك صحيح معتبر، شريطة ألا يتنازل عن النص الصحيح الصريح في بابه فيضيع المقصد التعبدي بذلك النص، ويقع بقصد أو بدون قصد الاستدراك على الشارع في حكمه، أو أن يغلب على الحق في المسألة غيره، نعم، من دفع زكاة الفطر نقدا له سلف، ولعل ذمته تبرأ إن كان في بلد لم يصل إليه علم بالسنة أو قلد من ظن فيه الورع، هذا ليس المقصد، لكن، أن يهون من شأن الخلاف في زمن صار فيه الأصل وهو الإطعام مذهبا مستشنعا مستقبحا، يعتبره الناس تخلفا، وأحلوا المرجوح محله، فعندها لا يجمل بك أيها السلفي أن تهون من شأن الخلاف، فأنت تحيي سنة، وتصحح شعيرة إن لم تتداركها درست وانتقضت وهي من عرى الإسلام، لا يجمل بك أن تلبس السلفية لباس المذهبية في زمن ضعف فيه التعويل على الدليل، والفتوى فيه بتأثيم من خالف الأئمة الأربعة وإن كان معه الدليل، وتجد نفسك تبذر بذور الخلافيات من أجل الوصول إلى تلك المناصب فلا تستفيد منك السلفية نصرة في حين كان مقصدك أن تكون المناصب التي تسعى إليها سببا في نصرة السنة،. شتان بين زمنين، ففي زمن السلف وجد الخلاف بين أهل الحق في جملة من المسائل بدون أن يكون هناك عراك ممنهج تنتج عنه بغضاء، وكان الرد على المخالف دينا يتدين به لله عز وجل، أما اليوم فبعض الخلافيات التي تثار بقصد أو بغير قصد لتأجيج الرأي العام على الدين باسم الدين، ولتمييع الحق في بعض المسائل باسم المقاصد العامة للشريعة زعموا، بعض هذه المسائل تثار ليحفظ بها من كانت لهم رئاسات مكانتهم، ليس المقصد عندهم مصلحة الفقير، أو الدفاع عن أبي حنيفة وغيره، مع أنه لم يطعن على أبي حنيفة من قال بإخراج زكاة الفطر على الأصل، وكذلك قل في الذين يستميتون من أجل إحياء البدع تحت مسمى السنة الحسنة. التعامل مع الخلافيات في زمن ضعف السنة يختلف، فالانتصار للأصل الذي هو إخراجها طعاما ليس تفرقة بين المسلمين، ولا طعنا في القائلين بجواز إخراج النقود من إجلاء من قال به، ولا هو إضرار بالفقير، بل هو وقوف ضد بعض من يدعو إلى باطل يلبسه لباس الحق، وقوف مع إحياء السنن التي شرعها الله عز وجل وهو العالم بالمصلحة في كل زمان ومكان، وادعاء المصلحة في غيره وإن كان يشتبه على الناس أنه مصلحة افتيات على الشارع الحكيم، والوقوف مع الأصل الذي هو الإطعام وقوف على خط أمامي حتى لا تنتقض عرى الإسلام وتندرس الشرائع. ولذا مع هذه المسالك التي يسلكها بعض من عليه سيما من سيماء طلب العلم، أو من تشبه بهم من المنتسبين لمذهب السلف، وجب التنبيه على أمر لا ينبغي أن يغيب عن أولي الألباب. سؤال طرحه عمر بن الخطاب الذي إن كان في هذه الأمة محدثون فعمر، كيف تختلف هذه الأمة وكتابها واحد؟ ونبيها واحد؟ وقبلتها واحدة؟ روى أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ (17 ـ 6) وَسَعِيدُ بْنُ منصور في سننه ـ تحقيق الحميد ـ برقم (42)، والبيهقي في شعب الإيمان (2086)، والخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع (1587)، عن إبراهيم التيمي أنه قال: "خَلَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ذَاتَ يَوْمٍ فَجَعَلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ، وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، §إِنَّما أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ فَقَرَأْنَاهُ وَعَلِمْنَا فِيمَ نَزَلَ، وَإِنَّهُ يَكُونُ بَعْدَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ ولَا