#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله
#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله
يركز أهل الضلال من إخوان ومن خرج من تحت عباءتهم على قضية الجهاد والشهادة, لأنه بهما يقدم الشباب أرواحهم طمعا في نيل الشهادة التي رتب عليها في شرعنا المطهر أجورا عظيمة، ولكنهم لا يؤصلون في الشباب معنى الجهاد الحقيقي في سبيل الله والفرق بين قتال الكفار وقتال غيرهم، والفرق بين الجهاد وبين غيره من أنواع القتال الجائزة والممنوعة، ولا يهتمون ببيان شروطه الواجب توافرها ليكون الجهاد مشروعا، ولا تكون الراية المرفوعة فيه راية عمية نهي عن القتال تحتها, تجاهل الإخوان كل ذلك لأن أغراضهم الحزبية تتنافى مع بيان ذلك.
ولما كان الشعار الذي رفعوه ليغطوا به أغراضهم السلطوية هو تحكيم الشريعة أولوا نصوص الشرع فأفهموا الأغرار الأغمار من الشباب أن خصومهم على اختلاف توجهاتهم لا يريدون تحكيم الشريعة, فهم إما أعداء للدين، وإما موالون لأعداء الدين، وزرعوا في عقولهم أنهم على حق وأن قتالهم يستمد شرعيته من نصوص الشريعة، ومنها قول الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} وقوله تعالى: { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، وهذا نادر العمراني يوظف حديث {القتلى ثلاثة} توظيفا حزبيا بعيدا عن التأصيل العلمي للشباب.
*رد الصحابة لشبهة الجهاد المزعوم عند الإخوان:
وهذا عبد الله بن عمر وسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين يردان على هذه الشبهة.
جاء في صحيح البخاري، باب قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
4243 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي فقالا ألم يقل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فقال قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمرو المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه قال يا ابن أخي بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت قال يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله قاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة قال فما قولك في علي وعثمان قال أما عثمان فكأن الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده فقال هذا بيته حيث ترون
قال ابن حجر في الفتح في شرح الحديث: " قوله : ( ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله ) أطلق على قتال من يخرج عن طاعة الإمام جهادا وسوى بينه وبين جهاد الكفار بحسب اعتقاده وإن كان الصواب عند غيره خلافه ، وأن الذي ورد في الترغيب في الجهاد خاص بقتال الكفار ، بخلاف قتال البغاة فإنه وإن كان مشروعا لكنه لا يصل الثواب فيه إلى ثواب من قاتل الكفار ، ولا سيما إن كان الحامل إيثار الدنيا .
وفي صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد رحمه الله قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَة}.
فانظر يا رعاك الله إلى فقه الصحابة كيف فرقوا بين قتال وقتال, قاتل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تكون فتنة وهي الشرك، وكان الدين كله لله، واعتزل من اعتزل منهم القتال حيث قدر أن القتال بين المسلمين سيترتب عنه عواقب غير محمودة، ومما هو معلوم أن القتال, سواء أكان للكفار، أو قتال لفئة باغية لا بد أن يكون تحت راية إمام شرعي استتب له الأمر واستقر على إمامته المسلمون, إما بيعة، وإما تغلبا، وفي غير هذا يسمى القتال قتال فتنة يترتب عليه مفاسد عظيمة, من كثرة لسفك الدماء في غير طائل، ومن استباحة العدو للمسلمين بضعفهم وتفككهم، إلى غير ذلك. وغاب فقه الصحابة لهذه الأمور عن الإخوان ومن خرج من تحت عباءتهم, ففي عصرنا هذا عمد شيوخ الإخوان والمقاتلة إلى تجميع أكبر عدد من الشباب للقتال بهذه الشبهة التي ردها الصحابة رضوان الله عليهم من قبل من أجل تحقيق الأغراض الحزبية ولكي تعلم أن قتالهم على غير أساس شرعي انظر إلى تحالفهم أول الأمر مع الدواعش والقاعدة، مكونين ما يعرف بمجالس الشورى. ثم اقتضت مصالحهم التخلص منهم لإرضاء رغبات داخلية وخارجية لكن طال نفس الحرب وفتح الإخوان والمقاتلة على أنفسهم جبهات كثيرة للقتال استهلكت فيها كثير من طاقاتهم البشرية حيث صار أصدقاء الأمس من قاعدة ودواعش أعداء اليوم وتغير المواقف بهذه الدرجة يدل على عدم ثبات الأصول والمبادئ، وحيث إنه لا بد من استمرارهم في حربهم لئلا يخسروا الداعمين للوصول إلى الحكم، أو يدرجوا ضمن قوائم الأرهاب، سعى نادر العمراني ومن لف لفه إلى استجلاب مزيد من الوقود البشري للاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة.
وذلك بما جرت به مع الأسف الشديد عادة الإخوان والمقاتلة إلى توظيف الحماسة الدينية للشباب بتوظيف نصوص الشريعة وتأويلها على حسب أغراضهم بدون أن يكون غرضهم التأصيل العلمي الصحيح، بل بالتلبيس والتضليل, ومن تلك القضايا التي وظفوها قضية الجهاد و(الشهادة في سبيل الله).
*العمراني يخفي عن الشباب شرط من شرطي قبول العمل وهو المتابعة لأغراض حزبية:
أقام الإخوان والمقاتلة الدنيا ولم يقعدوها عندما شاع نبأ اغتيال العمراني متهمين بذلك السلفيين وهم ومنهجهم براء من سفك الدماء بهذه الطريقة، ومتناسين أن العمراني ذاته مارس هذه الطريقة بتوظيف نصوص شرعية تخدم هذه الجماعات الضالة بمزيد من سفك الدماء.
كتب نادر العمراني مقالا في موقعه الرسمي تحت عنوان, [حديث القتلى ثلاثة]جاء فيه:
(للشهيد بشارات عدة، بشَّره الله بها ورسوله ، ولست بصدد حصرها وتعدادها. وإنَّما مرادي أن أنبِّه على واحدة منها، يغفَل عنها الكثير من الناس، خاصَّة في أيامنا هذه. فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ لا دليل عليه.
فليس من شرط المجاهد ألاَّ يكون خطَّاء، وليس من شرط الشهيد أن يكون كاملاً، بل الشرط أن يكون مؤمناً بالله ورسوله ، مخلصاً لله في عمله وإقدامه. ومتى تحقق فيه هذان الشرطان، استحقَّ وعد الله له).
ترك العمراني الكلام في تأصيل المسائل الشرعية عند الشباب, فترك تعليمهم شرطا قبول العمل, فلنيل الشهادة عند العمراني شرطان هما: الإيمان بالله ورسوله، وإخلاص العمل لله. نعم، لا بد من وجود أصل الإيمان الذي هو الشهادتان لقبول الأعمال التي هي من مسمى الإيمان، وهو ما عبر عنه في أحد روايات حديث أركان الإسلام عن ابن عمر ب{إيمان بالله ورسوله}، وقد تقدم، قال ابن رجب رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: {أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " حَجٌّ مَبْرُورٌ }:
" وأما حديث أبي هريرة: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في حديث: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، وفي رواية ذكر: "الإيمان بالله ورسوله" بدل "الشهادتين"؛ فدل على أن المراد بهما واحد؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان "الجهاد" ثم "الحج"، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما".
فالشهادتان ركن لا يكون الإسلام إلا بهما، ثم تأتي بقية الشرائع والأعمال التي لا تصح إلا بشرطين ذكر العمراني أحدهما وأغفل الآخر, فالذي ذكره العمراني الإخلاص وهو مندرج في الشهادتين، والشرط الذي أغفله المتابعة بأن يكون العمل على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ذكر العمراني هذا الشرط لتبين العاقل الفارق بين الجهاد الذي هو مشروع لئلا تكون فتنة وهي الشرك والقتال الذي هو فتنة من أجل السلطة، ولافتضح أمر الإخوان والمقاتلة.
ترك شرط المتابعة مع أنه منصوص عليه في كتاب الله, جاء في مقال ماتع في موقع راية الإصلاح تحت عنوان: [إخلاص الدين لله وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم]: "الله عزّ وجلّ لم ينصّ على أنّه يتقبّل العمل الأكثر من حيث الكميّة، ولكنّه ينصّ دائما على أنّه يتقبّل العمل الأحسن، كما في قوله سبحانه: ﴿إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿إِنَا لاَ نُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنّ العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقْبل، وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنّة».
وقال سعيد بن جبير والحسن البصري رحمهما الله: «لا يُقبل قول إلاّ بعمل، ولا يُقبل عمل إلاّ بقول، ولا يُقبل قول وعمل إلاّ بنيّة، ولا يُقبل قول وعمل ونيّة إلاّ بنيّة موافقة السنّة». انظر شرح أصول الإعتقاد للالكائي (18)، (20).
وعن سفيان بن عبد الله الثقفيّ قال: «قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا، قال: قل آمنت بالله ثمّ استقم» رواه مسلم.
وقد فسّر هذا بعض السّلف بالإخلاص والمتابعة، روى ابن بطّة في «الإبانة /الإيمان» (156) بسند صحيح عن سلام بن مسكين قال: كان قتادة إذا تلا: ﴿إِنَّ الّذين قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، قال: «إنّكم قد قلتم ربّنا الله، فاستقيموا على أمر الله، وطاعته، وسنّة نبيّكم، وأمضوا حيث تؤمرون، فالاستقامة أن تلبث على الإسلام، أن تلبث على الإسلام، والطريقة الصالحة، ثمّ لا تمرق منها، ولا تخالفها، ولا تشذّ عن السنّة، ولا تخرج عنها ...».
وفي هذا المعنى قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ من قَبْلَ أَنْ يأْتِيَكُمْ العَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ﴾، فأمرَ باتّباع أحسن ما أنزل، وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن اقتفى أثر رسول الله في ذلك، وهذا بعد أن أمر الله عزّ وجلّ بالإسلام له في قوله: ﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، والإسلام إذا جاء متعدّيًا لزم حمله على الإخلاص", فلو نص العمراني على شرط المتابعة لافتضح بأن حربه حزبية, حيث لا أمام شرعيا، ولا راية واضحة، فكيف يسمى جهادا في سبيل الله لتحكيم شرع الله؟!
*استغلال الحزبيين لجهل الشباب بالدين وتعميقه فيهم:
ترك العمراني تعليم الشباب الشروط الشرعية للجهاد وما يجب أن يتوفر فيه، لأنه لو علمهم ذلك لتبين كثير من التناقضات التي في مواقف هذه الجماعات, فلا بد للقتال من إمام يقاتل تحت رايته، والإخوان والمقاتلة لم تعد لهم ولاية بنصوص المواد التي وافقوا عليها وبسطوا الفتاوى في إثبات شرعيتها وفيها تحديد نهاية جسم المؤتمر الوطني، وتعنتوا بعدها في التمسك بالسلطة بحجج واهية تتمثل في إجراءات شكلية في مكان استلام وتسليم، فإن علموا الشباب أن من شروط الجهاد القتال تحت راية واضحة مع إمام شرعي فستنهال عليهم الأسئلة, سسيسألون العمراني ويقولون له هو ومن معه: ما حكم القتال تحت راية من انتهت ولايته؟ وماذا يسمى من يقاتل بعد انتهاء ولايته في الشرع؟ وهل تثبت الولاية شرعا وتنفى من أجل إجراءات تتعلق باستلام وتسليم؟ وكيف تفتون أن من يقاتل تحت راية من انتهت ولايته يكون شهيدا في سبيل الله وفي نصوص الشرع أنه لا يحكم لأحد بالشهادة إلا من جزم له الشارع الحكيم بها وهو يقاتل تحت راية شرعية واضحة فكيف بإثبات الشهادة في سبيل الله لمن يقاتل تحت راية من انتهت ولايته وهو يعلم بفترة انتهاء ولايته ووافق عليها أولا؟ وهو لا يقاتل كفارا بل يقاتل إخوانه في الدين والوطن؟ والمشكلة التي لا يستطيع الإخوان والمقاتلة تبريرها أن الوسيلة التي أوصلتهم إلى تولي مقاليد الأمور وبذلوا الجهد في إثبات شرعيتها أولا وهي الانتخابات هي الوسيلة ذاتها التي سلبتهم هذا الحق فتعنتوا؟
*القيد الذي يؤكد أن العمراني أراد توظيف النصوص لغرض حزبي:
ترك العمراني تبصير الشباب بشروط الجهاد مركزا على حقيقة واحدة يريدها، هي التي يغفل عنها الناس خاصة في أيامنا هذه كما يقول العمراني، ولعلك أيها القارئ الكريم تركز على هذا القيد [في أيامنا هذه]، وتربط بينه وبين ما يحدث فيها من أحداث جارية في بلادنا ليتبين لك الأمر، وهذا إن دل فإنما يدل على توظيف للنص أراده العمراني لا من باب تأصيل الشباب تأصيلا صحيحا.
ها هو ذا نادر العمراني لما أراد توظيف النصوص لأغراض حزبية يخفي كثيرا من الأمور عن الجهاد والشهادة فلا يبدي إلا ما أراده, فيظن القارئ أول وهلة حين يطالع قول العمراني: (فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ)، أنه سيبصر الشباب بما ينبغي أن يتوفر في الجهاد الشرعي الذي تترتب عليه الشهادة لمن يقتل في سبيل الله،, ، لكنه لما ساق الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وحسن إسناده المنذري والألباني رحمة الله على الجميع أراد استجلاب القوة المعطلة من الشباب عن الحرب، وذلك الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: { القَتْلى ثَلاثةٌ:
رَجَلٌ مُؤمنٌ جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يُقتلَ، فذلك الشهيد المُمْتَحَن في خَيمة الله تحت عرشه. ولا يَفْضُلُه النبيون إلاَّ بفضل درجة النبوة ورجل مؤمن قَرَفَ على نفسه من الذنوب والخطايا، جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فتلك مَصْمَصَةٌ مَحَتْ ذنوبَه وخطاياه. إنَّ السَّيفَ محَّاءٌ للخطايا، وأُدخِل من أي أبواب الجنة شاء؛ فإنَّ لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض.
ورجلٌ منافق، جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فذلك في النار. إنَّ السيف لا يمحو النفاقَ}
وها هو يوظف الحديث توظيفا حزبيا, فأثبت أن المجاهدين والشهداء على منزلتين, منزلة كاملي الإيمان, وهم من يقاتلون في حزبه وشربوا أفكار الإخوان والمقاتلة القائم على الطاعة العمياء لمشايخهم بدون تفهم الأدلة فكل ما يقوله مشايخهم حق لا يقبل المناقشة، فجعل هؤلاء الخارجين بالسيف في وجه إمامهم كاملي الإيمان، وأهل هذه المنزلة كثير منهم منتظم في الحرب، والمنزلة الثانية المجاهدون والشهداء أصحاب المعاصي الذين لم ينخرطوا في حزبهم وتأثروا بهم أو الذين انشغلوا بالدنيا وهم بعيد عن هذه التجاذبات السياسية والقتالية، وهؤلاء يهدف العمراني لانخراطهم مع حزبه لأن هذه الحرب التي يخوضها الإخوان طال نفسها وأتت على كثير من الأغرار الأغمار من شبابهم، فيطمح العمراني ومن لف لفه إلى انخراط هؤلاء الشباب في معركتهم الحزبية من أجل السلطة موظفا هذا الحديث في وعدهم أن ينالوا الشهادة على ما عندهم من معاصي, بدون أن يذكرهم بالتوبة، وبدون أن يبصرهم بشرط المتابعة لرسول الله فيفضح حزبه. فأنت يا من ابتليت بالزنا وشرب الخمر وغير ذلك ما هو إلا أن تقاتل معنا في أيامنا هذه لتنال الشهادة، لا فرق في هذا بينمعصية ومعصية. هذا ما يحتمله الإجمال في كلام العمراني.
وقد نص أهل العلم أن الشهيد يغفر له كل ذنب في حق الله لا في حقوق الآدميين, روى مسلم (1886) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ ) .
وروى مسلم (114) عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَلَّا ، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ) قَالَ : فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ : أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ " .
وهذا دأب هؤلاء المشايخ, يوردون النصوص على ما يريدون بدون ذكر مقيداته أو مبيناته،, أو تفسيراته على فهم السلف الصالح، لأن غرضهم التوظيف للأغراض الحزبية لا التأصيل العلمي الصحيح. والله تعالى أعلم.
ملحوظة:
مقال العمراني من هنا:
http://naderomrani.ly/article/323#sdfootnote2sym
يركز أهل الضلال من إخوان ومن خرج من تحت عباءتهم على قضية الجهاد والشهادة, لأنه بهما يقدم الشباب أرواحهم طمعا في نيل الشهادة التي رتب عليها في شرعنا المطهر أجورا عظيمة، ولكنهم لا يؤصلون في الشباب معنى الجهاد الحقيقي في سبيل الله والفرق بين قتال الكفار وقتال غيرهم، والفرق بين الجهاد وبين غيره من أنواع القتال الجائزة والممنوعة، ولا يهتمون ببيان شروطه الواجب توافرها ليكون الجهاد مشروعا، ولا تكون الراية المرفوعة فيه راية عمية نهي عن القتال تحتها, تجاهل الإخوان كل ذلك لأن أغراضهم الحزبية تتنافى مع بيان ذلك.
ولما كان الشعار الذي رفعوه ليغطوا به أغراضهم السلطوية هو تحكيم الشريعة أولوا نصوص الشرع فأفهموا الأغرار الأغمار من الشباب أن خصومهم على اختلاف توجهاتهم لا يريدون تحكيم الشريعة, فهم إما أعداء للدين، وإما موالون لأعداء الدين، وزرعوا في عقولهم أنهم على حق وأن قتالهم يستمد شرعيته من نصوص الشريعة، ومنها قول الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} وقوله تعالى: { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، وهذا نادر العمراني يوظف حديث {القتلى ثلاثة} توظيفا حزبيا بعيدا عن التأصيل العلمي للشباب.
*رد الصحابة لشبهة الجهاد المزعوم عند الإخوان:
وهذا عبد الله بن عمر وسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين يردان على هذه الشبهة.
جاء في صحيح البخاري، باب قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
4243 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي فقالا ألم يقل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فقال قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمرو المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه قال يا ابن أخي بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت قال يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله قاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة قال فما قولك في علي وعثمان قال أما عثمان فكأن الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده فقال هذا بيته حيث ترون
قال ابن حجر في الفتح في شرح الحديث: " قوله : ( ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله ) أطلق على قتال من يخرج عن طاعة الإمام جهادا وسوى بينه وبين جهاد الكفار بحسب اعتقاده وإن كان الصواب عند غيره خلافه ، وأن الذي ورد في الترغيب في الجهاد خاص بقتال الكفار ، بخلاف قتال البغاة فإنه وإن كان مشروعا لكنه لا يصل الثواب فيه إلى ثواب من قاتل الكفار ، ولا سيما إن كان الحامل إيثار الدنيا .
وفي صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد رحمه الله قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَة}.
فانظر يا رعاك الله إلى فقه الصحابة كيف فرقوا بين قتال وقتال, قاتل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تكون فتنة وهي الشرك، وكان الدين كله لله، واعتزل من اعتزل منهم القتال حيث قدر أن القتال بين المسلمين سيترتب عنه عواقب غير محمودة، ومما هو معلوم أن القتال, سواء أكان للكفار، أو قتال لفئة باغية لا بد أن يكون تحت راية إمام شرعي استتب له الأمر واستقر على إمامته المسلمون, إما بيعة، وإما تغلبا، وفي غير هذا يسمى القتال قتال فتنة يترتب عليه مفاسد عظيمة, من كثرة لسفك الدماء في غير طائل، ومن استباحة العدو للمسلمين بضعفهم وتفككهم، إلى غير ذلك. وغاب فقه الصحابة لهذه الأمور عن الإخوان ومن خرج من تحت عباءتهم, ففي عصرنا هذا عمد شيوخ الإخوان والمقاتلة إلى تجميع أكبر عدد من الشباب للقتال بهذه الشبهة التي ردها الصحابة رضوان الله عليهم من قبل من أجل تحقيق الأغراض الحزبية ولكي تعلم أن قتالهم على غير أساس شرعي انظر إلى تحالفهم أول الأمر مع الدواعش والقاعدة، مكونين ما يعرف بمجالس الشورى. ثم اقتضت مصالحهم التخلص منهم لإرضاء رغبات داخلية وخارجية لكن طال نفس الحرب وفتح الإخوان والمقاتلة على أنفسهم جبهات كثيرة للقتال استهلكت فيها كثير من طاقاتهم البشرية حيث صار أصدقاء الأمس من قاعدة ودواعش أعداء اليوم وتغير المواقف بهذه الدرجة يدل على عدم ثبات الأصول والمبادئ، وحيث إنه لا بد من استمرارهم في حربهم لئلا يخسروا الداعمين للوصول إلى الحكم، أو يدرجوا ضمن قوائم الأرهاب، سعى نادر العمراني ومن لف لفه إلى استجلاب مزيد من الوقود البشري للاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة.
وذلك بما جرت به مع الأسف الشديد عادة الإخوان والمقاتلة إلى توظيف الحماسة الدينية للشباب بتوظيف نصوص الشريعة وتأويلها على حسب أغراضهم بدون أن يكون غرضهم التأصيل العلمي الصحيح، بل بالتلبيس والتضليل, ومن تلك القضايا التي وظفوها قضية الجهاد و(الشهادة في سبيل الله).
*العمراني يخفي عن الشباب شرط من شرطي قبول العمل وهو المتابعة لأغراض حزبية:
أقام الإخوان والمقاتلة الدنيا ولم يقعدوها عندما شاع نبأ اغتيال العمراني متهمين بذلك السلفيين وهم ومنهجهم براء من سفك الدماء بهذه الطريقة، ومتناسين أن العمراني ذاته مارس هذه الطريقة بتوظيف نصوص شرعية تخدم هذه الجماعات الضالة بمزيد من سفك الدماء.
كتب نادر العمراني مقالا في موقعه الرسمي تحت عنوان, [حديث القتلى ثلاثة]جاء فيه:
(للشهيد بشارات عدة، بشَّره الله بها ورسوله ، ولست بصدد حصرها وتعدادها. وإنَّما مرادي أن أنبِّه على واحدة منها، يغفَل عنها الكثير من الناس، خاصَّة في أيامنا هذه. فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ لا دليل عليه.
فليس من شرط المجاهد ألاَّ يكون خطَّاء، وليس من شرط الشهيد أن يكون كاملاً، بل الشرط أن يكون مؤمناً بالله ورسوله ، مخلصاً لله في عمله وإقدامه. ومتى تحقق فيه هذان الشرطان، استحقَّ وعد الله له).
ترك العمراني الكلام في تأصيل المسائل الشرعية عند الشباب, فترك تعليمهم شرطا قبول العمل, فلنيل الشهادة عند العمراني شرطان هما: الإيمان بالله ورسوله، وإخلاص العمل لله. نعم، لا بد من وجود أصل الإيمان الذي هو الشهادتان لقبول الأعمال التي هي من مسمى الإيمان، وهو ما عبر عنه في أحد روايات حديث أركان الإسلام عن ابن عمر ب{إيمان بالله ورسوله}، وقد تقدم، قال ابن رجب رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: {أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " حَجٌّ مَبْرُورٌ }:
" وأما حديث أبي هريرة: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في حديث: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، وفي رواية ذكر: "الإيمان بالله ورسوله" بدل "الشهادتين"؛ فدل على أن المراد بهما واحد؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان "الجهاد" ثم "الحج"، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما".
فالشهادتان ركن لا يكون الإسلام إلا بهما، ثم تأتي بقية الشرائع والأعمال التي لا تصح إلا بشرطين ذكر العمراني أحدهما وأغفل الآخر, فالذي ذكره العمراني الإخلاص وهو مندرج في الشهادتين، والشرط الذي أغفله المتابعة بأن يكون العمل على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ذكر العمراني هذا الشرط لتبين العاقل الفارق بين الجهاد الذي هو مشروع لئلا تكون فتنة وهي الشرك والقتال الذي هو فتنة من أجل السلطة، ولافتضح أمر الإخوان والمقاتلة.
ترك شرط المتابعة مع أنه منصوص عليه في كتاب الله, جاء في مقال ماتع في موقع راية الإصلاح تحت عنوان: [إخلاص الدين لله وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم]: "الله عزّ وجلّ لم ينصّ على أنّه يتقبّل العمل الأكثر من حيث الكميّة، ولكنّه ينصّ دائما على أنّه يتقبّل العمل الأحسن، كما في قوله سبحانه: ﴿إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿إِنَا لاَ نُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنّ العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقْبل، وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنّة».
وقال سعيد بن جبير والحسن البصري رحمهما الله: «لا يُقبل قول إلاّ بعمل، ولا يُقبل عمل إلاّ بقول، ولا يُقبل قول وعمل إلاّ بنيّة، ولا يُقبل قول وعمل ونيّة إلاّ بنيّة موافقة السنّة». انظر شرح أصول الإعتقاد للالكائي (18)، (20).
وعن سفيان بن عبد الله الثقفيّ قال: «قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا، قال: قل آمنت بالله ثمّ استقم» رواه مسلم.
وقد فسّر هذا بعض السّلف بالإخلاص والمتابعة، روى ابن بطّة في «الإبانة /الإيمان» (156) بسند صحيح عن سلام بن مسكين قال: كان قتادة إذا تلا: ﴿إِنَّ الّذين قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، قال: «إنّكم قد قلتم ربّنا الله، فاستقيموا على أمر الله، وطاعته، وسنّة نبيّكم، وأمضوا حيث تؤمرون، فالاستقامة أن تلبث على الإسلام، أن تلبث على الإسلام، والطريقة الصالحة، ثمّ لا تمرق منها، ولا تخالفها، ولا تشذّ عن السنّة، ولا تخرج عنها ...».
وفي هذا المعنى قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ من قَبْلَ أَنْ يأْتِيَكُمْ العَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ﴾، فأمرَ باتّباع أحسن ما أنزل، وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن اقتفى أثر رسول الله في ذلك، وهذا بعد أن أمر الله عزّ وجلّ بالإسلام له في قوله: ﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، والإسلام إذا جاء متعدّيًا لزم حمله على الإخلاص", فلو نص العمراني على شرط المتابعة لافتضح بأن حربه حزبية, حيث لا أمام شرعيا، ولا راية واضحة، فكيف يسمى جهادا في سبيل الله لتحكيم شرع الله؟!
*استغلال الحزبيين لجهل الشباب بالدين وتعميقه فيهم:
ترك العمراني تعليم الشباب الشروط الشرعية للجهاد وما يجب أن يتوفر فيه، لأنه لو علمهم ذلك لتبين كثير من التناقضات التي في مواقف هذه الجماعات, فلا بد للقتال من إمام يقاتل تحت رايته، والإخوان والمقاتلة لم تعد لهم ولاية بنصوص المواد التي وافقوا عليها وبسطوا الفتاوى في إثبات شرعيتها وفيها تحديد نهاية جسم المؤتمر الوطني، وتعنتوا بعدها في التمسك بالسلطة بحجج واهية تتمثل في إجراءات شكلية في مكان استلام وتسليم، فإن علموا الشباب أن من شروط الجهاد القتال تحت راية واضحة مع إمام شرعي فستنهال عليهم الأسئلة, سسيسألون العمراني ويقولون له هو ومن معه: ما حكم القتال تحت راية من انتهت ولايته؟ وماذا يسمى من يقاتل بعد انتهاء ولايته في الشرع؟ وهل تثبت الولاية شرعا وتنفى من أجل إجراءات تتعلق باستلام وتسليم؟ وكيف تفتون أن من يقاتل تحت راية من انتهت ولايته يكون شهيدا في سبيل الله وفي نصوص الشرع أنه لا يحكم لأحد بالشهادة إلا من جزم له الشارع الحكيم بها وهو يقاتل تحت راية شرعية واضحة فكيف بإثبات الشهادة في سبيل الله لمن يقاتل تحت راية من انتهت ولايته وهو يعلم بفترة انتهاء ولايته ووافق عليها أولا؟ وهو لا يقاتل كفارا بل يقاتل إخوانه في الدين والوطن؟ والمشكلة التي لا يستطيع الإخوان والمقاتلة تبريرها أن الوسيلة التي أوصلتهم إلى تولي مقاليد الأمور وبذلوا الجهد في إثبات شرعيتها أولا وهي الانتخابات هي الوسيلة ذاتها التي سلبتهم هذا الحق فتعنتوا؟
*القيد الذي يؤكد أن العمراني أراد توظيف النصوص لغرض حزبي:
ترك العمراني تبصير الشباب بشروط الجهاد مركزا على حقيقة واحدة يريدها، هي التي يغفل عنها الناس خاصة في أيامنا هذه كما يقول العمراني، ولعلك أيها القارئ الكريم تركز على هذا القيد [في أيامنا هذه]، وتربط بينه وبين ما يحدث فيها من أحداث جارية في بلادنا ليتبين لك الأمر، وهذا إن دل فإنما يدل على توظيف للنص أراده العمراني لا من باب تأصيل الشباب تأصيلا صحيحا.
ها هو ذا نادر العمراني لما أراد توظيف النصوص لأغراض حزبية يخفي كثيرا من الأمور عن الجهاد والشهادة فلا يبدي إلا ما أراده, فيظن القارئ أول وهلة حين يطالع قول العمراني: (فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ)، أنه سيبصر الشباب بما ينبغي أن يتوفر في الجهاد الشرعي الذي تترتب عليه الشهادة لمن يقتل في سبيل الله،, ، لكنه لما ساق الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وحسن إسناده المنذري والألباني رحمة الله على الجميع أراد استجلاب القوة المعطلة من الشباب عن الحرب، وذلك الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: { القَتْلى ثَلاثةٌ:
رَجَلٌ مُؤمنٌ جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يُقتلَ، فذلك الشهيد المُمْتَحَن في خَيمة الله تحت عرشه. ولا يَفْضُلُه النبيون إلاَّ بفضل درجة النبوة ورجل مؤمن قَرَفَ على نفسه من الذنوب والخطايا، جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فتلك مَصْمَصَةٌ مَحَتْ ذنوبَه وخطاياه. إنَّ السَّيفَ محَّاءٌ للخطايا، وأُدخِل من أي أبواب الجنة شاء؛ فإنَّ لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض.
ورجلٌ منافق، جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فذلك في النار. إنَّ السيف لا يمحو النفاقَ}
وها هو يوظف الحديث توظيفا حزبيا, فأثبت أن المجاهدين والشهداء على منزلتين, منزلة كاملي الإيمان, وهم من يقاتلون في حزبه وشربوا أفكار الإخوان والمقاتلة القائم على الطاعة العمياء لمشايخهم بدون تفهم الأدلة فكل ما يقوله مشايخهم حق لا يقبل المناقشة، فجعل هؤلاء الخارجين بالسيف في وجه إمامهم كاملي الإيمان، وأهل هذه المنزلة كثير منهم منتظم في الحرب، والمنزلة الثانية المجاهدون والشهداء أصحاب المعاصي الذين لم ينخرطوا في حزبهم وتأثروا بهم أو الذين انشغلوا بالدنيا وهم بعيد عن هذه التجاذبات السياسية والقتالية، وهؤلاء يهدف العمراني لانخراطهم مع حزبه لأن هذه الحرب التي يخوضها الإخوان طال نفسها وأتت على كثير من الأغرار الأغمار من شبابهم، فيطمح العمراني ومن لف لفه إلى انخراط هؤلاء الشباب في معركتهم الحزبية من أجل السلطة موظفا هذا الحديث في وعدهم أن ينالوا الشهادة على ما عندهم من معاصي, بدون أن يذكرهم بالتوبة، وبدون أن يبصرهم بشرط المتابعة لرسول الله فيفضح حزبه. فأنت يا من ابتليت بالزنا وشرب الخمر وغير ذلك ما هو إلا أن تقاتل معنا في أيامنا هذه لتنال الشهادة، لا فرق في هذا بينمعصية ومعصية. هذا ما يحتمله الإجمال في كلام العمراني.
وقد نص أهل العلم أن الشهيد يغفر له كل ذنب في حق الله لا في حقوق الآدميين, روى مسلم (1886) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ ) .
وروى مسلم (114) عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَلَّا ، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ) قَالَ : فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ : أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ " .
وهذا دأب هؤلاء المشايخ, يوردون النصوص على ما يريدون بدون ذكر مقيداته أو مبيناته،, أو تفسيراته على فهم السلف الصالح، لأن غرضهم التوظيف للأغراض الحزبية لا التأصيل العلمي الصحيح. والله تعالى أعلم.
ملحوظة:
مقال العمراني من هنا:
http://naderomrani.ly/article/323#sdfootnote2sym
السبت، 19 مارس 2022
تنبيهات على منشور, من هو المشاحن الذي لا يغفر الله له في ليلة النصف من شعبان
تنبيهات على منشور, من هو المشاحن الذي لا يغفر الله له في ليلة النصف من شعبان .
ما أسهل كتابة المنشورات المزينة بالرموز التعبيرية، وما أسهل أن تشيع، وما أسهل أن تنال الثقة حين تنقل ممن نثق به، ويظن الكاتب لها أنه يصحح اعتقادات وأفكارا خاطئة سادت في الأمة، فنعجب بها وننقلها, بحماسة لنصرة الحق، أو لما نظنه أول وهلة أنه حق، نفرح بها على حين غفلة لما يزين المنشور من أسماء لامعة وآثار سلفية، ويركب من لا زاد له مركبا وعرا، ويغالب طريقا حزنا للبحث عن دقة هذه المنشورات، وكم يكون البحث مضنيا، وقد لا يكتب للتصويب الانتشار كما انتشرت هذه المنشورات، وعندئذ يزداد إعجاب المرء بالسلف وعجبه من قوة صبرهم حين حبسوا أنفسهم على تنقية الحديث وسبر صحيحه من سقيمه، وتتبع أحوال الرجال، فجزاهم الله خير الجزاء.
نقل أحد الإخوة الأفاضل منشورا حول فضل المغفرة ليلة النصف من شعبان أراد منه صاحبه تصحيح مفهوم خاطئ عن المشاحن الذي لا يغفر الله له تلك الليلة، وقد بناه صاحبه على أمرين, الإيماء إلى ضعف تصحيح الحديث، وغلط مفهوم المشاحن عند الناس.
قال صاحب المنشور:
"خطأ يقع في تفسير (المشاحن)"
أحببت تنبيه إخواني المسلمين على تفسير ومعنى قول النبي (أو مشاحن) في فضيلة النصف من شعبان على من أخذ بتصحيح العلامة الألباني رحمه الله تعالى
وعلى من أخذ بتصحيح الألباني للحديث
إلا أن تفسير كلمة مشاحن أرى كثير من إخواننا يفسرونهم خطأ بخلاف المراد
▪فهم يفسرون المشاحن بالمخاصم والحاقد والمشاكل وهذا خلاف المراد بل المعنى المبتدع والمخالف للسنة كما سترون في تفسير أهل العلم".
ثم استرسل في بيان مقصوده.
ومع هذا المنشور وقفتان:
الأولى: أقل ما يحتمله هذا الكلام الإشارة إلى الخلاف في التصحيح للحديث، أو أن فضيلة هذه الليلة متوقف على قبول تصحيح الشيخ الألباني رحمه الله لهذه الأحاديث، ودقة هذا التصحيح، فإن لم يكن تصحيح الشيخ الألباني رحمه الله للحديث دقيقا سقطت هذه الفضيلة، والحق أن مسائل الحديث في التصحيح والتضعيف فيها مباحث دقيقة، تحتاج إلى دربة ومران، ويحتاج من يريد إثبات عدم دقة التصحيح بإعلال المتقدمين لطرق الحديث إلى أن ينقض كلام الشيخ رحمه الله بعلم، والشيخ رحمه الله لم يغفل علل كل طريق، بل كان تعويله في التصحيح أو التحسين على مجموع الطرق،ففي السلسلة الصحيحة, (3/135) قال الشيخ رحمه الله:
"1144 - " يطلع الله تبارك وتعالى إلى خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه
إلا لمشرك أو مشاحن ".
حديث صحيح، روي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضا وهم معاذ
ابن جبل وأبو ثعلبة الخشني وعبد الله بن عمرو وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة
وأبي بكر الصديق وعوف ابن مالك وعائشة".
ثم ذكر هذه الشواهد الثمانية ومنها (3/136):
"3 - وأما حديث عبد الله بن عمرو فيرويه ابن لهيعة حدثنا حيي بن عبد الله عن
أبي عبد الرحمن الحبلي عنه. أخرجه أحمد (رقم 6642) .
قلت: وهذا إسناد لا بأس به في المتابعات والشواهد، قال الهيثمي: " وابن
لهيعة لين الحديث وبقية رجاله وثقوا ". وقال الحافظ المنذري: (3 / 283)
" وإسناده لين ".
قلت: لكن تابعه رشدين بن سعد بن حيي به. أخرجه ابن حيويه في " حديثه ". (3
/ 10 / 1) فالحديث حسن".
إلى أن قال رحمه الله (3/138-139):
"وجملة القول أن الحديث بمجموع هذه الطرق صحيح بلا ريب والصحة تثبت بأقل منها
عددا ما دامت سالمة من الضعف الشديد كما هو الشأن في هذا الحديث، فما نقله
الشيخ القاسمي رحمه الله تعالى في " إصلاح المساجد " (ص 107) عن أهل التعديل
والتجريح أنه ليس في فضل ليلة النصف من شعبان حديث صحيح، فليس مما ينبغي
الاعتماد عليه، ولئن كان أحد منهم أطلق مثل هذا القول فإنما أوتي من قبل
التسرع وعدم وسع الجهد لتتبع الطرق على هذا النحو الذي بين يديك. والله
تعالى هو الموفق".
فلا تلازم بين انفراد أي من المحدثين بتصحيح الحديث أو تحسينه، وبين مخالفة غيره من أهل العلم له، فالعبرة بتطبيق القواعد.
على أنه من جهة أخرى لم ينفرد الشيخ الألباني رحمه الله بالتصحيح، ففي لطائف المعارف لابن رجب, ص136
"وفي فضل ليلة نصف شعبان أحاديث أخر متعددة وقد اختلف فيها فضعفها الأكثرون وصحح ابن حبان بعضها وخرجه في صحيحه ومن أمثلها حديث عائشة".
وفي الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي (1/88):
"وَالْبَزَّارُ وَحَسَّنَهُ وَالدَّارَقُطْنِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ: «يَنْزِلُ اللَّهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ إلَّا رَجُلًا مُشْرِكًا أَوْ رَجُلًا فِي قَلْبِهِ شَحْنَاءُ»".