يَعْرِفُونَ فِيمَ نَزَلَ، لكُلُّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كَانَ لِقَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا " فَزَبَرَهُ عُمَرُ وَانْتَهَرَهُ فَانْصَرَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ دَعَاهُ بَعْدُ فَعَرَفَ الَّذِي قَالَ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا أَعِدْ. وقد أعل بعضهم الخبر بأن إبراهيم التيمي لم يدرك عمر، لكن له شاهد من مجمع معمر بن راشد 982 أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، قَالَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ بَذِيمَةَ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، قَالَ : قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَجُلٌ ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَسْأَلُهُ عَنِ النَّاسِ ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَدْ قَرَأَ مِنْهُمُ الْقُرْآنَ كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقُلْتُ : وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ يَتَسَارَعُوا يَوْمَهُمْ هَذَا فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْمُسَارَعَةِ ، قَالَ : فَزَبَرَنِي عُمَرُ ثُمَّ قَالَ : " مَهْ " قَالَ : فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَهْلِي مُكْتَئِبًا حَزِينًا ، فَقُلْتُ : قَدْ كُنْتُ نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ مَنْزِلَةً ، فَلَا أُرَانِي إِلَّا قَدْ سَقَطْتُ مِنْ نَفْسِهِ ، قَالَ : فَرَجَعْتُ إِلَى مَنْزِلِي ، فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي حَتَّى عَادَنِي نِسْوَةُ أَهْلِي وَمَا بِي وَجَعٌ ، وَمَا هُوَ إِلَّا الَّذِي تَقَبَّلَنِي بِهِ عُمَرُ ، قَالَ : فَبَيْنَا أَنَا عَلَى ذَلِكَ أَتَانِي رَجُلٌ فَقَالَ : أَجِبْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ : خَرَجْتُ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ يَنْتَظِرُنِي ، قَالَ : فَأَخَذَ بِيَدِي ثُمَّ خَلَا بِي ، فَقَالَ : " مَا الَّذِي كَرِهْتَ مِمَّا قَالَ الرَّجُلُ آنِفًا ؟ " ، قَالَ : فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ ، فَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ ، وَأَنْزِلُ حَيْثُ أَحْبَبْتَ ، قَالَ : " لَتُحَدِّثَنِّي بِالَّذِي كَرِهْتَ مِمَّا قَالَ الرَّجُلُ " ، فَقُلْتُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَتَى مَا تَسَارَعُوا هَذِهِ الْمُسَارَعَةَ يَحِيفُوا ، وَمَتَى مَا يَحِيفُوا يَخْتَصِمُوا ، وَمَتَى مَا يَخْتَصِمُوا يَخْتَلِفُوا ، وَمَتَى مَا يَخْتَلِفُوا يَقْتَتِلُوا ، فَقَالَ عُمَرُ : " لِلَّهِ أَبُوكَ ، لَقَدْ كُنْتُ أُكَاتِمُهَا النَّاسَ حَتَّى جِئْتَ بِهَا " . فهذا يقوله ابن عباس في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون، والحرص على الاتباع مستوٍ على سوقه، ومع هذا يستشعر ذاك الخطر، مع أن الذي وقع ظاهره خير، وهو مسارعة الناس في القرآن حفظا، بدون فهم أو علم، البداية كانت ظاهرها خيرا، لكن مع التطور التدريجي للمراحل التي ذكرها ابن عباس سيلبس أهل الباطل باطلهم ثوب حق، حتى يصل الأمر إلى الاستدلال بالقرآن على إبطال صلاتين من خمس، كما في حديث أبي حذيفة عند الحاكم، وسيأتي