ولعل ما قصده من تحسين البزار هو ما جاء في مسنده, (1/206):
"حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: نا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَمِّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «§إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ لِأَخِيهِ» وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ غَيْرِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَعْلَى مَنْ رَوَاهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَإِنْ كَانَ فِي إِسْنَادِهِ شَيْءٌ فَجَلَالَةُ أَبِي بَكْرٍ تُحَسِّنُهُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ أَهْلُ الْعِلْمِ وَنَقَلُوهُ وَاحْتَمَلُوهُ فَذَكَرْنَاهُ لِذَلِكَ".
فمما قوي به الحديث عند البزار روايته عن غير أبي بكر من وجوه أخرى، وإن كان قد ينازع فيما ذكره من وجوه أخرى لتقوية الحديث، وقد قال (1/157):
"80 - وَقَدْ رَوَى مُصْعَبُ بْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَوْ عَمِّهِ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «§إِذَا كَانَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يَنْزِلُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَغْفِرُ لِعِبَادِهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ لِأَخِيهِ» وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذُكِرَتْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ فِي بَعْضِ أَسَانِيدِهَا ضَعْفٌ وَهِيَ عِنْدِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ مِمَّا لَمْ يَسْمَعْهَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ أَبِيهِ لِصِغَرِهِ وَلَكِنْ حَدَّثَ بِهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَذَكَرْنَا وَبَيَّنَا الْعِلَّةَ فِيهَا، وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْخَلْقِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقْدَمِهِمْ لَهُ صُحْبَةً وَلَكِنْ إِنَّمَا بَقِيَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَسِيرَ وَكَانَ مَشْغُولًا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ قَلَّ حَدِيثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
ففي كلامه هذا رد على بعض كلامه الأول في بعض وجوه التحسين التي ذكرها رحمه الله.
وقد قال أبو العلا محمد عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري (المتوفى: 1353هـ)، في تحفة الأحوذي, (3/365) عند تعليقه على حديث عائشة رضي الله عنها عند الترمذي:
"اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ وَرَدَ فِي فَضِيلَةِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ مَجْمُوعُهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا".
إلى أن قال (3/367):
"فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ بِمَجْمُوعِهَا حُجَّةٌ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ فِي فَضِيلَةِ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ شَيْءٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ".
وممن صحح الحديث الشيخ شعيب الأرنؤوط في المسند ط الرسالة، بتحقيقه هو وعادل مرشد، وآخرون، فمثلا جاء في طبعة المسند هذه (11/217)، في التعليق على حديث رقم, 6642:
"حديث صحيح بشواهده".
وكذلك ذكر في سنن ابن ماجه بتحقيقه (2/400).
والمهم أنه لم ينفرد الشيخ الألباني في كل هذه العصور المتعاقبة بتصحيح الحديث أو تحسينه، فأول من نقل عنه التصحيح ابن حبان كما مر نقله عند ابن رجب، إلى آخر من مر عنهم نقل التصحيح أو التحسين.
ومن جهة أخرى فالمعول في أحاديث الترغيب والترهيب إذا لم يكن ضعفها ضعفا شديدا هو الرجاء، فكيف بحديث فيه كل هذه الطرق المختلفة الشواهد والمتابعات؟ هذا مختصر ما نص عليه العلماء عند كلامهم عن العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال.
ولذا لما نقل ابن رجب الخلاف المتقدم قال بعد ذلك ص138-139:
"ويتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة وقبول الدعاء في تلك الليلة وقد روي: أنها: الشرك وقتل النفس والزنا وهذه الثلاثة أعظم الذنوب عند الله كما في حديث ابن مسعود المتفق على صحته أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم؟ قال "أن تجعل لله ندا وهو خلقك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك خسية أن يطعم معك" قال: ثم أي؟ قال: "أن تزاني حليلة جارك" فأنزل الله تعالى ذلك: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الآية".
فليت شعري، ماذا يفهم من كلام ابن رجب حين قال: "فيتعين ..." إلا الإشارة إلى أن الحديث في دائرة القبول، ويعول فيه على الرجاء؟!
الوقفة الثانية:
في تخطئة صاحب المنشور للمفهوم السائد عن الشحناء, حيث قال: "▪فهم يفسرون المشاحن بالمخاصم والحاقد والمشاكل وهذا خلاف المراد بل المعنى المبتدع والمخالف للسنة كما سترون في تفسير أهل العلم".
جاء في شرح السنة للبغوي رحمه الله (4/128):
"وَأَرَادَ بِالشَّحْنَاءِ: الْعَدَاوَةَ، وَقِيلَ: أَرَادَ صَاحِبَ الْبِدْعَةِ الْمُفَارِقَ لِلْجَمَاعَةِ".
فها هو رحمه الله يفسر معناها على الأصل ويصدر المعنى الثاني بقوله: "وقيل".
وفي لطائف المعارف 139:
"ومن الذنوب المانعة من المغفرة أيضا الشحناء وهي حقد المسلم على أخيه بغضا له لهوى نفسه وذلك يمنع أيضا من المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: انظروا هذين حتى يصطلحا" وقد فسر الأوزاعي هذه الشحناء المانعة بالذي في قلبه شحناء لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولا ريب أن هذه الشحناء أعظم جرما من مشاحنة الأقران بعضهم بعضا وعن الأوزاعي أنه قال المشاحن كل صاحب بدعة فارق عليها الأمة وكذا قال ابن ثوبان: المشاحن هو التارك لسنة النبي صلى الله عليه وسلم الطاعن على أمته السافك دماءهم وهذا الشحناء أعني شحناء البدعة توجب الطعن على جماعة المسلمين واستحلال دمائهم وأموالهم وأعراضهم كبدع الخوارج والروافض ونحوهم.
فأفضل الأعمال سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلها وأفضلها السلامة من شحناء أهل الأهواء والبدع التي تقتضي الطعن على سلف الأمة وبغضهم والحقد عليهم واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم ثم يلي ذلك سلامة القلب من الشحناء لعموم المسلمين وإرادة الخير لهم ونصيحتهم وأن يحب لهم ما يحب لنفسه وقد وصف الله تعالى المؤمنين عموما بأنهم يقولون: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
وفي المسند عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: "ثلاثة أيام يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة" فيطلع رجل واحد فاستضافه عبد الله بن عمرو فنام عنده ثلاثا لينظر عمله فلم ير له في بيته كبير عمل فأخبره بالحال فقال له هو ما ترى إلا أني أبيت وليس في قلبي شيء على أحد من المسلمين فقال عبد الله: "بهذا بلغ ما بلغ" وفي سنن ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟ قال: "كل مخموم القلب صدوق اللسان" قالوا: صدوق اللسان نعرفه فما مخموم القلب؟ قال: "هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد" قال بعض السلف: أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس".
ففي هذا النص من التجلية، وتفسير الحديث بنظيره من السنة, {أنظروا هذين حتى يصطلحا}، وبيان مراتب الشحناء ودرجاتها، وهو كلام لا يدع مجالا لوجود اختلاف بين مفهوم الناس للشحناء وما ورد من آثار سلفية ظاهرها التعارض.
وفي تحفة الأحوذي (3/365-66):
"وَمِنْهَا حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى فَأَطَالَ السُّجُودَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ قُبِضَ فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ قُمْتُ حَتَّى حَرَّكْتُ إِبْهَامَهُ فَتَحَرَّكَ فَرَجَعَ فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ وَفَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ يَا عَائِشَةُ أَوْ يَا حميراء أظننت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ خَاسَ بِك قُلْتُ لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ الله ولكني ظننت أنك قبضت طول سجودك فقال أَتَدْرِي أَيَّ لَيْلَةٍ هَذِهِ قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ هَذِهِ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَطَّلِعُ عَلَى عِبَادِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ وَيَرْحَمُ الْمُسْتَرْحِمِينَ وَيُؤَخِّرُ أَهْلَ الْحِقْدِ كَمَا هُمْ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ
وَقَالَ هَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْعَلَاءُ أَخَذَهُ مِنْ مَكْحُولٍ"
وفي السلسلة الصحيحة
"(المشاحن) قال ابن الأثير: " هو المعادي، والشحناء، العداوة، والتشاحن
تفاعل منه، وقال الأوزاعي: أراد بالمشاحن ها هنا صاحب البدعة المفارق لجماعة
الأمة "".
فظن صاحب المنشور أن الآثار المروية تخالف فهم الناس لهذا الحديث، وبنى تخطئته على ذلك، وليس كذلك، بل كل مقصود داخل في معنى الشحناء والمشاحنة، وقد ذهل هو نفسه عما نقله عن النهاية لابن الأثير، وإنما تفسير السلف في الآثار المروية من باب تفسير النوع بأحد أفراده، وقد بسط الكلام في هذا النوع من التفسير شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته في أصول التفسير، ونبه رحمه الله على أن بعض الناس يفهم من تعدد تفسيرات السلف للكلمة أو الآية الواحدة من القرآن التعارض، وإنما هو من التنبيه على النوع بأحد أنواعه، فليراجعه من شاء هنالك، ولا يبعد أن يكون تفسير السلف للشحناء هنا من هذا الباب، فنبه بعض السلف على معنى للشحناء يغفل عنه الناس.
وليس هذا من باب الرجم بالغيب، أو تقويل السلف ما لم يقولوه، فقد مضى نقل الرواية المرسلة التي فيها, { وَيُؤَخِّرُ أَهْلَ الْحِقْدِ كَمَا هُمْ}، وكذلك مر النقل عن ابن رجب رحمه الله في بيان عموم مفهوم الشحناء وما يدخل تحته.
فلنتنبه لمثل هذه المنشورات وجزاكم الله خيرا.
الخميس، 10 مارس 2022
ومضات حول حديث كفارة المجلس:
ومضات حول حديث كفارة المجلس:
لا ريب أن هذه الأسطر لن تأتي بجديد، غير أن فيها خلاصات يرجى أن تكون نافعة, فيها جمع متفرق، وفوائد عسى أن تكون مستحسنة، على قدر جهد المقل الضعيف، لعله ينتفع بها من يجدها على الشبكة فينتظم كاتب الأسطر في آخر سلك من دلوا على هدى، أو تصادف بقدر الله من لا صبر له على الذهاب للكتب، ومنهم الكاتب، فيجد فيها ضالة منشودة، هدانا الله لاغتنام كل خير، وتجاوز عنا جميعا.
ومعلوم ما قاله العلماء في الاستغفار أنه في ختام العمل الصالح كالطابع عليه إن كان تاما، أو جابرا للتقصير فيه، ولذا أمر الله به بعد الحج، وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار بع المفروضة، وهذه السنة في كفارة المجلس مما يتأكد بها هذا الأمر.
-هل لكفارة المجلس ذكر في القرآن؟!:
جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله (7/40 لقول الله تعالى في سورة الطور, {وسبح بحمد ربك حين تقوم{ ما نصه:
".وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيح، عَنْ مُجَاهِدٍ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ قَالَ: مِنْ كُلّ.
وقال الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ قَالَ: إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ قَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدِّمَشْقِيُّ، حدثنا محمد ابن شُعَيْبٍ، أَخْبَرَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَمْرِو الْحَضْرَمِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ؛ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ﴾ يَقُولُ: حِينَ تَقُومُ مِنْ كُلِّ مَجْلِسٍ، إِنْ كُنْتَ أَحْسَنْتَ ازْدَدْتَ خَيْرًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ هَذَا كَفَّارَةً لَهُ.
وَقَدْ قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي جَامِعِهِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ الجَزَرِي، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْفَقِيرِ؛ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَّمَ النَّبِيَّ ﷺ إِذَا قَامَ مِنَ مَجْلِسِهِ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ. قَالَ مَعْمَرٌ: وَسَمِعْتُ غَيْرَهُ يَقُولُ: هَذَا الْقَوْلُ كَفَّارَةُ الْمَجَالِسِ الْمَجَالِسِ.
وَهَذَا مُرْسَلٌ، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ مُسْنَدَةٌ مِنْ طُرُقٍ -يُقَوِّي بَعْضُهَا بَعْضًا-بِذَلِك".
ثم ذكر بالأسانيد ما روي من أحاديث مرفوعة.
زاد السيوطي في الدر المنثور (7/637) من مراسيل أبي العالية رحمه الله:
".وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، عَنْ زِيادِ بْنِ الحُصَيْنِ قالَ: «دَخَلْتُ عَلى أبِي العالِيَةِ، فَلَمّا أرَدْتُ أنْ أخْرُجَ مِن عِنْدِهِ قالَ: ألّا أُزَوِّدُكَ كَلِماتٍ عَلَّمَهُنَّ جِبْرِيلُ مُحَمَّدًا ﷺ؟ قُلْتُ: بَلى. قالَ: فَإنَّهُ لَمّا كانَ بِآخِرَةٍ كانَ إذا قامَ مِن مَجْلِسِهِ قالَ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وبِحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وأتُوبُ إلَيْكَ. فَقِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، ما هَؤُلاءِ الكَلِماتُ الَّتِي تَقُولُهُنَّ؟ قالَ: هُنَّ كَلِماتٌ عَلَّمَنِيهِنَّ جِبْرِيلُ، كَفّاراتٌ لِما يَكُونُ في المَجْلِسِ»"
وفي سلسلة لقاء الباب المفتوح-163a
تفسير سورة الطور الآيات ( 37- الى نهاية السورة ) وآيات اخرى مختارة وما يستفاد منها قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
"(( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ )) ((سبح بحمد ربك )) أي قل: سبحان الله وبحمده، حين تقوم من أي شيء ؟ حين تقوم من مجلسك، أو حين تقوم من منامك، المهم هي عامة، ولهذا كان كفارة المجلس أن يقول الإنسان: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك ) فينبغي للإنسان كلما قام من مجلس أن يختم مجلسه بهذا: ( سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك )".
ولا يخفاك أيها القارئ الكريم أن سوق هذا الكلام ليس ترجيحا لهذا القول، وإنما هو تنبيه على أن بعض أهل العلم جعل كفارة المجلس مندرجة ضمن تفسير هذه الآية, للآثار المروية عن السلف في تفسيرها.
--ما روي من الأحاديث المرفوعة عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها:
وفيها أربع مسائل:
ولا—الفترة التي واظب النبي صلى الله عليه وسلم على قولها فيها:
جاء في سنن أبي داود، تحقيق شعَيب الأرنؤوط - محَمَّد كامِل قره بللي، (7/223-224)، باب في كفارة المجلس، حديث رقم, 4859، بإسناد أبي داود، { عن أبي برْزَةَ الأسلمي، قال: كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول بأخَرَةٍ إذا أرادَ أن يقوم مِن المجلس: "سبحانَكَ اللهُمَّ وبِحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفِرُك وأتوبُ إليك"، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم -, إنكَ لَتقُولُ قولاً ما كنتَ تقولُه فيما مضَى، فقال: "كفارةٌ لما يكونُ في المجلسِ} .
جاء في هامشالتحقيق:
" إسناده صحيح. أبو هاشم: هو يحيى بن دينار، وأبو العالية: هو رفيع بن مهران.
وأخرجه النسائي في "الكبرى" (10187) من طريق عيسى، عن الحجاج بن دينار، بهذا الإسناد. وهو في "مسند أحمد" (19812).
وانظر ما سلف قبله من حديث أبي هريرة.
وأبو بَرْزَةَ: اسمه نضلة بن عُبيد أسلم قديماً وشهد فتح مكة".
قال الشيخ عبد المحسن العباد في شرحه على سنن أبي داود (552/15):
" أورد أبو داود حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه في كفارة المجلس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في آخر أمره، ويدل هذا على أن ذلك إنما حصل من الرسول صلى الله عليه وسلم في أواخر أيامه، أو آخر أمره عليه الصلاة والسلام، وأن على الإنسان أن يحرص على اتباع هذا الأمر، وعلى الإتيان بهذا الذكر ليكون كفارة لما يحصل، ويكون زيادة خير فيما إذا كان ليس هناك شيء مكفر وإنما المجالس مجالس خير مثل مجالس ذكر العلم، فيكون ذلك زيادة خير على خير، ونور على نور".
ثانيا—تحديد المواطن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها فيها:
عامة الأحاديث والآثار فيها ذكر المجلس بالعموم، لكن، روى النسائي في السنن الكبرى, (9/123) كتاب عمل اليوم والليلة، تفريع, (§مَا تَخْتِمُ بِهِ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ)، حديث رقم, 10067 ، بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: { مَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا قَطُّ، وَلَا تَلَا قُرْآنًا، وَلَا صَلَّى صَلَاةً إِلَّا خَتَمَ ذَلِكَ بِكَلِمَاتٍ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَاكَ مَا تَجْلِسُ مَجْلِسًا، وَلَا تَتْلُو قُرْآنًا، وَلَا تُصَلِّي صَلَاةً إِلَّا خَتَمْتَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟ قَالَ: " نَعَمْ، §مَنْ قَالَ خَيْرًا خُتِمَ لَهُ طَابَعٌ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ، وَمَنْ قَالَ شَرًّا كُنَّ لَهُ كَفَّارَةً: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ "}
وفي السنن الكبرى (2/98-99)، عن عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر رقم, 1268: { أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا جَلَسَ مَجْلِسًا أَوْ صَلَّى تَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ فَسَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنِ الْكَلِمَاتِ فَقَالَ: «§إِنْ تَكَلَّمَ بِخَيْرٍ كَانَ طَابِعًا عَلَيْهِنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ، سُبْحَانَكَ اللهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ»}.
ومن سياق اللفظ يظهر أنه اختصار من بعض الرواة للفظ السابق، ومع اختصاره يستفاد أن لفظ الصلاة فيه محفوظ، ولذا أورده النسائي في تفريع بعنوان, (§نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الذِّكْرِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ).
وفي عمل اليوم والليلة له (1/308-309)في تفريع, (مَا يَقُول إِذا جلس فِي مجْلِس كثر فِيهِ لغطه)، حديث رقم, 400، { عَن عَائِشَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا جلس مَجْلِسا أَو صلى صَلَاة تكلم بِكَلِمَات فَسَأَلت عَائِشَة عَن الْكَلِمَات فَقَالَ
إِن تكلم بِخَير كَانَ طابعاً عَلَيْهِنَّ إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَإِن تكلم بِغَيْر ذَلِك كَانَ كَفَّارَة لَهُ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْت أستغفرك وَأَتُوب إِلَيْك}.
والفائدة من إيراد هذا اللفظ الزيادة التي في الدعاء, "سبحانك اللهم وبحمدك"، بدل, "سبحانك وبحمدك".
وفائدة الحديث أنه يشمل المجالس التي يغشاها المرء مع غيره، وإذا جلس يتلو القرآن، أو إذا صلى، فيكون من أوراد ما بعد الصلاة كما فرع النسائي رحمه الله.
ثالثا—هل يقال دعاء كفارة المجلس مرة واحدة؟:
روى أبو داود في سننه, (7/223-224)، بتحقيق, شعَيب الأرنؤوط - محَمَّد كامِل قره بللي، باب في كفَّارةِ المجلس، حديث رقم, 4857: عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: " كلماتٌ لا يتكلَّمُ بهنَّ أحدٌ في مجلسه عندَ قيامه ثلاثَ مراتٍ إلا كُفِّرَ بهنَّ عنهُ، ولا يقولُهن في مجلِسِ خيرٍ ومجلسِ ذكرِ إلا خُتِمَ له بهنَّ عليه، كما يُختم بالخاتِم على الصحيفةِ: سُبحانَكَ اللهم وبحمدِك، لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفِرُك وأتوبُ إليك .