ذكره. وأعظم من الاقتتال الذي سببه الاختلاف ما روى الإمام أحمد والحاكم وابن حبان عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَتُنْقَضَنَّ عُرى الإسلام عُروةً عروةً، فكلما انتقضت عُروةٌ تَشَبَّثَ الناسُ بالتي تليها، فأولُهنَّ نقضاً الحُكْمُ، وآخِرُهُنَّ الصلاةُ". رواه ابن حبان في "صحيحه". قال الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب, 572[صحيح]. ولن تنتقض عرى الإسلام دفعة واحدة، بل لا بد من تدرج في ذلك، ولكنه أمر عجيب، فكيف تنقض عرى الإسلام مع توافر العلماء، ومع وجود المجددين على رأس كلم مئة؟ وجاء بيان شيء من ذلك الانتقاض لعرى الأسلام، كما في مستدرك الحاكم من حديث حذيفة رضي الله عنه موقوفا عليه، ففي كتاب الفتن والملاحم من المستدرك 8469 - حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، ثنا عكرمة بن عمار ، عن حميد بن عبد الله الفلسطيني ، حدثني عبد العزيز ابن أخي حذيفة ، عن حذيفة - رضي الله عنه - ، قال : " أول ما تفقدون من دينكم الخشوع ، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة ، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة ، وليصلين النساء وهن حيض ، ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، وحذو النعل بالنعل ، لا تخطئون طريقهم ، ولا يخطأنكم حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة فتقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ، لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله - تبارك وتعالى - : وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل لا تصلوا إلا ثلاثا ، وتقول الأخرى : إيمان المؤمنين بالله كإيمان الملائكة ما فينا كافر ولا منافق ، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال " " هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه . قال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في كتابه إتحاف الجماعة: "ورواه الحاكم في "مستدركه"، ولفظه: قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع، وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليصلين النساء وهن حيض» (وذكر تمام الحديث) ". قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وبعضهم أعله بعبد العزيز ابن أخت حذيفة رضي الله عنه. وقد بوب الشيخ حمود رحمه الله بابا في كتابه السالف الذكر تحت عنوان, (ما جاء في نقض عرى الإسلام)، ابتدأه بحديث أبي أمامة السابق، وتكلم عن الحكم بالقوانين الوضعية، ثم قال: "وقد نقض الأكثرون أيضًا غير ذلك من عرى الإسلام؛ كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم". فيا للعجب، كيف قالوا عمن قبلهم إنهم كانوا على ضلال، وكيف استدلوا بالقرآن على أن الصلوات ثلاث، بل كيف ستصلي الحيض من النساء مع أن حكم صلاة الحائض في أثناء حيضتها معلوم للعامة، والخاصة، أين الأحاديث يومئذ؟ فإن كان هذا سيقع يوما فلا تعجب مما هو أدنى منه اليوم، حين يصير المذهب المرجوح في زكاة الفطر أصلا، وحين تشيع البدع تحت مسمى السنة الحسنة، والقرآن قائم، والحجة به قائمة، والأحاديث متوفرة بضغطة زر، وتأمل يا رعاك الله، هذا الكلام من الشيخ حمود رحمه الله، حيث ينسب نقض غير الحكم من عرى الإسلام الأخرى للأكثرين، مع أن العلماء متوافرون، ومنهم من الناس ملتفون من حولهم في زمنه، فكيف يقال في وقتنا هذا، وقد مات جماعة من هؤلاء العلماء؟ والعهد ما زال قريبا بهم، ثم تظهر أمثال هذه الأفكار في أوساط السلفيين؟! ثم قال الشيخ: "وعن فيروز الديلمي رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لينقضن الإسلام عروة عروة كما ينقض الحبل قوة قوة» . رواه الإمام أحمد، ورجاله ثقات. وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «والذي نفس محمد بيده؛ لينقضن الإسلام عروة عروة، حتى لا يقال: الله، الله!» . رواه ابن أبي الدنيا. وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: أنه قال: «لتتبعن أمر من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، لا تخطئون طريقتهم ولا تخطئكم، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، ويكون أول نقضها الخشوع، حتى لا ترى خاشعًا» ....". الحديث. رواه الآجري في كتاب "الشريعة"". ثم ذكر أثر حذيفة الذي رواه الحاكم قبل هذا المنقول، ثم قال: "ورواه ابن وضاح، ولفظه: قال: «أول ما تفقدون من دينكم الأمانة، وآخر ما تفقدون الصلاة، ولتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، ولتصلين نساؤهم حيضًا» . وعن أبي الطفيل عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: "أنه أخذ حصاة بيضاء، فوضعها في كفه، ثم قال: إن هذا الدين قد استضاء إضاءة هذه الحصاة. ثم أخذ كفًا من تراب، فجعل يذره على الحصاة حتى واراها، ثم قال: والذي نفسي بيده؛ ليجيئن أقوام يدفنون الدين كما دفنت هذه الحصاة". رواه ابن وضاح في كتاب "البدع والنهي عنها". وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أنه قال: «إن هذا الدين قد تم، وإنه صائر إلى نقصان، وإن أمارة ذلك: أن تقطع الأرحام، ويؤخذ المال بغير حقه، ويسفك الدماء، ويشتكي ذو القرابة قرابته ولا يعود عليه بشيء، ويطوف السائل بين الجمعتين لا يوضع في يده شيء، فبينما هم كذلك؛ إذ خارت خوار البقر، يحسب كل الناس أنما خارت من قبلهم، فبينما الناس كذلك؛ إذ قذفت الأرض بأفلاذ كبدها من الذهب والفضة، لا ينفع بعد ذلك شيء من الذهب والفضة» . رواه الحاكم في "مستدركه "، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي في "تلخيصه". وهذا الحديث والحديثان قبله لها حكم المرفوع؛ لأنه لا دخل للرأي في مثل هذا، وإنما يقال ذلك عن توقيف". وفي سنن الترمذي وغيره عن أبي الدرداء, قال: كنَّا معَ رسولِ اللَّهِ -صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ- فشخصَ ببصرِهِ إلى السَّماءِ ثمَّ قالَ هذا أوانٌ يُختَلَسُ العِلمُ منَ النَّاسِ حتَّى لا يقدِروا منهُ علَى شيءٍ فقالَ زيادُ بنُ لَبيدٍ الأنصاريُّ كيفَ يُختَلَسُ العِلمُ منَّا وقد قَرأنا القرآنَ فواللَّهِ لنَقرأنَّهُ ولنُقرِئنَّهُ نساءَنا وأبناءَنا فقالَ ثَكِلَتكَ أمُّكَ يا زيادُ إن كُنتُ لأعدُّكَ مِن فُقَهاءِ أهلِ المدينةِ هذهِ التَّوراةُ والإنجيلُ عندَ اليَهودِ والنَّصارَى فَماذا تُغني عَنهم قالَ جُبَيرٌ فلَقيتُ عُبادةَ بنَ الصَّامتِ قلتُ ألا تسمَعُ إلى ما يقولُ أخوكَ أبو الدَّرداءِ فأخبَرتُهُ بالَّذي قالَه أبو الدَّرداءِ قالَ صدقَ أبو الدَّرداءِ إن شئتَ لأحدِّثنَّكَ بأوَّلِ عِلمٍ يُرفَعُ منَ النَّاسِ الخشوعُ يوشِكُ أن تدخُلَ مسجدَ جماعةٍ فلا ترَى فيهِ رجلًا خاشعًا. وأما الحديث الذي أخرجه ابن ماجه (4049)، والحاكم (4 / 473)، عن حذيفة مرفوعا: { " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صلاة ولا نسك ولا