جاء في هامش التحقيق حول هذا الحديث:
" إسناده صحيح. وهو موقوف. ابن وهب: هو عبد الله، وعمرو: هو ابن الحارث بن يعقوب الأنصاري.
وأخرجه ابن حبان في "صحيه" (593)، والمزي في "تهذيب الكمال" 17/ 317 من طريق حرملة بن يحيى، بهذا الإسناد".
قال الشيخ الألباني رحمه الله في ضعيف الترغيب والترهيب ص459:
"921 - (3) [منكر موقوف]".
وقال في الهامش:
"قلت: فيه سعيد بن أبي هلال، وكان اختلط كما قال يحيى وأحمد، وفيه زيادة (ثلاث مرات)، وهي منكرة".
قال الشيخ عبد المحسن العباد في شرحه على سنن أبي داود (552/10):
"وقد أورد أبو داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه قال: (كلمات لا يتكلم بهن أحد في مجلسه عند قيامه ثلاث مرات إلا كفر بهن عنه).
الأحاديث وردت في الإتيان بهذا الذكر مرة واحدة، وهذا الحديث جاء فيه أنه يقولها ثلاث مرات، لكن الأحاديث الكثيرة والروايات المتعددة جاءت بأن الذكر يقال مرة واحدة، وقد صح الحديث بدون ذكر الثلاث، ولم يأت ذكر العدد إلا في هذا الموضع".
ثم قال بعد ذلك (552/11):
"وما ذكره عبد الله بن عمرو هنا ليس مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن له حكم الرفع؛ لأن مثل هذا لا يقال بالرأي".
وفي سعيد ابن أبي هلال رحمه الله كلام كثير، وتوثيق جليل، وتضعيف يسير، وعلى أي حال فمن اقتصر على الواحدة في نهاية المجلس موافقة لسائر الأحاديث فهو على صراط بين رشيد.
رابعا— في نوع المكفر من ذنوب المجلس:
في صحيح الترغيب والترهيب للشيخ الإلباني رحمه الله } (2/216):
1516 - (1) [صحيح] عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
"من جلس مجلساً كَثُرَ فيه لَغَطُه؛ فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك)؛ إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك".
رواه أبو داود والترمذي -واللفظ له والنسائي، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم، وقال الترمذي:
"حديث حسن صحيح غريب".
وفيه أيضا (2/217):
1519 - (4) [صحيح] وعن جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
"من قال: (سبحان الله وبحمده، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك). فقالها في مجلس ذكرٍ كان كالطابع يطبع عليه، ومن قالها في مجلس لغو كان كفارة له".
رواه النسائي والطبراني ورجالهما رجال "الصحيح"، والحاكم وقال:
"صحيح على شرط مسلم".
ففي هذين الحديثين بيان ما يغفر من الذنوب, فأما الحديث الأول ورد اللفظ بذكر اللغط، وأما في الثاني فورد لفظ اللغو، جاء في تحفة الإحوذي (9/276):
" قَوْلُهُ فَكَثُرَ بِضَمِّ الثَّاءِ لَغَطُهُ بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ تَكَلَّمَ بِمَا فِيهِ إِثْمٌ لِقَوْلِهِ غُفِرَ لَهُ
وَقَالَ الطِّيبِيُّ اللَّغَطُ بِالتَّحْرِيكِ الصَّوْتُ وَالْمُرَادُ بِهِ الْهُزْءُ مِنَ الْقَوْلِ وَمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَكَأَنَّهُ مُجَرَّدُ الصَّوْتِ الْعَرِيِّ عَنِ الْمَعْنَى".
وعلى هذا المعنى تنص قواميس اللغة.
وأما اللغو، فجاء عنه في لسان العرب:
" لغا : اللغو واللغا : السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره ولا يحصل منه على فائدة ولا على نفع . التهذيب : اللغو واللغا واللغوى ما كان من الكلام غير معقود عليه".
وعلى هذا، فلا تدخل الغيبة ولا النميمة ولا القذف وما أشبهها مما هو في حقوق العباد في هذا الحديث, لأن حقوق العباد مبنية على المشاحة, فلا بد فيها من استحلال صاحبها أو ما يقوم مقام الاستحلال فيما ليس فيه حد على التفصيلات المعلومة في كتب الأحكام، كذلك ما يناقض التوحيد مما يوجب الردة, فقد اشترط العلماء في كفر الردة أنه لا بد أن يصحبه بيان لما وقع فيه من تلبس بشيء من أمور الردة.
في شرح رياض الصالحين-56b، للشيخ ابن عثيمين ورد السؤال التالي:
" السائل : شيخ بارك الله فيك اللغط هذا يشمل الغيبة والنميمة؟
الشيخ : اللغط لا يشمل الغيبة، لأن الغيبة حق آدمي لكن قد ينفعه فيما بينه وبين الله، وأما صاحبه الذي اغتابه فلابد أن يستحل منه يقول له مثلًا إني قلت فيك كذا وكذا حللني، هذا إذا وصله العلم وإذا كان لم يصله فإنك تستغفر له وتثني عليه في المكان الذي أنت اغتبته فيه ويكفر الله عنك بذلك".:
--هل يشمل هذا الحديث من حضر المجلس ساكتا؟:
في فتاوى عبر الهاتف والسيارة-134، للشيخ الألباني:
"الشيخ : على كل حال ما دمت كنت حاضرا في المجلس فالكفارة تشمل الجالسين سواء تكلموا أو أنصتوا ، لأنهم في إنصاتهم هم مشاركون في الخير وفي اللغو ، ويأتي هنا الحديث : " أنه إن كان مجلس خير كان كالخاتم ، وإلا كان - إذا كان هناك لغو -كان كفارة له " ، فإذن يقول كل فرد منا ، لكن مش جماعة ، إي هذه الجماعة تدخل بقى في مسألة كنا بدأنا معك وما أتممناها".
والحاصل أن كفارة المجلس وإن كانت سنة حري بكل عاقل أن يثبتها في أعماله, ليكفر الله بها كما وعد على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من لغوه ولغطه، أشير إليها في القرآن الكريم, {وسبح بحمد ربك حين تقوم}، ووردت فيها أحاديث وآثار كثيرة، أوفى الألفاظ سياقا سياق جبير بن مطعم رضي الله عنه، وتشمل الصلاة واتلاوة القرآن، مع أنهما ليسا لغوا ولا لغطا كما هو معلوم، لكن، تجبر التقصير، أو تكون عليهما كالطابع، وتقال مرة واحدة، وتشمل الجالس المنصت، لأنه كان مشاركا فيه, لتلبسه بسكوت الإقرار، وعدم النصح.ولا تشمل في التكفير للذنوب ما كان في حق العباد، والله أعلم.
الأحد، 6 مارس 2022
#بشائر_ومبشرات: هل فاتنا فضل الهجرة؟؟
#بشائر_ومبشرات: هل فاتنا فضل الهجرة؟؟؟ لا يخفى على من درس أبجديات السيرة النبوية فضلا عمن تعمق فيها فضل الهجرة في الإسلام والثواب الموعود عليها، لكن، من المفاهيم السائدة عند كثير من الناس أن المهاجر صفة كانت لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن الهجرة تتعلق بمجرد الفرار بالدين من دار كفر إلى دار إسلام، أو من بلد بدعة لا يمكن إظهار السنة فيه، أو إذا كان البلد شعائر الإسلام فيه غير ظاهرة، ولا يتمكن المسلم من إظهار شعائر دينه بأريحية، فيهاجر ولو إلى بلد كفر يتمكن فيه من إظهار شعائر دينه بأريحية، وكل هذا بضوابطه الشرعية حق، لكن، ماذا لو حدثتك عن أن لقب المهاجر يمكن أن يشملك؟!، ماذا لو أخبرتك عن أنك يمكن أن تكون مهاجرا، وأنت في بيتك بين أهلك وخلانك، عملك أو سوقك؟! مهلا، مهلا، هذا الكلام ليس من كيسي، بل هو أخبار من لا ينطق عن الهوى، {إن هو إلا وحي يوحى}. هيا أيها المهاجر، أو يا من ترغب في الهجرة وبلدك بلد إسلام تتمتع فيها بإقامة شعائر دينك، إعرني سمعك. --ذكر الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: بوب أبو داود في سننه في كِتَاب الْجِهَادِ فقال: "بَابٌ فِي الْهِجْرَةِ هَلِ انْقَطَعَتْ؟"، أورد فيه الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في الصحيحين وهو حديث عظيم هو أصل في هذا الباب، وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ "ْ}. ولا تخفى مناسبة الحديث لترجمة أبي داود رحمه الله، فهجران ما نهى الله عنه تشمل جميع النواهي، من كبار الذنوب، وأعلاها الشرك الذي أخبر الله عز وجل أنه لا يغفره إلا لمن تاب منه، إلى أصغر المنهيات من المكروهات. وروى الإمام أحمد من مسند عبد الله بن عمرو هذا الحديث بسياق أتم فقال: 6779 حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ ، أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عَلِيٍّ ، سَمِعْتُ أَبِي ، يَقُولُ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " تَدْرُونَ مَنِ الْمُسْلِمُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ " ، قَالَ : " تَدْرُونَ مَنِ الْمُؤْمِنُ ؟ " قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " مَنْ أَمِنَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ فَاجْتَنَبَهُ " * ورواه أيضا بلفظ مقارب من مسند أنس بن مالك رضي الله عنه حديث رقم, 12366، بلفظ {وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ}. وفي سنن ابن ماجه كِتَابُ الْفِتَنِ >> بَابُ حُرْمَةِ دَمِ الْمُؤْمِنِ وَمَالِهِ(، حديث رقم 3959، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ ، أَنَّ فَضَالَةَ بْنَ عُبَيْدٍ حَدَّثَهُ ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذُّنُوبَ " ورواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده من مسند فضالة بن عبيد بسياق أتم فقال: 23415 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ، قَالَ : أَنْبَأَنَا لَيْثٌ ، قَالَ : أَخْبَرَنِي أَبُو هَانِئٍ الْخَوْلَانِيُّ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ الْجَنْبِيِّ ، قَالَ : حَدَّثَنِي فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ : " أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْمُؤْمِنِ ؟ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ النَّاسُ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ " وفي السلسلة الصحيحة قال الشيخ الألباني: "551 - " أفضل الساعات جوف الليل الآخر ". أخرجه أحمد (5 / 385) عن محمد بن ذكوان عن شهر بن حوشب عن عمرو بن عبسة قال: " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر؟ قال: حر وعبد، قلت: ما الإسلام؟ قال: طيب الكلام وإطعام الطعام، قلت: ما الإيمان؟ قال: الصبر والسماحة، قال: قلت: أي الإسلام أفضل؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده، قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: خلق حسن، قال: قلت: أي الصلاة أفضل، قال: طول القنوت، قال: قلت: أي الهجرة أفضل؟ قال: أن تهجر ما كره ربك عز وجل، قال: قلت: أي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده واهريق دمه، قال: قلت: أي الساعات أفضل، قال: جوف الليل الآخر ... ". قلت: وهذا إسناد ضعيف محمد بن ذكوان وهو الطاحي وشهر ضعيفان لكن الحديث ثبت غالبه من طرق أخرى". إلى أن قال (2/92-93): ثانيا: فقرة " أي الجهاد أفضل؟ "، فقد أخرج أحمد (4 / 114) من طريق أبي قلابة عن عمرو بن عبسة قال: قال رجل يا رسول الله ما الإسلام؟ قال: أن يسلم قلبك لله عز وجل وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك قال: فأي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان قال: وما الإيمان؟ قال: تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال الهجرة قال: فما الهجرة؟ قال : أن تهجر السوء. قال: فأي الهجرة أفضل؟ قال: الجهاد. قال: وما الجهاد؟ قال: أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم. قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من عقر جواده واهريق دمه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم عملان هما أفضل الأعمال إلا من عمل بمثلهما حجة مبرورة أو عمرة. قلت: ورجال إسناده ثقات رجال الشيخين، فهو صحيح إن كان أبو قلابة - واسمه عبد الله بن زيد - سمعه من عمرو فإنه مدلس وعلى كل حال فهذه الفقرة ثابتة بمجموع الطريقين والله أعلم". ثم قال ص93: "ثالثا: فقرة " أي الهجرة أفضل؟ ". قد جاءت في الطريق الآنفة الذكر، فهي حسنة أيضا". ثم قال ص94: "553 - " أفضل الهجرة أن تهجر ما كره ربك عز وجل ". أخرجه أحمد من طريقين عن عمرو بن عبسة مرفوعا في أثناء حديث تقدم ذكره وتخريجه قبل حديث، فهذا القدر منه حسن بمجموع الطريقين أيضا". وهو موافق لحديث عبد الله بن عمرو المتقدم، وقد علمت أنه في الصحيحين. وفي إرواء الغليل, (5/33): "(1208) - (وعن معاوية وغيره مرفوعاً: " لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها " رواه أبو داود (ص 288) . * صحيح. أخرجه أبو داود (2479) وكذا الدارمى (2/239 ـ 240) والنسائى فى " السنن الكبرى " (50/2) والبيهقى (9/17) وأحمد (4/99) عن عبد الرحمن بن أبى عوف عن أبى هند البجلى عن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره. قلت: ورجال إسناده ثقات غير أبى هند فهو مجهول , لكنه لم يتفرد به فأخرجه الإمام أحمد (1/192) من طريق إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر عن ابن السعدى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل ". فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص: إن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات , والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله , ولا تنقطع الهجرة ما تقبلت التوبة , ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من الغرب , فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه , وكفى الناس العمل ". قلت: وهذا إسناد شامى حسن , رجاله كلهم ثقات , وفى ضمضم بن زرعة كلام يسير. وابن السعدى اسمه عبد الله واسم أبيه وقدان صحابى معروف , ولحديثه طريق أخرى عنه أخرجه النسائى , وبعضها ابن حبان (1579) والبيهقى وأحمد (5/270) . وله عنده (4/62 , 5/363 , 375) طريقان آخران عن رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم , والظاهر أنه ابن السعدى نفسه. وأحدهما إسناده صحيح". وفي صحيح الترغيب والترهيب (2/701): 2604 - (4) [صحيح] وعن عبد الله بن عمر [رضي الله عنهما قال: خطَبَنا رسولُ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: "إيَّاكُمْ والظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظلُماتٌ يومَ القِيامَةِ، وإيَّاكُمْ والفُحْشَ والتَّفَحُّشَ، وإيَّاكُمْ والشُّحَّ، فإنَّما هلَكَ مَنْ كان قَبْلَكُم بالشُّحِّ، أَمَرهُم بالقَطيعةِ فقَطَّعوا، وأَمَرهُم بالبُخْلِ فبَخِلوا، وأمَرهُمْ بالفُجورِ فَفَجَروا". فقامَ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ الله! أيُّ الإِسْلامِ أفْضَل؟ قال: "أنْ يَسْلَم المسلمونَ مِنْ لِسانِكَ وَيدِكَ". فقال ذلك الرجل أو غَيْرُه: يا رسولَ الله! أيُّ الهِجْرَةِ أفْضَلُ؟ قال: "أنْ تَهْجُرَ ما كَرِهَ ربُّكَ، والهِجْرَة هِجْرتَانِ: هجْرَةُ الحاضِرِ، وهِجْرَةُ البَادِي، فهِجْرَةُ البادِي أنْ يُجيبَ إذا دُعيَ، ويُطيعَ إذا أمِرَ، وهِجْرَةُ الحاضِرِ أعْظَمُها بَلِيَّةً، وأفضَلُها أجراً". رواه أبو داود مختصراً، والحاكم واللفظ له، وقال: "صحيح على شرط مسلم". ومثله ما رواه أحمد رحمه الله بسند ضعيف فقال: 7095 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، حَدَّثَنِي الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا حَنَانُ بْنُ خَارِجَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ عَلَوِيٌّ جَرِيءٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنَا عَنِ الْهِجْرَةِ، إِلَيْكَ أَيْنَمَا كُنْتَ، أَوْ لِقَوْمٍ خَاصَّةً، أَمْ إِلَى أَرْضٍ مَعْلُومَةٍ، أَمْ إِذَا مُتَّ انْقَطَعَتْ؟ قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ يَسِيرًا، ثُمَّ قَالَ: " أَيْنَ السَّائِلُ؟ " قَالَ: هَا هُوَ ذَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: " الْهِجْرَةُ أَنْ تَهْجُرَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، ثُمَّ أَنْتَ مُهَاجِرٌ وَإِنْ مُتَّ بِالْحَضَرِ ". قال الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة, (5/405)، تحت رقم 2383: "قلت: وهذا إسناد ضعيف، حنان هذا قال الذهبي: " لا يعرف، تفرد عنه العلاء بن عبد الله بن رافع، أشار ابن القطان إلى تضعيفه للجهل بحاله ". والحديث رواه غير أحمد أيضا، فانظر " ضعيف أبي داود " (434)" . فهذه الأحاديث ذكرت لنا نوعا من الهجرة يسمة من تمسك به مهاجرا وإن كان في بيته، وهو نوع متاح لهذه الأمة بحمد الله ما دام على الأرض مسلم حي.
--كلام العلماء حول هذا النوع من الهجرة:
إن من الأحاديث المشتهرة عندنا حديث عمر رضي الله عنه الذي افتتح به البخاري رحمه الله صحيحه، وكذلك فعل غيره في كتبهم وهو حديث, {إنما الأعمال بالنيات}، وفيه: {فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله}.
قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية = زاد المهاجر إلى ربه ص16-17:
"فصل: [في الهجرة إلى الله ورسوله] لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مألوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه، أحدث له ذلك نظراً فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل السفر إلى الله، ويُنفق فيه بقية عمره فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شيء يقصده إنما هو الهجرة إلى الله ورسوله، فإنها فرض عين على كل أحد في كل وقت، وأنه لا انفكاك لأحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد. إذ الهجرة هجرتان: الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها. والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الأصل وهجرة الجسد تابعة لها. وهي هجرة تتضمن (من) و (إلى) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} ، والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه".
إلى أن قال ص19 20:
"والمقصود أن الهجرة إلى الله تتضمن: هجران ما يكرهه وإتيان ما يحبه ويرضاه، وأصلها الحب والبغض، فإن المهاجر من شيء إلى شيء لا بد أن يكون ما هاجر إليه أحب مما هاجر منه، فيؤثر احب الأمرين إليه على الآخر. وإذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه إنما يدعوانه إلى خلاف ما يحبه ويرضاه، وقد بلي بهؤلاء الثلاث، فلا يزالون يدعونه إلى غير مرضاة ربه، وداعي الإيمان يدعوه إلى مرضاة ربه فعليه في كل وقت أن يهاجر إلى الله ولا ينفك في هجرته إلى الممات".
ثم شرع في بيان قوتها وضعفها فقال ص21:
"فصل: [الهجرة بين القوة والضعف]وهذه الهجرة تقوى وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد، فإن كان الداعي أقوى كانت هذه الهجرة أقوى وأتم وأكمل. وإذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لا يكاد يشعر بها علماً، ولا يتحرك لها إرادة. والذي يقضي منه العجب: أن المرء يوسع الكلام ويفرغ المسائل في الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح، وهذه هجرة عارضة، ربما لا تتعلق به في العمر أصلاً. وأما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الأنفاس فإنه لا يحصل فيها علما ولا إرادة وما ذاك إلا للإعراض عما خلق له، والاشتغال بما لا ينجيه وحده عما لا ينجيه غيره. وهذا حال من عشت بصيرته وضعفت معرفته بمراتب العلوم والأعمال. والله المستعان، وبالله التوفيق، لا اله غيره ولا رب سواه".
وأما الهجرة إلى رسول الله فقال في تبيين غربة صاحبها حين يستمسك بالسنة:
"فسالكها غريب بين العباد، فريد بين كل حي وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستأنسون، مستأنس مما به يستوحشون، مقيم إذا ظعنوا، ظاعن إذا قطنوا، منفرد في طريق طلبة، لا يقر قراره حتى يظفر بأربه، فهو الكائن معهم بجسده، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى أعينهم، وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية، وهو في طلبها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفة آرائهم، ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم وأهوائهم، ... ". إلى آخر ما قاله رحمه الله، والكتاب نافع لمن أراد الفائدة.
وفي شرح رياض الصالحين للشيخ ابن عثيمين (1/21):
"الهجرة تكون للعمل، وتكون للعامل، وتكون للمكان.
القسم الأول: هجرة المكان: فأن ينتقل الإنسان من مكان تكثر فيه المعاصي، ويكثر فيه الفسوق، وربما يكون بلد كفر إلي بلد لا يوجد فيه ذلك. وأعظمه الهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام، وقد ذكر أهل العلم إنه يجب على الإنسان أن يهاجر من بلد الكفر إلى بلد الإسلام إذا كان غير قادر على إظهار دينه. وأما إذا كان قادراً على إظهار دينه، ولا يعارض إذا أقام شعائر الإسلام؛ فإن الهجرة لا تجب عليه، ولكنها تستحب، وبناء على ذلك يكون السفر إلى بلد الكف أعظم من البقاء فيه، فإذا كان بلد الكفر الذي كان وطن الإنسان؛ إذا لم يستطع إقامة دينه فيه؛ وجب عليه مغادرته، والهجرة منه. فذلك إذا كان الإنسان من أهل الإسلام، ومن بلاد المسلمين؛ فإنه لا يجوز له أن يسافر إلى بلد الكفر؛ لما في ذلك من الخطر على دينه، وعلى أخلاقه، ولما في ذلك من الخطر على دينه، وعلى أخلاقه، ولما في ذلك من إضاعة ماله، ولما في ذلك من تقوية اقتصاد الكفار، ونحن مأمورون بأن نغيظ الكفار بكل ما نستطيع".
إلى أن قال (1/27-27):
"القسم الثاني: هجرة العمل، وهي أن يهجر الإنسان ما نهاه الله عنه من المعاصي والفسوق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) فتهجر كل ما حرم الله عليك، سواء كان مما يتعلق بحقوق الله، أو ما يتعلق بحقوق عباد الله؛ فتجهر السبب والشتم والقتل والغش وأكل المال بالباطل وعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام وكل شيء حرم الله تهجره، حتى لو أن نفسك دعتك إلى هذا وألحت عليك، فاذكر أن الله حرم ذلك حتى تهجره وتبعد عنه.
القسم الثالث: هجرة العامل، فإن العامل قد تجب هجرته أحياناً، قال أهل العلم: مثل الرجل المجاهر بالمعصية؛ الذي لا يبالي بها؛ فإنه يشرع هجره إذا كان في هجره فائدة ومصلحة. والمصلحة والفائدة إنه إذا هجر عرف قدر نفسه، ورجع عن المعصية. ومثال ذلك: رجل معروف بالغش بالبيع والشراء؛ فيهجره الناس، فإذا هجروه تاب من هذا ورجع وندم، ورجل ثان يتعامل بالربا، فيهجره الناس، ولا يسلمون عليه، ولا يكلمونه؛ فإذا عرف هذا خجل من نفسه وعاد إلى صوابه، ورجل ثالث-وهو أعظمهم-لا يصلي؛ فهذا مرتد كافر - والعياذ بالله -؛ يجب أن يهجر؛ فلا يرد عليه السلام، ولا يسلم عليه، ولا تجاب دعوته حتى إذا عرف نفسه ورجع إلى الله وعاد إلى الإسلام انتفع بذلك. أما إذا كان الهجر لا يفيد ولا ينفعن وهو من أجل معصية، لا من أجل كفر، لأن الهجر إذا كان للكفر فإنه يهجر. والكافر المرتد يهجر على كل حال - أفاد أم لم يفد - لكن صاحب المعصية التي دون الكفر إذا لم يكن في هجره مصلحة فإنه لا يحل هجره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام. ومن المعلوم أن المعاصي التي دون الكفر عند أهل السنة والجماعة لا تخرج من الإيمان. فيبقى النظر بعد ذلك؛ هل الهجر مفيد أو لا؟ فإن أفاد، وأوجب أن يدع الإنسان معصيته فإنه يهجر، ودليل ذلك قصة كعب بن مالك - رضي الله عنه، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع - رضي الله عنهم - الذين تختلفوا عن غزوة تبوك فهجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأمر المسلمين بهجرهم، لكنهم انتفعوا في ذلك انتفاعا عظيماً ولجأوا إلى الله، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وأيقنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه فتابوا وتاب الله عليهم. هذه أنواع الهجرة: هجرة المكان، وهجرة العمل، وهجرة العامل".
وينسب للشيخ صالح الفوزان حفظه الله مقال بعنوان أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب، جاء فيه:
"من أنواع الهجرة هجر المعاصي من الكفر والشرك والنفاق وسائر الأعمال السيئة والخصال الذميمة والأخلاق الوخيمة، قال تعالى لنبيه: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، الرجز: الأصنام. وهجرتها: تركها والبراءة منها ومن أهلها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه». أي ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل والمشارب المحرمة والنظر المحرم والسماع، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها. ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق وذلك بالإبتعاد عنهم، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10] أي: اصبر على ما يقوله من كَذَّبك من سفهاء قومك: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10] أي اتركهم تركاً لا عتاب معه. ومن أعظم أنواع الهجرة هجرة القلوب إلى الله تعالى بإخلاص العباده له في السر والعلانية، حتى لا يقصد المؤمن بقوله وعمله إلا وجه الله، ولا يحب إلا الله ومن يحبه الله، وكذلك الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعه وتقديم طاعته والعمل بما جاء به. وبالجملة فهذه الهجرة هجرة إلى الكتاب والسنة من الشركيات والبدع والخرافات والمقالات والمذاهب المخالفة للكتاب والسنة. فتبين من هذا أن الهجرة أنواع هي: هجر أمكنة الكفر... وهجر الأشخاص الضالين... وهجر الأعمال والأقوال الباطلة.. وهجر المذاهب والأقوال والآراء المخالفة للكتاب والسنة. فليس المقصود التحدث عن الهجرة بأسلوب قصصي وسرد تاريخي، أو تقام لمناسبتها طقوس واحتفالات ثم تنسى ولا يكون لها أثر في النفوس أو تأثير في السلوك، فإن كثيراً ممن يتحدثون عن الهجرة على رأس السنة لا يفقهون معناها ولا يعلمون بمقتضاها بل يخالفونها في سلوكهم وأعمالهم؛ فهم يتحدثون عن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتركهم أوطان الكفر إلى وطن الإيمان، وهم مقيمون في بلاد الكفر أو يسافرون إليه لقضاء الإجازة أو للنزهة أو لقضاء شهر العسل كما يسمونه بعد الزواج!! يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عبادة القبور والأضرحة، بل يعبدونها من دون الله كما تعبد الأصنام أو أشد. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المذاهب الباطلة والآراء المضلة بل يجعلونها مكان الشريعة الإسلامية. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون المعاصي والأخلاق الرذيلة. يتحدثون عن الهجرة وهم لا يهجرون عادات الكفار وتقاليدهم بل يتشبهون بهم، فأين هي معاني الهجرة وأنواعها من تصرفات هؤلاء؟ فاتقوا الله عباد الله، واقتبسوا من الهجرة وغيرها من أحداث السيرة النبوية دروساً تنهجونها في حياتكم، ولا يكن تحدثكم عن الهجرة مجرد أقوال على الألسنة أو حبراً على الأوراق. قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74]. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. صالح بن فوزان الفوزان". دار القاسم والحاصل أن هناك هجرة لم يغلق بابها بحمد الله بعد، وهي هجرة السوء مما كرهه الله ونهى عنه من الذنوب والخطايا، يسمى صاحبها مهاجرا بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي هجرة بالقلب، ولولا هذه الهجرة ما وقعت هجرة البدن، وهي هجرة متجددة دائما، تقوى بقوة محبة المهاجر إليه وهو الله ورسوله، أما هجرة الأبدان فعلى فضلها فقد لا تتهيأ للمرء إلا مرة واحدة، أو لا تتهيأ له أصلا, لسكناه في بلد إسلام، شعائر الإسلام فيها ظاهرة، والغلبة للسنة لا للبدعة، ولا يفهم من هذا الكلام التقليل من هجرة السابقين الأولين، أو الاستنقاص من هجرة البدن، فالسابقون الأولون جمع الله لهم بين الهجرتين، فكانوا هم المهاجرون حقا، ولذا قال الله فيهم: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم}".
وهكذا أخي الكريم، فلئن فاتتك هجرة الأبدان بإنعام الله عليك أن تعيش في بلد إسلام فلا يفوتنك فضل هجرة القلوب وبقية أنواع الهجرة كما مضى تفصيله، والله الموفق.
الجمعة، 4 مارس 2022
تنبيه على رسالة منتشرة في فضل شهر شعبان:
تنبيه على رسالة منتشرة في فضل شهر شعبان:
يتناقل الإخوة الكرام رسالة في فضل شهر شعبان وفيها:
"شهــــــــر شعبان
🍃قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله 🍃
كان المسلمون اذا دخل شهر شعبان اكبوا على المصاحف وأخرجوا الزكاة
📚فتح الباري ٣١٠/٣١١/١٣”.
🍃ماذا كان يصنع السلف في شعبان🍃
🌸 قال سلمة بن كهيل : كان يقال شهر شعبان شهر القراء
🌸و كان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان
قال : هذا شهر القراء
🌸وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته و تفرغ لقراءة القرآن.
📚لطائف المعارف 138"
وعلى هذا النقل ملحوظتان:
الأولى: نسبة هذا القول للحافظ ابن حجر توهم أنه القائل له، وليس كذلك كما ستراه، ويوهم هذا أنه كان هذا على زمانه، أو أنه كان من الزمان الأول إلى زمانه، فكأن الناس تواتروا على أفضلية إخراج الزكاة في شعبان، والحافظ ابن حجر رحمه الله كانت وفاته رحمه الله أواخر ذي الحجة 852 هـ، فلو كان هذا على زمانه لم يكن في أهل زمانه حجة على أفضلية الزكاة في شعبان.
الثانية: أن اختصار كاتب الرسالة أوقع في هذا الوهم، فنص ابن حجر رحمه الله كما في الفتح (13/310)، كما يلي:
"[7338] قَوْلُهُ أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ هُوَ الصَّحَابِيُّ الْمَعْرُوفُ وَتَقَدَّمَ لَهُ الحَدِيث التَّاسِع قَوْلُهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ خَطِيبًا عَلَى مِنْبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَكَذَا اقْتَصَرَ مِنَ الْحَدِيثِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ ... ".
إلى أن قال (13/310-311):
"وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنِ الزُّهْرِيِّ فَزَادَ فِيهِ يَقُولُ هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّهِ الْحَدِيثَ وَهُوَ فِي أَوَاخِرِ الرُّبْعِ الرَّابِعِ مِنْهُ وَنَقَلَ فِيهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ أَرَادَ شَهْرَ رَمَضَانَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ وَجَاءَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمُ قُلْتُ وَقَعَ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ وَجْهٍ ضَعِيفٍ وَقَعَ لَنَا بِعُلُوٍّ فِي جُزْءِ الْفَلَكِيِّ بِلَفْظِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا دَخَلَ شَعْبَانُ أَكَبُّوا عَلَى الْمَصَاحِفِ وَأَخْرَجُوا الزَّكَاةَ وَدَعَا الْوُلَاةُ أهل السجون الحَدِيث مَوْقُوف".
فالحكاية عن ابن حجر في الرسالة المنتشرة غير دقيقة, فهو حديث ضعيف موقوف على أنس رضي الله عنه، فلا تثبت فضيلة للزكاة في شهر شعبان بمثله، وسبقه نقل لحديث خطبة عثمان رضي الله عنه الذي فيه ذكر شهر الزكاة، ولم يثبت في رواية أبي عبيد عن الصحابي السائب بن يزيد رضي الله عنه هذا الشهر، غير ما ذكره بعض رواة الحديث أنه شهر رمضان، ونقل ابن حجر عن أبي عبيد أنه جاء من وجه آخر أنه شهر الله المحرم، والإجمال الذي ورد في تلك الرسالة ضيع كل هذا، والزكاة كما هو معلوم في أحكامها وشروطها أنه ينبغي أن يمر على ما بلغ النصاب فيها حول، فكل نصاب وحوله، وعلى هذا فالزكاة تكون سائر العام بحسب حول كل ما فيه زكاة مما يبلغ نصابا.
والعجب من صاحب هذه الرسالة كيف أنه نقل بعد هذا الكلام الذي نسبه لابن حجر عن ابن رجب آثارا في فضل الانكباب على المصحف في شهر شعبان عن السلف، وقد ذكر ابن رجب في لطائف المعارف هذا الأثر الضعيف عن أنس قبل منقول صاحب الرسالة مباشرة وبين الحكم فيه صراحة، فكيف غفل عنه ولم يلتفت إليه؟ ففي لطائف المعارف (1/135):
"روينا بإسناد ضعيف عن أنس قال: كان المسلمون إذا دخل شعبان انكبوا على المصاحف فقرؤها وأخرجوا زكاة أموالهم تقوية للضعيف والمسكين على صيام رمضان وقال سلمة بن كهيل: كان يقال شهر شعبان شهر القراء وكان حبيب بن أبي ثابت إذا دخل شعبان قال: هذا شهر القراء وكان عمرو بن قيس الملائي إذا دخل شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن".
فهذا ابن رجب رحمه الله نص على ضعف الرواية عن أنس رضي الله عنه لئلا يقول قائل إن إخراج الزكاة سنة مستحبة كان يفعلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولعل كاتب الرسالة أراد الاختصار لكراهية الناس للرسائل الطوال، ومع هذا، فالحذر من أسالي الإجمال هذه التي قد تؤدي إلى هذه الأوهام أو أكبر منها، والله أعلم
السبت، 29 يناير 2022
الوعيد الشديد لمن همه في المسجد أحاديث الدنيا:
الوعيد الشديد لمن همه في المسجد أحاديث الدنيا:
فإن من تغير الدين واندراس الإسلام وانتقاض عراه عروة عروة أن يعدل بالمساجد عما جعلت له، جاء في كتاب إتحاف الجماعة للشيخ حمود بن عبد الله التويجري، ج2’ ص68-69:
" باب
ما جاء في ضعف الإيمان وقلته في آخر الزمان
عن عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄؛ قال: «يأتي على الناس زمان يحجون ويصلون ويصومون وما فيهم مؤمن».
رواه أبو شعيب الحراني في «فوائده»، وإسناده لا بأس به.
وقد رواه ابن أبي شيبة، ولفظه: قال: «يأتي على الناس زمان يجتمعون ويصلون في المساجد وليس فيهم مؤمن».
ورواه الحاكم في «مستدركه» بنحوه، وقال: «صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي في «تلخيصه».
وهذا الحديث له حكم الرفع؛ لأن مثله لا يقال من قبل الرأي، وإنما يقال عن توقيف.
والمراد بما ذكر فيه الأكثر والأغلب، لا العموم؛ لما تواتر عن النبي ﷺ: أنه قال: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله تعالى»".
قال الذهبي رحمه الله في ميزان الاعتدال, (٣ / ٣٩) معلقا على الحديث:
" ومعناه أي مؤمن كامل الايمان، فأراد (١): ليس فيهم مؤمن سليم من النفاق بحيث أنه غير مرتكب صفات النفاق من إدمان الكذب والخيانة، وخلف الوعد والفجور والغدر، وغير ذلك.
ونحن اليوم نرى الأمة من الناس من أعراب الدولة يجتمعون في المسجد وما فيهم مؤمن، بل ونحن منهم.
نسأل الله توبة وإنابة إليه، فإن الله تعالى يقول في كتابه: قالت (٢) الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمن"ا.
وأورد الشيخ التويجري بعد نقله للحديث في المرجع السابق آثارا تدعم الحديث فقال:
"وعن ابن عمر ﵄؛ قال: قال رسول الله ﷺ: «سيأتي على الناس زمان، يصلي في المسجد منهم ألف رجل أو زيادة، لا يكون فيهم مؤمن».
رواه الديلمي.
وعنه ﵁: أن رسول الله قال: «يؤذن المؤذن ويقيم الصلاة قوم»
«وما هم بمؤمنين».
رواه: الطبراني، وأبو نعيم في «الحلية».
وعن ابن مسعود ﵁: «إن من اقتراب الساعة أن يصلي خمسون نفسًا لا تقبل لأحدهم صلاة».
رواه أبو الشيخ في كتاب «الفتن»، ونقله عنه صاحب «كنز العمال»".
إلى أن قال:
" وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب ﵄؛ قال: قال رسول الله ﷺ: «يأتي على الناس زمان يجتمعون في مساجدهم لا يصلون»".
إلى آخر ما أورده رحمه الله.
ومن ذلك التغير الاشتغال في المسجد بأحاديث الدنيا، والإكثار من ذلك، وفيه وعيد شديد لمن كان له قلب وتدبر.
7916 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ بُنْدَارٍ الزَّاهِدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ بَكْرٍ الْبَالِسِيُّ، ثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ، ثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §«يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَتَحَلَّقُونَ فِي مَسَاجِدِهِمْ وَلَيْسَ هِمَّتُهُمْ إِلَّا الدُّنْيَا لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ فَلَا تُجَالِسُوهُمْ» هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ "
[التعليق - من تلخيص الذهبي]
7916 – صحيح
رواه الحاكم في مستدركه, (4/359)
2701 - أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْفَقِيهُ، حدثنا أَبُو بَكْرٍ الْقَطَّانُ، حدثنا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: ذَكَرَ سُفْيَانُ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §" يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُمْ، فَلَا تُجالِسُوهُمْ، فَلَيْسَ لِلَّهِ فِيهِمْ حَاجَةٌ " هَكَذَا جَاءَ مُرْسَلًا
رواه البيهقي في شعب الإيمان, (4/387)
ويقال: لعل المقصود بما أبهم في رواية البيهقي " ذَكَرَ سُفْيَانُ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ"، أبانته رواية الحاكم من أن شيخ سفيان رحمه الله تعالى هو عون ابن أبي جحيفة، لا سيما ومخرج الحديث واحد, عن الحسن، إلا أن رواية الحاكم المرفوعة معلة بالبالسي كما ذكر الشيخ الألباني رحمه الله حيث علق على تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي له في السلسلة الصحيحة, (3/153) فقال:
" قلت: وليس كما قالا، فإن البالسي هذا متهم وقد أورده الذهبي نفسه في
" الميزان " وقال: " قال ابن عدي روى مناكير عن الثقات. وقال أبو الفتح
الأزدي: " كان يضع الحديث ". وزاد عليه في " اللسان ": وقال الدارقطني:
ضعيف. وذكره ابن حبان في " الثقات " وقال: " كان يخطىء ". وله حديث موضوع
بسند صحيح ". ثم ذكر له حديثا آخر غير هذا".