صدقة وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية وتبقى طوائف من الناس: الشيخ الكبير والعجوز، يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة: " لا إله إلا الله " فنحن نقولها ". فحديث أشهر من نار على علم، قال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم ". ووافقه الذهبي. وأليك ما علق به الشيخ الألباني رحمه الله على هذا الحديث تحت رقم 87، حيث قال: " وفي الحديث إشارة إلى عظمة القرآن، وأن وجوده بين المسلمين هو السبب لبقاء دينهم ورسوخ بنيانه وما ذلك إلا بتدارسه وتدبره وتفهمه ولذلك تعهد الله تبارك وتعالى بحفظه، إلى أن يأذن الله برفعه. فما أبعد ضلال بعض المقلدة الذين يذهبون إلى أن الدين محفوظ بالمذاهب الأربعة، وأنه لا ضير على المسلمين من ضياع قرآنهم لو فرض وقوع ذلك! ! هذا ما كان صرح لي به أحد كبار المفتين من الأعاجم وهو يتكلم العربية الفصحى بطلاقة وذلك لما جرى الحديث بيني وبينه حول الاجتهاد والتقليد. قال - ما يردده كثير من الناس -: إن الاجتهاد أغلق بابه منذ القرن الرابع! فقلت له: وماذا نفعل بهذه الحوادث الكثيرة التي تتطلب معرفة حكم الله فيها اليوم؟ قال: إن هذه الحوادث مهما كثرت فستجد الجواب عنها في كتب علمائنا إما عن عينها أو مثلها. قلت: فقد اعترفت ببقاء باب الاجتهاد مفتوحا ولا بد! قال: وكيف ذلك؟ قلت: لأنك اعترفت أن الجواب قد يكون عن مثلها، لا عن عينها وإذ الأمر كذلك، فلابد من النظر في كون الحادثه في هذا العصر، هي مثل التي أجابوا عنها، وحين ذلك فلا مناص من استعمال النظر والقياس وهو الدليل الرابع من أدلة الشرع، وهذا معناه الاجتهاد بعينه لمن هو له أهل! فكيف تقولون بسد بابه؟ !" ثم قال الشيخ: " أعود إلى إتمام الحديث مع المفتي الأعجمي، قلت له: وإذا كان الأمر كما تقولون: إن المسلمين ليسوا بحاجة إلى مجتهدين لأن المفتي يجد الجواب عن عين المسألة أو مثلها، فهل يترتب ضرر ما لو فرض ذهاب القرآن؟ قال: هذا لا يقع، قلت: إنما أقول: لو فرض، قال: لا يترتب أي ضرر لو فرض وقوع ذلك! قلت: فما قيمة امتنان الله عز وجل إذن على عباده بحفظ القرآن حين قال: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) ، إذا كان هذا الحفظ غير ضروري بعد الأئمة ؟ ! والحقيقة أن هذا الجواب الذي حصلنا عليه من المفتي بطريق المحاورة، هو جواب كل مقلد على وجه الأرض، وإنما الفرق أن بعضهم لا يجرؤ على التصريح به، وإن كان قلبه قد انطوى عليه. نعوذ بالله من الخذلان. فتأمل أيها القارىء اللبيب مبلغ ضرر ما نشكو منه، لقد جعلوا القرآن في حكم المرفوع، وهو لا يزال بين ظهرانينا والحمد لله، فكيف يكون حالهم حين يسرى عليه في ليلة، فلا يبقى في الأرض منه آية؟ ! فاللهم هداك". السلسلة الصحيحة ج1 174-175 فلا عجب من أمثال هؤلاء والحالة هذه أن يقدموا المذهب المرجوح أو ينتصروا للبدعة باسم السنة الحسنة، لكن العجب منك أنت أيها السلفي، حين تنصرهم بحججك المذكورة أعلاه, بين الأجر والأجرين، هذا خلاف فقهي، من لم يدرس المذاهب فهو ضيق الأفق، لا ينبغي فتوى أهل البلد إلا بمذهبهم، ولا شك أن بعض هذه المقالات كما مر حق في بابها وبضوابطها، لكن، هل ينفع ذلك منك في زمن يريد أهل الباطل فيه أو الجهلى أن يحلوا الآراء محل السنن الثوابت؟ لا شك أنك حين تفعل ذلك تكون جزءا –دريت أو لم تدري—من منظومة اندراس الشعائر وتغيرها، وإن قلت أنك مدافع عن السنة ذاب عنها، والله أعلم.