و قال ابن أبي شيبة في المصنف 36458: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ ، قَالَ : حدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَكُونُ حَدِيثُهُمْ فِي مَسَاجِدِهِمْ أَمْرَ دُنْيَاهُمْ ، لَيْسَ لِلَّهِ فِيهِ حَاجَةٌ ، فَلاَ تُجَالِسُوهُمْ.
في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين, (1/440):
" قال العراقي: أخرجه البيهقي في الشعب من حديث الحسن مرسلاً وأسنده الحاكم في حديث أنس وصحح إسناده ولابن حبان نحوه من حديث ابن مسعود اهـ".
فكأنه ذهاب منه رحمه الله لتحسين الحديث.
وسؤل الشيخ الألباني في فتاوى جدة, شريط : 20، ما نصه:
ما صحة حديث : ( سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حِلقًا حِلقًا أمامهم الدنيا ؛ فلا تجالسوهم ؛ فإنه ليس لله فيهم حاجة ) ؟
فأجاب:
الحديث ثابت بمجموع طرقه ، لكن اللفظة هذه استنكرتُها " إمامهم " تقول ، ما في في الحديث " إمامهم " ، ( حديثهم في المساجد ليس لله فيهم حاجة ) ، إمامهم ، والله أعلم ، الحديث صحيح .
https://www.al-albany.com/audios/mp3/4/020.mp3#t=00:14:29
وفي مرقاة المفاتيح لأبي الحسن, عبيد الله بن محمد عبد السلام بن خان محمد بن أمان الله بن حسام الدين الرحماني المباركفوري (المتوفى: 1414هـ) في شرح الحديث, (2/456) ما نصه:
" 749- قوله: (وعن الحسن) أي: البصري (حديثهم) أي: كلامهم ومحادثتهم (فلا تجالسوهم) أي: في المسجد أو مطلقاً (فليس لله فيهم) أي: في إتيانهم إلى المسجد (حاجة) قال الطيبي: هو كناية عن براءة الله تعالى عنهم، وخروجهم عن ذمة الله، وإلا فالله سبحانه وتعالى منزه عن الحاجة مطلقاً. وفيه تهديد عظيم، ووعيد شديد، وذلك أنه ظالم مبالغ في ظلمه حيث يضع الشيء في غير موضعه لأن المساجد لم تبن إلا للعبادات-انتهى (رواه البيهقي في شعب الإيمان) وفي حديث ابن مسعود: سيكون في آخر الزمان قوم يجلسون في المساجد حلقاً حلقاً أمانيهم الدنيا، فلا تجالسوهم، فإنه ليس لله فيهم حاجة، ذكره العراقي في شرح الترمذي. قال: وإسناده ضعيف فيه بزيغ أبوالخليل وهو ضعيف جداً، وفي الترغيب للمنذري عن عبد الله بن مسعود قال: (قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيكون في آخر الزمان قوم يكون حديثهم في مساجدهم، ليس لله فيهم حاجة) رواه ابن حبان في صحيحه"
فالحذر الحذر من هذا المسلك الذي عقوبته وخيمة، ووعيده شديد, {فلا تجالسوهم فليس لله فيهم حاجة}.
السبت، 25 ديسمبر 2021
شذرات حول مسألة التأمين الصحي أو التأمين الطبي:
يشيع في عصرنا الحاضر عقود معاملات تسمى بالتأمين، يلتزم بها العميل بدفع أقساط معلومة في أوقات معلومة لمؤسسة ما أو شركات تعرف باسم شركات التأمين بشروط تبين في عقد التأمين، مقابل ضمان الشركة لدفع مبلغ معين إذا وقع تلف أو ضرر على ما أبرم العميل عقد التأمين من أجله، بضوابط متفق عليها حول هذا الضرر أو التلف، وقد يقل مبلغ الضمان عما دفعه العميل أو يساويه، أو يكون أكبر منه، بحسب السقف المحدد في العقد، وقد يدفع العميل ولا يحصل له ذاك الضرر أو التلف فلا يعود عليه من التأمين نفع.
ولكي يعلم حكم التأمين الشرعي، لا بد من التمييز بين نوعي عقد التأمين، ولعقده صورتان, تجاري، وتكافلي،
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله ما نصه:
نسمع عن التأمين الإسلامي ولا نعلم ما حكمه؟ فهلا تكرمتم ببيان الجائز منه والمُحَرَّم.
التأمين قسمان:
قسم يُسمَّى: التأمين التّجاري: يُؤَمِّن على سيارته، أو على عمارته، أو على نفسه بأموالٍ يدفعها للشَّركات في كل وقت كذا وكذا، وإذا خربت سيارته أصلحوها، وإذا خرب بيته أو احترق عمروه، وإذا مات أو قُتِلَ أدَّوا ديته، هذا التأمين التِّجاري مُحَرَّمٌ؛ لما فيه من الربا والغرر.
وقد صدر من مجلس هيئة كبار العلماء منذ سنتين أو ثلاث قرارٌ بتحريم ذلك، وهو واضحٌ من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
التأمين الثاني: تأمين تعاوني بين المسلمين: ليس المقصود منه الربا ولا الغرر، ولكن المقصود منه التَّعاون، فهذا يُقال له: التأمين التَّعاوني، كأن يجتمع أهلُ قريةٍ أو قبيلةٍ أو أهل حيٍّ من الأحياء أو أسرة من الأُسَر على بذل أموالٍ معينةٍ -كل واحدٍ يبذل كل شهرٍ كذا: مئة ريـال، ألف ريـال، أو كل سنة- يقولون: هذه نجمعها لمواساة الفقير منا ومَن يُصاب بحدثٍ: كقتلٍ أو غيره، تؤدّى منه الدية، وهكذا يُواسون الفقير والمسكين، والغارم الذي عليه ديون يُؤدُّون عنه، ومَن أصابه قتلٌ، مثلًا: دهس أو انقلاب وصار عليه شيءٌ من الديات يُساعدونه، ليس المقصود من ذلك إلا المساعدة.
فهذا ليس فيه زكاة، وهذا عمل صالح، فهذا يُسمَّى: التأمين التعاوني، وإذا جعلوه بيد إنسانٍ يعمل فيه ويُنميه ويتَّجر فيه فلا بأس بجزءٍ من ربحه، كأن يُقال لفلان أو مؤسسة مُعينة: تعمل فيه بنصف الربح، بثلث الربح، بربع الربح، كمُضاربةٍ؛ فلا بأس بذلك، وهو مُعدٌّ للأعمال الخيرية، هذا يُقال له: التأمين التَّعاوني.
https://files.zadapps.info/binbaz.org.sa/fatawa/fatawa_dross/0542%D8%AD%D9%83%D9%85%20%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A3%D9%85%D9%8A%D9%86%20%D9%81%D8%AA%D8%A7%D9%88%D9%89%20%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%A7%D8%B6%D8%B1%D8%A7%D8%AA%20%D9%84%D9%84%D8%B4%D9%8A%D8%AE%20%D8%B9%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B2%D9%8A%D8%B2%20%D8%A8%D9%86%20%D8%A8%D8%A7%D8%B2%20%D8%B1%D8%AD%D9%85%D9%87%20%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87.mp3
وجاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي ما يلي:
"بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 200 (21/6)
بشأن الأحكام والضوابط الشرعية لأُسس التأمين التعاوني
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة التعاون الإسلامي المنعقد في دورته الحادية والعشرين بمدينة الرياض (المملكة العربية السعودية) من: 15 إلى 19 محرم 1435هـ، الموافق 18-22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013م،
بعد اطلاعه على توصيات الندوة العلمية للأحكام والضوابط الشرعية لأُسس التأمين التعاوني التي عقدها المجمع في الفترة من: 20 إلى 21 جمادى الثانية 1434ه، الموافق 30 أبريل – 1 مايو 2013م، بمدينة جدة، والتي جاء انعقادها تنفيذًا لقرار مجلس المجمع رقم: 187 (2/20) الصادر عن الدورة العشرين التي انعقدت بمدينة وهران (الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية) في الفترة من: 26 شوال إلى 2 ذي القعدة 1433هـ، الموافق 13-18 سبتمبر 2012م،
وبعد استماعه إلى المناقشات والمداولات التي دارت حولها،
قرر ما يلي:
التأمين التعاوني عقد جديد أساسه مبدأ التعاون المنضبط بضوابطه الشرعية المستمدة من القرآن الكريم والسنة النبوية.
وينقسم التأمين من حيث إنشائه إلى قسمين:
الأول: تأمين تجاري يهدف إلى تحقيق الربح في صيغته التأمينية من خلال المعاوضة على المخاطر، أما من حيث إدارته من شركة فإن الشركة تستهدف الربح.
الثاني: تأمين غير تجاري لا يهدف إلى تحقيق الربح؛ وإنما يهدف إلى تحقيق مصلحة المشتركين فيه باشتراكهم في تحمل وجبر الضرر عنهم.
ويطلق على النوع الثاني من التأمين مصطلحات متعددة، منها: التأمين التعاوني، والتأمين التكافلي، والتأمين التبادلي، والتأمين الإسلامي.
وهناك فروق جوهرية بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري، من أهمها:
(1) أن التأمين التعاوني الإسلامي تعاون بين مجموعة أو عدة مجموعات من أفراد المجتمع من خلال الاشتراك في تحمل المخاطر ولا يهدف إلى الربح، لذلك فلا يعد من عقود المعاوضة، والغرر فيه مغتفر. أما التأمين التجاري فهو عقد معاوضة يستهدف الربح من المعاوضة على نقل المخاطر من المؤمن إلى شركة التأمين، وتنطبق عليه أحكام المعاوضات المالية التي يؤثر فيها الغرر.
(2) أطراف العلاقة في التأمين التعاوني هم: مجموع المشتركين في صندوق التأمين التعاوني، والجهة الإدارية، أما في التأمين التجاري فهم الشركة وحملة الوثائق.
(3) الصندوق، وتتكون موجوداته من مجموع اشتراكات حملة الوثائق وأرباح استثماراتها والاحتياطات المعتمدة. وأما في التأمين التجاري فلا يوجد مثل هذا الصندوق.
(4) الشركة المديرة، وهي التي تدير التأمين، من حيث إدارة التغطية وأعمال التأمين واستثمار أموال الصندوق. أما في التأمين التجاري فالشركة هي المؤمنة، وتملك أقساط التأمين، ولها أرباحه وفائضه.
(5) حامل الوثيقة والمؤمِّن في التأمين التعاوني في حقيقتهما واحد، لكن باعتبارين مختلفين، وهما في التأمين التجاري مختلفان تمامًا، فالمشترك هو المؤمَّن له والمؤمِّن هو شركة التأمين.
(6) الإدارة في التأمين التعاوني سواء كانت هيئة منتخبة من بين المشتركين أو شركة متخصصة أو مؤسسة عامة وكيلة في التعاقد عن صندوق المشتركين (حملة الوثائق)، ولها الحق في الحصول على أجر مقابل ذلك في حين أنها طرف أصلي في التأمين التجاري وتتعاقد باسمها.
(7) الإدارة في التأمين التعاوني لا تملك أقساط التأمين (الاشتراكات)؛ لأن الأقساط مملوكة لصندوق المشتركين (حملة الوثائق)، أما الشركة في التأمين التجاري فإنها تملك الأقساط في مقابل التزامها بمبلغ التعويض.
(8) الباقي من الأقساط وعوائدها -بعد حسم المصروفات والتعويضات- يبقى ملكًا لحساب الصندوق، وهو الفائض الذي تقرر لوائح الصندوق كيفية التصرف فيه، ولا يتصور هذا في التأمين التجاري؛ لأن الأقساط تصبح ملكًا للشركة بالعقد والقبض، فهو يعتبر إيرادًا وربحًا في التأمين التجاري.
(9) عوائد استثمار أصول الأقساط بعد حسم تكلفة الإدارة للشركة المديرة تعود لصندوق حملة الوثائق في التأمين التعاوني، وتعود للشركة في التأمين التجاري.
(10) موجودات الصندوق عند تصفيه صندوق التأمين التعاوني تصرف في وجوه الخير أو تعطى للمشتركين في حينه (كما هو مفصل في المادة الثالثة عشرة)، في حين أنها تعود للمساهمين في التأمين التجاري.
(11) الشركة في التأمين التعاوني ملتزمة بأحكام الشريعة الإسلامية وفتاوى هيئاتها الشرعية، أما التأمين التجاري فهو على خلاف ذلك.
(12) يشترك التأمين التعاوني مع التأمين التجاري في اعتبار المبادئ الأساسية للتأمين، وهي:
(أ) مبدأ المصلحة التأمينية: هو الحق القانوني في التأمين والذي ينشأ من علاقة مالية معتبرة قانونيًا بين المؤمَّن له والشيءِ موضوعِ التأمين.
(ب) مبدأ حسن النية: هو الواجب الطوعي الإيجابي في الكشف الدقيق والكامل لكل الحقائق الجوهرية المتعلقةِ بالخطر المطلوب التأمين عليه، طلبت أم لم تطلب.
(ج) مبدأ السبب القريب المباشر: هو ذلك السبب الفعال الكافي لإحداث سلسلة من الحوادث تكون السبب في النتيجة الحاصلة عنها بدون تدخل أي عامل آخر ناشئ عن مصدر جديد مستقل يقطع ترابط تلك السلسلة.
(د) مبدأ التعويض.
(ه) مبدأ المشاركة.
(و) مبدأ الحلول والحقوق.
وينفرد التأمين التعاوني بمبادئ خاصة منها:
(أ) الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية في كافة المعاملات والعقود.
(ب) عدم التأمين على المحرمات.
(ج) عدم الدخول في أي معاملات ربوية أخذًا وإعطاء".
فهذان هما نوعا التأمين وهذه الفروق بينهما.
وإذا علم هذا وفهم الفرق بين النوعين فما حكم ما يعرف بالتأمين الطبي أو التأمين الصحي في الحالات الآتية:
إذا كان قسط التأمين مدفوعا من قبل شخصيات ذاتية, أي العميل أو المستفيد نفسه، أو مدفوعا من قبل شخصيات اعتبارية, جهة العمل، ؟
-- إذا كانت شركة التأمين تتعامل بنظام التأمين التجاري، أو بطريقة التأمين التكافلي؟
-- إذا كان الضمان المدفوع من قبل الشركة للعميل يساوي أو يقل أو هو أكثر ما دفعه للشركة؟
وللجواب ينقل من كلام أهل العلم ما يلي:
سئل الشيخ ابن باز رحمه الله:
التأمين الصحي ما حكمه؟
فأجاب:
ما يجوز، التأمين الصحي من المَيْسِر؛ لأنهم يعطون دراهم معدودة على أنه يعالج كل ما أصابه.
س: يقول صاحبه: أدفع بالكشف عشرين بالمئة فقط وعندي زوجتي الآن على وشك الولادة، يقول هل أضعها فيها أم لا؟
الشيخ: عند المستشفيات الأخرى.
س: إذن هو مُحَرّم على الإطلاق؟
الشيخ: نعم هو يشبه المَيْسِر.
............................
س: التأمين الصحي وجه كونه "مَيْسِر"، الله يجزاك الجنة؟
الشيخ: لأنه يُوضع شيء من المال كل شهر أو كل سنة على علاج جميع ما يقع للشخص أو أهله، قد يقع لهم أمراض كثيرة تستحق عشرات الآلاف.
س: يقول: لكل فرد مائة ألف، هذا هو المَيْسِر؟ يقول: ما ندفع ولا شيء من راتبنا، ما يأخذون شيئًا أبدًا، كيف يكون مَيْسِرًا؟ وَجْهُ المَيْسِر؟
الشيخ: المَيْسِر مع المستشفى الذي يودعون له هذا الشيء، إذا قال لك مائة ريال كل شهر أو ألف ريال كل شهر على أنك تعالج جميع أهل البيت من كل ما أصابهم، قد يصيبهم أمراض كثيرة تستحق أكثر من ذلك.
https://binbaz.org.sa/fatwas/23280/%D9%85%D8%A7-%D8%AD%D9%83%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%8A
فعلة الحرمة بحسب فتوى الشيخ هو الغرر الحاصل, بأن ما يتعاقد عليه غير واضح المعالم، فقد يدفع ولا يتعالج لعدم حصول الضرر، وقد يتعالج ويدفع له باقي تكاليف علاجه من أموال العملاء الآخرين لدى الشركة، وتردد موقف العميل بين الغنم والغرم يجعل هذا التأمين من الميسر الذي شدد الله عز وجل فيه فقال:
{إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}.
وفي فتاوى اللجنة الدائمة، المجموعة الأولى، (15/310-311) ما نصه:
"الفتوى رقم (20629)
س: قامت إدارة شركة الاتصالات السعودية مؤخرا بالتعاقد مع إحدى شركات التأمين لعلاج موظفي الشركة مع أبنائهم وزوجاتهم، وذلك بأن تدفع شركة الاتصالات مبلغا مقطوعا مقابل التأمين لعلاج كل شخص، فنسأل في هذه الحالة: 1- هل يجوز لإدارة شركة الاتصالات توقيع هذا العقد مع شركة التأمين بحيث تدفع إدارة شركة الاتصالات مبلغا مقطوعا مقابل رسم الاشتراك السنوي لكل شخص، بغض النظر زادت تكاليف علاج هذا الشخص خلال السنة عن قيمة الرسم أم كانت أقل؟ 2- هل يجوز لموظفي شركة الاتصالات الاستفادة من العلاج المقدم بموجب هذا العقد الذي تم بين إدارة شركة الاتصالات وشركة التأمين؟ علما بأن الموظفين لم يشاركوا في دفع قيمة هذا العقد، وليسو بملزمين بدفع جزء من رسم التأمين.
ج: التأمين الطبي المذكور ضرب من ضروب التأمين التجاري المحرم شرعا؛ لما فيه من الغرر والمقامرة، وأكل أموال الناس بالباطل. لهذا فلا يجوز لشركة الاتصالات السعودية إجراء هذا العقد، ولا يجوز لموظفيها الاستفادة منه، ولا الدخول فيه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز"
وفي فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية، (11/201-202)
" الفتوى رقم (21238)
س: أفيد سماحتكم أن شركة الرياض للتعمير تقوم بتوفير التغطية الطبية لموظفيها وأبنائهم وأزواجهم دون مقابل عبر تسديد فواتير علاجهم في الجهات الطبية المعتمدة من الشركة، وذلك وفق تنظيم خاص بذلك، والشركة تتجه الآن إلى إلغاء هذا التنظيم والتعاقد مع إحدى شركات التأمين لتوفير العلاج للموظفين وعوائلهم، وذلك بأن تدفع شركة الرياض للتعمير مبلغا مقطوعا سنويا مقابل التأمين لعلاج كل شخص، بغض النظر إن زادت تكاليف العلاج خلال السنة عن قيمة المبلغ المقطوع أو قلت، ونسأل في هذه الحالة:
1- هل يجوز للشركة توقيع عقد التأمين مع شركة التأمين؟
2- هل يجوز لموظفي الشركة الاستفادة من العلاج المقدم بموجب هذا العقد؟ علما أن الموظفين مطالبون حسب أحكام هذا العقد بدفع نسبة محددة من تكاليف علاجهم تسدد لشركة التأمين مباشرة؟
3- هل ينطبق على هذه الحالة، فتوى اللجنة الدائمة رقم (20629) وتاريخ 13\10\1419هـ
ج: التأمين الطبي المذكور ضرب من ضروب التأمين التجاري المحرم شرعا؛ لما فيه من الغرر والمقامرة وأكل أموال الناس بالباطل.
وقد صدر قرار هيئة كبار العلماء بتحريم التأمين التجاري، لهذا فلا يجوز لشركة الرياض للتعمير إجراء هذا العقد، ولا يجوز لموظفيها الاستفادة منه، ولا الدخول فيه.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ:
وفيها أيضا (11/199-200)
" الفتوى رقم (20693)
س: أعمل في شركة، وقد قامت هذه الشركة باتفاقية مع بعض المستشفيات للتأمين الطبي على موظفي الشركة، وذلك بأن تدفع للمستشفيات مثلا مليون ريال سنويا، على أن تقوم تلك المستشفيات بمعالجة منسوبي الشركة لمدة عام لأمراض وإصابات موضحة في العقد المتفق عليه، فهل يجوز لنا أن نعالج في هذه المستشفيات وفق هذا النظام، أم أن ذلك من المقامرة؟
ج: التأمين التجاري ـ ومنه التأمين الصحي ـ محرم بجميع أنواعه؛ لما فيه من أكل المال بالباطل ولما فيه من الجهالة والغرر والمقامرة، والواجب على المسلم أن لا يدخل فيه ولا يستعمله إذا كان يعمل في شركة تستعمله مع موظفيها، وعليه أن يتعالج على حسابه وفي الحلال غنية عن الحرام.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز"
وفي المجموعة الأولى أيضا (15/294-295) ما نصه:
" السؤال الأول والثاني من الفتوى رقم (4306)
س1: عند شرائنا للدواء نبعث إلى الضمان الاجتماعي بالعلامة التي تبين أننا دفعنا قيمة من المال لشرائه، عندئذ يرجع لنا الضمان المال. هل يجوز شرعا أم لا؟ علما بأن المؤسسة التي نعمل فيها تأخذ كل شهر قيمة من الراتب لأجل الضمان الاجتماعي.
ج1: هذا النوع من التأمين ضد الأمراض، فلا يجوز لكم أن تؤمنوا على أنفسكم عند مصلحة الضمان الاجتماعي ولا عند غيرها، لما في ذلك من الغرر والجهالة وأكل المال بالباطل، لكن إذا كانت مصلحة الضمان الاجتماعي تحفظ لكم المبالغ الى تدفعونها، وتعيدها إليكم عند الحاجة إليها والانتهاء من العمل، فهذا لا شيء فيه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
عبد الله بن قعود ... عبد الله بن غديان ... عبد الرزاق عفيفي ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز"
وفي كتاب فتاوى الطب والمرضى الذي تم جمعه بإشراف الشيخ صالح بن فوزان الفوزان من فتاوى كبار العلماء فتوى للجنة الدائمة تحت عنوان, (حكم التأمين الطبي لموظفي وأسر المؤسسات والشركات)، جاء فيها ص44-441
" س: بعض المؤسسات والشركات الأهلية تكفل العلاج الطبي لموظفيها وأسرهم، ومن أجل ذلك تتفق مع بعض المستشفيات الأهلية لتأمين هذا العلاج، وتكون صورة الاتفاق كالتالي:
1- تدفع المؤسسة للمستشفى مبلغا شهريا عن كل شخص، قدره 100 مائة ريال فقط، بغض النظر عن عدد الزيارات التي يتردد بها المريض على المستشفى لتلقي العلاج.
2- يتولى المستشفى علاج الأشخاص وصرف الأدوية اللازمة لهم، وإجراء بعض العمليات الجراحية إن لزم الأمر. ومن المعلوم أنه في بعض الأشهر ينفق المستشفى على علاج الشخص أكثر من 100 مائة ريال، وخاصة إذا أجريت له عملية جراحية أو نحوها، وأحيانا أخرى قد لا يأتي الشخص إلى المستشفى؛ لأنه ليس محتاجا لذلك، ومن ثم فإنه لم يستهلك شيئا من المائة ريال، أو استهلك جزءا يسيرا منها. والسؤال هو: أولا: هل هذا التأمين الطبي جائز شرعا، أو أنه من الشروط المبنية على الجهالة والغرر؟
ثانيا: هل هذا يدخل في باب الجعالة الجائزة شرعا، كما قال بذلك بعض الباحثين في (مجلة البحوث الفقهية المعاصرة) العدد 31؟ ثالثا: ما صورة التأمين الطبي التعاوني الجائزة شرعا؟
ج: ما ذكر في السؤال هو من التأمين التجاري المحرم؛ لما فيه من الغرر والجهالة، وأكل أموال الناس بالباطل، والتأمين التعاوني الجائز هو: أن يوضع صندوق تجمع فيه تبرعات المحسنين لمساعدة المحتاجين للعلاج أو غيره، ولا يعود منه كسب مالي للمتبرع، وإنما يقصد به مساعدة المحتاجين؛ طلبا للأجر والثواب من الله تعالى. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو ... عضو ... عضو ... نائب الرئيس ... الرئيس
بكر أبو زيد ... صالح الفوزان ... عبد الله بن غديان ... عبد العزيز آل الشيخ ... عبد العزيز بن عبد الله بن باز
[من فتاوى اللجنة الدائمة] الفتوى رقم (19399)"
وفي لقاءات الباب المفتوح (191/30) سئل الشيخ ابن العثيمين ما نصه:
" إنسان مريض والشركة عندهم تأمين صحي، فهل له أن يدخل المستشفى بهذا التأمين حيث أنهم يخصمون من راتبه مبلغاً شهرياً سواءً مرض أو ما مرض، والشركة تدفع لشركة التأمين؟"
فأجاب:
" يتعالج بقدر ما أخذوا منه ولو كان مبلغاً بسيطاً، ولو كان ريالاً واحداً، فالريال به حبة إسبرين، حبة الإسبرين لا يحاسبهم عليها والباقي يعطيهم، أما إذا كانوا هم الذين يدفعون، أحياناً الشركات لا تأخذ على العامل شيئاً من أجرته، لكنهم فيما بينهم وبين المستشفى مثلاً يؤمِّنون هذا ما عليه منهم.
لا يدخل ما دام أنهم متعاقدون مع المستشفى هو بنفسه، فالمهم أنه إذا كان التأمين من الشركة التي هو عندها وراتبه ما يأخذون منه شيئاً فلا بأس؛ لأنه هو الآن لم يتعاقد معاقدة ميسر وأما إذا كان معه فهو ميسر لا يجوز العمل به.
وعلى ما تقدم يتحصل ما يلي:
التأمين الصحي يجوز إذا كان تكافليا لا تجاريا كما هو موضح في فتوى الشيخ ابن باز بالخصوص.
-- إذا كان الطرفان بنيا التأمين على قصد الربح والخسارة فالتأمين عندئذ تجاري لا يجوز سواء أكان العميل يدفع بنفسه أو دفعت عنه جهة من الجهات.
-- اختلف العلماء في صورة التأمين الذي يدفعه غير العميل كجهة العمل مثلا، هل يعد جائزا بناء على أن المتعاقد الشركة لا المستفيد، أو أنه غير جائز بناء على أن المستفيد قد يستهلك أكثر من الأقساط التي دفعت عنه فيغرم غيره، وهذا من الميسر، ولعل التقوى والورع أولى، وإن عمل المستفيد بفتوى الجواز كما هو في فتوى الشيخ ابن عثيمين، فليتحر أن يستهلك مقدار ما دفع عنه تجنبا لعلة الحرمة التي ذكرها المانعون وهي الدخول في الميسر.
-- لا بد من النظر في نظام التأمين في الشركة أو المؤصسسة المتعاقد معها، إن كان تكافليا على الحقيقة، أو تجاريا، فإن بعض الشركات تسمي نظامها تكافليا وتسمي نفسها بشركة التأمين الإسلامية ونظامها بعيد كل البعد عن النظام التأميني الشرعي.
وفي المسألة فتاوى أخرى تعنى بجوانب، وتترك أخرى، وتراعي تفاصيل وظروفا مختلفة، وفيها تفريعات ومسميات لم أنقلها لقصد الاختصار، ولعلي أكون بإذن الله وفقت لاختيار أكثر ما تدعو إليه حاجة الناس منها بما هو أقرب للدليل.
والله أعلم.
الاثنين، 18 أكتوبر 2021
المولد النبوي ومعنى السنة الحسنة
من أدلة جوازه حديث, {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة}،
ولنا إن شاء الله مع هذا الحديث وقفتان:
الأولى, في صنيع الأئمة في إيراده في تبويباتهم، ونصوص بعض السلف القدامى في تفسيره.
الثانية, في النص على جوازه مع القول بإغلاق باب الاجتهاد.
أولا-- قد روى هذا الحديث مسلم وغيره، وترجم له النووي رحمه الله في تبويب صحيح مسلم "بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً وَمَنْ دَعَا إِلَى هُدًى أَوْ ضَلَالَةٍ""، ينظر صحيح مسلم تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي, (4/2059)
وهذا لفظ مسلم:
15 - (1017) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدَ، وَأَبِي الضُّحَى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلَالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمِ الصُّوفُ فَرَأَى سُوءَ حَالِهِمْ قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ، فَحَثَّ النَّاسَ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَأَبْطَئُوا عَنْهُ حَتَّى رُئِيَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ جَاءَ بِصُرَّةٍ مِنْ وَرِقٍ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتَابَعُوا حَتَّى عُرِفَ السُّرُورُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «§مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ».
ثم ذكر مسلم رحمه الله متابعات للحديث، ثم روى عن أبي هريرة فقال:
16 - (2674) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَابْنُ حُجْرٍ، قَالُوا: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «§مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا»، (4/2060).
فصنيع الإمام مسلم كان بذكر متابعات لحديث جرير، ثم روى حديث أبي هريرة.وقد بوب النووي رحمه الله بترجمة تشمل اللفظين، فهل هذا العطف في الترجمة يفهم منه المغايرة؟ يعني, هل اختلاف اللفظين يقتضي اختلاف المضمونين للحديث بحيث شملهما الإمام النووي بترجمة تشمل هذين المضمونين؟ أم الحديثان يصبان في مضمون واحد؟ وهل وافق صنيع النووي رحمه الله بهذه الترجمة مقصد الإمام مسلم من إيراد اللفظين؟
والمتتبع لمن روى الحديث في كتابه من الأئمة غير مسلم يجد أنهم وافقوا مسلما رحمه الله في إيراده للفظين،فمثلا, الترمذي رحمه الله أورد هذه الترجمة في كتاب العلم فقال:"بَابُ مَا جَاءَ فِيمَنْ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ أَوْ إِلَى ضَلاَلَة".
أورد فيه (4/340) بتحقيق بشار عواد معروف حديث أبي هريرة فقال:
2674 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ العَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ ..."
فذكر لفظ أبي هريرة عند مسلم.
وقال عنه بعد ذلك:
"هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ".
وهو لفظ كما علمت فيه ذكر أجر الدعوة إلى الهدى، ووزر الدعوة إلى الضلال.
ثم ذكر الحديث السابق في صحيح مسلم من حديث جرير رضي الله عنه بذكر الاستنان.
إذن، فالترمذي شمل اللفظين بترجمة واحدة هي الجزء الثاني من ترجمة النووي رحمه الله، وهي أن المقصود من اللفظين فضل من دعا إلى الهدى فاتبعه الناس، والتحذير من الدعوة إلى الضلال فيكون متبوعا عليه.
وابن ماجه رحمه الله أورد في مقدمة سننه (1/73) بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي هذه الترجمة فقال:
"§بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً".
أورد فيه لفظ مسلم المتقدم ونحوه من حديث أبي هريرة بذكر الاستنان، ثم أورد في الباب ذاته من حديث أنس فقال:
205 - حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ حَمَّادٍ الْمِصْرِيُّ قَالَ: أَنْبَأَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ قَالَ: «§أَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى ضَلَالَةٍ فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أَوْزَارِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا، وَأَيُّمَا دَاعٍ دَعَا إِلَى هُدًى فَاتُّبِعَ، فَإِنَّ لَهُ مِثْلَ أُجُورِ مَنِ اتَّبَعَهُ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»، (1/74).
ومن حديث أبي هريرة أيضا (1/75): بنحو حديث أنس، وهو لفظ مسلم بذكر أجر الدعوة إلى الهدى، ووزر الدعوة إلى الضلال.
ثم عاد لذكر الاستنان المذكور في حديث جرير ولكن من حديث أبي جحيفة رضي الله عنه برقم, 207.
فابن ماجه رحمه الله استعمل الشطر الأول من ترجمة النووي رحمه الله للفظين.
وكذلك فعل الدارمي رحمه الله في سننه بتحقيق حسين سليم أسد فذكر في سننه (1/443) ترجمة قال فيها:
"§بَابُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً أَوْ سَيِّئَةً".
أورد فيه حديث جرير رضي الله عنه برقم 529، بذكر الاستنان، وبرقم 530 حديث أبي هريرة عند مسلم بذكر الدعوة إلى الهدى.ثم عاد إلى حديث جرير من طريق أخرى برقم 531 في ذكر الاستنان، ثم أورد من مراسيل حسان بن عطية الحديث رقم 532 فقال:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ هُوَ ابْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا الْأَوْزَاعِيُّ، حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «§أَنَا أَعْظَمُكُمْ أَجْرًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ لِي أَجْرِي، وَمِثْلَ أَجْرِ مَنِ اتَّبَعَنِي}.
ثم أورد من حديث أنس الحديث رقم 533 فقال:
أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ بِشْرٍ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " §مَنْ دَعَا إِلَى أَمْرٍ وَلَوْ دَعَا رَجُلٌ رَجُلًا، كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَوْقُوفًا بِهِ، لَازِمًا بِغَارِبِهِ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] "
ومن حديث ابن مسعود فقال:
534 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «§أَرْبَعٌ يُعْطَاهَا الرَّجُلُ بَعْدَ مَوْتِهِ، ثُلُثُ مَالِهِ إِذَا كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ لِلَّهِ مُطِيعًا، وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يَدْعُو لَهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ، وَالسُّنَّةُ الْحَسَنَةُ يَسُنُّهَا الرَّجُلُ، فَيُعْمَلُ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْمِائَةُ إِذَا شَفَعُوا لِلرَّجُلِ شُفِّعُوا فِيهِ»
فأنت ترى أهل العلم المترجمين لأبوابهم بأنفسهم وهم سابقون على النووي رحمه الله وافقوا مسلما رحمه الله في رواية اللفظين, لفظ الاستنان، ولفظ الدعوة، فمنهم من ترجم بلفظ أجر الدعوة إلى العمل على اللفظين، كالترمذي، ومنهم من ترجم بلفظ الاستنان على اللفظين، كابن ماجه، والدارمي، فوافقوا مسلما في روايته للفظين وقد علمت أن مسلما رحمه الله ليست الترجمة له، وهذا يدلك على أن معنى اللفظين واحد، وإن كان أحد اللفظين مشكلا، فتفسره الرواية الأخرى، بناء على القاعدة العلمية أن روايات الحديث يفسر بعضها بعضا، ومعنى الحديثين أن المقصود به الدعوة إلى أمر مشروع فيقتدي الناس بمن دعا إليه قولا أو فعلا، وليس المقصود به إحداث أمر جديد، وقصة لفظ حديث جرير رضي الله عنه تبينه، وهو الدعوة إلى الصدقة، والصدقة مأمور بها شرعا، والناس أبطأوا ثم تتابعوا بعد ذلك الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.
ولئلا يقول قائل: هذا مجرد استنباط يستفاد من النقل الآتي من شعب الإيمان للبيهقي رحمه الله، فقد أورد في ترجمة له فقال (9/231):
"§بَابٌ فِي السُّرُورِ بِالْحَسَنَةِ وَالِاغْتِمَامِ بِالسَّيِّئَةِ"
أورد فيه بأسانيده حديث: {§كُتِبَ لَكَ أَجْرَانِ, أَجْرُ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ}.
ثم قال (9/239):
"قَالَ الْحَلِيمِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: فَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، أَنَّ مَعْنَاهُ: فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي لِيُقْتَدَى بِي، وَيُعْمَلُ مِثْلُ عَمَلِي، لَيْسَ أَنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يُذْكَرَ وَيُثْنَى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا " وَكَمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يُصَلِّي، فَرَآهُ جَارٌ لَهُ، فَقَامَ يُصَلِّي، فَغُفِرَ لِلْأَوَّلِ، يَعْنِي أَنَّ الثَّانِيَ أَخَذَ عَنْهُ وَتَابَعَهُ".
إلى أن قال (9/239-240):
وَالَّذِي رَوَاهُ الْحَلِيمِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، فَقَدْ رُوِّينَاهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ كَمَا : 6610 - أَخْبَرَنا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ الْأَصْبَهَانِيُّ، نا أَبُو الطِّيبِ الْمُظَفَّرُ بْنُ سَهْلٍ الْخَلِيلِيُّ الْقَائِدُ، بِمَكَّةَ، نا إِسْحَاقُ بْنُ أَيُّوبَ بْنِ حَسَّانَ الْوَاسِطِيُّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، وَقَدْ سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ قَوْلِ الصَّحَابِيِّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لَأُسِرُّ الْعَمَلَ، فَإِذَا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سَرَّنِي؟ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " §لَكَ أَجْرَانِ، أَجْرُ السِّرِّ، وَأَجْرُ الْعَلَانِيَةِ "قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هَذَا مِنْ أَجْوَدِ الْأَحَادِيثِ وَأَحْكَمِهَا لِرَجُلٍ يُسِرُّ الْعِبَادَةَ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ مُطَّلِعٌ فَيَعْمَلُ بِمِثْلِ عَمَلِهِ فَسَرَّهُ إِذَا بَلَغَهُ أَنَّ فُلَانًا قَدْ عَمِلَ بِمَا عَمِلْتَ، وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: §" مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا"
فهذا تفسير بعض السلف للحديث، يوافق صنيع الأئمة في تراجم أبوابهم، وإليه يرد كلام الشافعي رحمه الله في قوله عما له أصل وعما ليس له أصل، وبه تجتمع الأدلة.
وعليه، فللمولد النبوي مع هذا الاستدلال بالحديث احتمالان, إما أن يستدل بالحديث على أن المولد بدعة حسنة على أن معنى الحديث يتناوله، فقد عرفت أن معنى الحديث ليس كما قالوا، وذلك إضافة إلى ما تقدم من لفظ الحديث ذاته، فالحديث فيه الحث على الصدقة، والصدقة مأمور بها شرعا، وفيه إبطاء الناس ثم تتابعهم بعد ذلك بعد الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين، فهل ينطبق هذا على المولد النبوي؟
أما الاحتمال الثاني, فأن يقال: الحديث على المعنى المستفاد من تراجم أبواب الأئمة وعلى تفسير من تقدم من السلف من أنه في الدعوة إلى هدى مما أصله مشروع في الكتاب والسنة، والمولد النبوي مما له أصل مشروع في السنة، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سؤل عن صيام الإثنين أجاب بأنه يوم ولد فيه. فقد علم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومن طريقتكم اختلاف تعظيم يوم المولد، فأنتم تعظمون يوم المولد يوما أو شهرا، وتتخذونه موسما للمدائح والفرح والسرور بسائر أنواع المطعوم والمشروب، وهدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصومه تعبدا لله كل أسبوع في أغلب أحواله، وليس ذلك فحسب، بل كان من سبب صيامه كما ثبت عنه بأنه فيه عليه أنزل، فلماذا تركتم هديه في تعظيم يوم مولده؟ ولماذا ترك طريقتكم في تعظيم يوم مولده؟ فإما أنكم على سبيل أهدى من سبيله، وهذا ممتنع، وإما أنكم على تأسيس ضلالة وجب التحذير منها، وإذا علم أنه كان يعظم يوم مولده ويشكر الله عليه بالتعبد لله بصيامه بطل قول من يقول إننا نحتفل بمولده من قبيل العادات، فإنهم لم يقدروا النبي صلى الله عليه وسلم حين جعلوا تعظيم يوم مولده عادة.
ثانيا-- يقال لمن جوزوا أو استحبوا فتأولوا الحديث: التجويز أو الاستحباب حكم شرعي، والدعوة في أوساطكم عريضة بإغلاق باب الاجتهاد، فالحكم الشرعي لا يثبت إلا بدليل صحيح صريح، إذ الأصل في العبادات المنع إلا بدليل، فيقال لكم: تجويزكم للمولد النبوي لا يمكن إلا أن يكون بأحد طريقين, إما أن يكون عن توقيف، نحتاج أن نعرفه، وإما أن يكون عن اجتهاد، فدعوة إغلاق باب الاجتهاد عريضة في أوساطكم.
وتجويزكم له بلا دليل صحيح صريح بهذا الدليل المتأول المحتمل بأحدى هتين الدعوتين يسقط تجويزكم له من أساسه، إذ لا توقيف، بل أدلة عامة محتملة، وإما إن أبطلتم دعوى غلق باب الاجتهاد فقلتم هو اجتهاد على أصول عامة وأدلة عامة لا تخرج عن مقاصد الإسلام، فيرد عليكم صنيع الأئمة المتقدم في تراجم تبويباتهم عن الحديث المتقدم، وتفسير من وافقهم في تفسير السنة الحسنة، هذا مع هدمكم لباب عريض من أبواب البدعة وهو البدعة الإضافية، وتخصيصكم لعموم أحاديث بغير مخصص قطعي الدلالة, وهي النصوص التي فيها كل بدعة ضلالة، فتأويلكم للحديث المتقدم غير مسلم لكم كما تقدم، فالموالد إذن ليس لها أصل شرعي تبنى عليه، والله أعلم.
الأربعاء، 11 أغسطس 2021
الآثار السلفية في أن الدعاء لا يقتصر فيه على الوالدين إذا كانت الجنازة لطفل:
الآثار السلفية في أن الدعاء لا يقتصر فيه على الوالدين إذا كانت الجنازة لطفل:
ينقل بعض الإخوة عند الصلاة على السقط إذا نفخت فيه الروح، أو الصبي إذا لم يبلغ الحلم أنه يصلى عليه ويكون الدعاء لوالديه بالمغفرة والرحمة، لحديث المغيرة بن شعبة عند أبي داود وغيره، وهذا لفظ أبي داود:
3180 - حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَأَحْسَبُ أَنَّ أَهْلَ زِيَادٍ أَخْبَرُونِي أَنَّهُ رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «§الرَّاكِبُ يَسِيرُ خَلْفَ الْجَنَازَةِ، وَالْمَاشِي يَمْشِي خَلْفَهَا، وَأَمَامَهَا، وَعَنْ يَمِينِهَا، وَعَنْ يَسَارِهَا قَرِيبًا مِنْهَا، وَالسِّقْطُ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَيُدْعَى لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ.
وليس معنى الحديث ترك الدعاء للصبي مطلقا، ولا في الحديث دليل على الاقتصار في الدعاء للصبي والسقط بأن يكون فرطا وذخرا وأجرا لوالديه، فقد وردت أحاديث وآثار فيها الدعاء للصبي.
وقد أورد العلماء إشكالا عند تعرضهم للخلاف في الصلاة على السقط، وهي, ما حاجة السقط إلى الصلاة عليه؟
ولا شك في أن العبادة إذا ثبتت بالدليل يتعبد بها لله سواء عرفنا الحكمة أو لم نعرفها، لكن نجد مثلا في شروح الرسالة لأبي زيد القيرواني اجتهادا للعلماء في بيان العلة التي من أجلها أفرد ابن أبي زيد الدُّعَاءِ لِلطِّفْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغُسْلِهِ بباب مستقل,
قال شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي في الفواك الدواني ج1، ص300::
"(بَابٌ فِي) صِفَةِ (الدُّعَاءِ لِلطِّفْلِ) وَهُوَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. (وَ) فِي حُكْمِ (الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغُسْلِهِ) وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ عَمَّا قَبْلَهُ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا شَفَاعَةٌ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا، وَرَدَّ كَلَامَهُ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ قَدْ تَكُونُ لِمَحْضِ رَفْعِ دَرَجَاتٍ فَلَا تَتَقَيَّدُ بِالْمُذْنِبِينَ".
ومما يدل على أن صلاة الجنازة شفاعة ما في صحيح مسلم وغيره, (948) حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، وَهَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الْأَيْلِيُّ، وَالْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ السَّكُونِيُّ، قَالَ الْوَلِيدُ: حَدَّثَنِي، وقَالَ الْآخَرَانِ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ بِقُدَيْدٍ - أَوْ بِعُسْفَانَ - فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ، انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ، فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: تَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخْرِجُوهُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «§مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ، فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا، لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا، إِلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ»، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَعْرُوفٍ: عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ".
فصلاة الجنازة دعاء وشفاعة، ولو كانت لسقط أو صبي، والصبي ولو لم يكن له ذنب فمما يرجى له رفعة الدرجة به صلاة المسلمين عليه، وهذا بعد كوننا متعبدين بهذا وإن لم نعلم الحكمة. ومن الأدعية الثابتة عن السلف في الدعاء للصبي والسقط في الجنازة:
{اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الاسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الايمان، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده}.
ولا شك أنه دعاء عام، لكن الذين مالوا إليه في الدعاء للصبي أو السقط اختاروه لورود الصغير فيه نصا، وقد خرج الحديث الشيخ الألباني في كتابه أحكام الجنائز ص124 فقال:
"أخرجه ابن ماجه (1/ 456) والبيهقي (4/ 41) من طريق محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي سلمة عنه، وأبو داود (2/ 68) والترمذي (2/ 141) وابن حبان في صحيحه (757 - موارد) والحاكم (1/ 358) والبيهقي أيضا وأحمد (2/ 368) من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة به نحوه، دون قوله " اللهم لا تحرمنا ... " فهي عند أبي داود وحده، وصرح يحيى بالتحديث عند الحاكم ثم قال: " صحيح على شرط الشيخين ". ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وأعل بما لا يقدح. وليحيى فيه إسنادان آخران، عند أحمد (4/ 170، 308) والبيهقي. وللحديث شاهد من حديث ابن عباس نحوه. رواه الطبراني في " الكبير ".
فهذا حديث له من المتابعات والشواهد كما خرجه الشيخ الألباني رحمه الله، وفيه الدعاء للصغير في ثمانية أصناف تشمل أمة الإسلامجمعاء. وقد مال إلى هذا الدعاء عند الصلاة على السقط أو الصبي جماعة من العلماء, جاء في التلخيص الحبير، ج2، ص290:: "
قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلًا اقْتَصَرَ عَلَى الْمَرْوِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَيُضِيفُ إلَيْهِ "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ سَلَفًا وَفَرْطًا لِأَبَوَيْهِ وَذُخْرًا وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا وَشَفِيعًا وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمَا وَأَفْرِغْ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ وَلَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ" انتهى".
فقدم الدعاء المرفوع عن أبي هريرة على تلك الأدعية التي فيها سؤال الله للطفل أن يكون أجرا وفرطا وذخرا وسلفا وشفيعا. وفي عون المعبود ج8، ص362:
"وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الطِّفْلِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ فَكَالصَّلَاةِ عَلَى الْكَبِيرِ وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ النبي بِسَنَدٍ صَحِيحٍ أَنَّهُ عَلَّمَ أَصْحَابَهُ دُعَاءً آخَرَ لِلْمَيِّتِ الصَّغِيرِ غَيْرَ الدُّعَاءِ الَّذِي عَلَّمَهُمْ لِلْمَيِّتِ الْكَبِيرِ بَلْ كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا كَمَا عَرَفْتَ".
فمن اتخذ التفريق ديدنا بين جنازتي الكبير والصغير فيلزمه الدليل، إلا ما كان من الخلاف في طلب المغفرة للصبي، وفيه أوجه يأتي نقلها، إن شاء الله.
والشيخ الألباني رحمه الله استحب هذا الدعاء أيضا فقال في حاشية ص127:
"والذي أختاره أن يدعو في الصلاة على الطفل بالنوع (الثاني) لقوله فيه: " وصغيرنا ... اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده "".
وفي شرح سنن أبي داود (532/35)سؤل الشيخ عبد المحسن العباد حفظه الله:
ما هو الدعاء الصحيح للطفل الميت؟
فأجاب:
" يقول: ((اللهم اغفر لحينا وميتنا، وصغيرنا وكبيرنا، وشاهدنا وغائبنا، ولجميع موتانا)) يعني: سواء كان الميت صغيراً أو كبيراً، هذا دعاء ورد للصغير وللكبير، ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة، وقد جاء في الحديث أنه يصلى عليه ويدعى لوالديه بالرحمة والمغفرة".
وهذا فيه الجمع في الدعاء للطفل الميت ولوالديه.
وقد نص جماعة من فقهاء المذاهب على هذا, قال النووي في الأذكار ص158-159:
"قال أصحابنا: فإن كان الميت طفلاً دعا لأبويه فقال: " اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَهُما فَرَطاً، واجْعَلْهُ لَهُما سَلَفاً، واجْعَلْهُ لَهُما ذُخْراً ، وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُما، وأفرغ الصبر على قُلوبِهِما، وَلا تَفْتِنْهُما بَعْدَهُ، وَلا تَحْرِمْهُما أجْرَهُ ". هذا لفظ ما ذكره أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا في كتابه " الكافي "، وقاله الباقون بمعناه، وبنحوه قالوا: ويقول معه: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنا وَمَيِّتِنا ... " إلى آخره".
فهذا النووي رحمه الله يحكي استحباب الشافعية لهذا الدعاء في الصلاة على الصبي، وأن منهم من استحب جمع هذا الدعاء مع ما اختاروه من صيغ الدعاءء، واستحبوا أيضا الجمع بين الطفل وبين والديه في الدعاء.
وفي الفروع لابن مفلح ج3، ص336:
"ثُمَّ يُكَبِّرُ فَيَدْعُو سِرًّا "و" قَالَ أَحْمَدُ: لَا تَوْقِيفَ، اُدْعُ لَهُ بِأَحْسَنِ مَا يَحْضُرُك، أَنْتَ شَفِيعٌ، يُصَلِّي عَلَى الْمَرْءِ عمله، ويستحب ما روي وَمِنْهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا، وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا، اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِيمَانِ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تُضِلَّنَا بَعْدَهُُ".
إلى آخر ما ذكر من دعاءء.
ثم قال ص3377:
"وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا زَادَ الدُّعَاءَ لِوَالِدَيْهِ بِالْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، لِلْخَبَرِ، ذَكَرَهُ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ، وَاقْتَصَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَلَى الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ، لِلْخَبَرِ، لكن زادوا: وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ: سُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ لَهُ. وَفِي الْخِلَافِ وَغَيْرِهِ: فِي الصَّبِيِّ الشَّهِيدِ أَنَّهُ يُخَالِفُ الْكَبِيرَ فِي الدُّعَاءِ لَهُ بِالْمَغْفِرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ عَلَيْهِ، وَكَذَا فِي الْفُصُولِ: أَنَّهُ يَدْعُو لِوَالِدَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ، فَالْعُدُولُ إلَى الدُّعَاءِ لِوَالِدَيْهِ هُوَ السُّنَّةُ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَكْثَرُ الْحَنَفِيَّةِ الدُّعَاءَ لِوَالِدَيْهِ، بَلْ "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا ذُخْرًا وَفَرَطًا، وَشَفِّعْهُ فِينَا" وَنَحْوَهُ. وَعِنْدَنَا: إنْ لَمْ يَعْرِفْ إسْلَامَ وَالِدَيْهِ دَعَا لِمَوَالِيهِ"، فهو يحكي الخلاف عن الحنابلة، فمنهم من جمع بين الدعاء للطفل وبين الدعاء لوالديه، ومما قدمه في الدعاء على الجنازة حديث أبي هريرة المتقدم الذي فيه الدعاء للأصناف الثمانية، وفي المنقول آنفا عن بعضهم قوله, "لكن زادوا: وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَزَادَ جَمَاعَةٌ: سُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ لَهُ"، وهذا الاستحباب منهم لسؤال المغفرة له موافق لحديث أبي هريرة المتقدم، وفيه دلالة على عدم الاكتفاء بأن يسأل العبد الله له أن يكون سلفا وأجرا وذخرا وفرطا لوالديه، فتأمله، وبهذا يتبين أنه لا تعارض بين الحديثين, حديث {ويدعى لوالديه}، وحديث الدعاء للصبي أو السقط، وإنما يستفاد من المنقولات آنفا، أن الشأن في الدعاء للصغير كالكبير، ويزاد في الدعاء للصغير الدعاء لوالديه، والله أعلم.
ويبقى الإشكال في سؤال المغفرة للصبي مع أن المغفرة لا تكون إلا لذنب وقع، وللعلماء في تأويل ذلك وجوه، منها, ما حكاه الشيخ ابن عثيمين عن أهل العلم في شرح رياض الصالحين ج4، ص544 أن ذكر الصغير من باب التبع فقال:
" أما هذا الدعاء الذي ذكره المؤلف رحمه الله فهو الدعاء العام يقول المصلي على الميت اللهم اغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا وغائبنا وهذه الجمل تغني عنها جملة واحدة لو قال اللهم اغفر لحينا وميتنا شمل الجميع لكن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط والتفصيل لأن الدعاء كل جملة منه عباده لله عز وجل وإذا كررته ازددت بذلك ثوابا فقوله حينا وميتنا يشمل الحي الحاضر والميت القديم والميت في عصره وصغيرنا وكبيرنا كذلك أيضا يشمل الصغير والكبير. الحي والميت وذكر الصغير مع أن الصغير لا ذنب له من باب التبعية وإلا فإن الصغير ليس له ذنب حتى تسأل له المغفرة وذكرنا وأنثانا مثلها عامة وشاهدنا وغائبنا الحاضر والمسافر".
فلعل هذا عند الشيخ من باب, (يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا), وعندئذ, لا يدعى للسقط أو الصبي الصغير بالمغفرة بدعوة مستقلة.
وفي ذخيرة العقبى للشيخ الإثيوبي ج19، ص312:
"وههنا إشكال، وهو أن المغفرة مسبوقة بالذنوب، فكيف تتعلّق بالصغير، ولا ذنب له، وذكروا في دفعه أوجهًا، فقال السنديّ: المقصود في مثله التعميم. وقال ابن حجر الهيتميّ: الدعاء بالمغفرة في حقّ الصغير لرفع الدرجات. وقال القاري: يمكن أن يكون المراد بالصغير والكبير الشابّ والشيخ. وقال التوربشتيّ: سئل أبو جعفر الطحاويّ عن معنى الاستغفار للصبيان، مع أنه لا ذنب لهم، فقال: معناه السؤال من اللَّه أن يغفر لهم ما كتب في اللوح المحفوظ أن يفعلوه بعد البلوغ، من الذنوب حتى إذا كانوا فعلوه كان مغفورًا، وإلا فالصغير غير مكلّف، لا حاجة له إلى الاستغفار انتهى".
وقد تقدم كلام جمع من العلماء في أنه يدعى به للصبي، فهو عندهم يشمله، وقد علم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم استحباب الجوامع من الدعاء، وقد أوتي صلوات ربي وسلامه عليه جوامع الكلم، فلما أطنب ههنا وكان قادرا على الإيجاز علمنا أن النص على هذه الأصناف مقصود إليه، ولعل ذلك كما قال الشيخ ابن عثيمين لزيادة الثواب بتكثير الجمل التي كل منها عبادة, إذ المقام مقام دعاء، وكذلك الإطناب ههنا لعل له فوائد أخرى غير تكثير الثواب بجمل الدعاء، ولعل منها الدعاء بهذا للسق\ط أو الصبي، وبهذا يعد دعاء جامعا مع إطنابه، ومجيؤه على هذه الصيغة أفضل من الدعاء بالمغفرة لعموم المسلمين إجمالا، ولذا استحب بعض العلماء تقديمه في الدعاء في جنازة الطفل لكونه لفظ نبوي مرفوع، ويحصل به الغرض بالدعاء للصبي ولوالديه، لدخولهم في الأصناف المنصوص عليها، وذكر الصبي بالنص عليه خاصة، والقول بأن المقصود بالصغير الشباب في مقابل الشيوخ لاشتراك الصنفين في التكليف تقييد يحتاج إلى برهان، ولا تكفي علة عدم التكليف لإخراج الصبي أو السقط، بما سيأتي من أثر أبي هريرة رضي الله عنه الآتي وفيه الدعاء للصبي بأن يعيذه الله من عذاب القبر.
هذا، ومما ينبغي التنبيه عليه أنه ينبغي تقييد لفظة (التكليف) في الإشكال الوارد بقولنا, (في الدنيا)، فالسقط إذا نفخت فيه الروح ومات، وكذلك الصبي الذي لم يحتلم فإنه غير مكلف في الدنيا لكن جاء أنه يكلف في الآخرة، كما ذكر ابن القيم رحمه الله عن بعض أهل العلم وانتصر له، وذلك عند ذكره للطبقة الرابعة عشر من طبقات المكلفين، وهي الطبقة التي فيها من لم يصدر منهم إيمان ولا كفر، كالأطفال والمجانين ومن في حكمهم، وبعد أن ذكر المذهب الثامن فيهم وهو الراجح عنده لما دلت عليه النصوص وهو أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، تعرض لمسألة أن التكليف لا ينقطع إلى أن يصل المرء إلى دار القرار، إذ كيف يمتحنهم الله ولا تكليف، فقال في طريق الهجرتين ص400:
"الرابع: أنه قد نص جماعة من الأئمة على وقوع الامتحان في الدار الآخرة، وقالوا: لا ينقطع التكليف إلا بدخول دار القرار ذكره البيهقي عن غير واحد من السلف".
ثم قال ص400-401:
"فإن قيل: فالآخرة دار جزاءٍ، وليست دار تكليف، فكيف يمتحنون في غير دار التكليف؟ فالجواب: أن التكليف إنما ينقطع بعد دخول دار القرار، وأما في البرزخ وعرصات القيامة فلا ينقطع وهذا معلوم بالضرورة من الدين من وقوع التكليف بمسألة الملكين في البرزخ وهي تكليف. وأما في عرصة القيامة فقال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] ، [فهذا] صريح في أن الله يدعو الخلائق إلى السجود يوم القيامة، وأن الكفار يحال بينهم وبين السجود إذ ذاك، ويكون هذا التكليف، بما لا يطاق حينئذ حساً عقوبة لهم، لأنهم كلفوا به في الدنيا وهم يطيقونه فلما امتنعوا منه وهو مقدور لهم كلفوا به وهم لا يقدرون عليه حسرة عليهم وعقوبة لهم، ولهذا قال تعالى: {وَقدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43)".
وثمرة هذا أن الإشكال في الاستغفار والتعوذ للطفل يكون قويا إذا انقطع التكليف بالموت، فإذا مات من لم يبلغ الحلم كان غير مكلف، فكيف يستغفر له ويستعاذ له من عذاب القبر؟! فأما إن علم أن التكليف لا ينقطع إلا بدخول الجنة أو النار عند من ذهب إليه بالأدلة التي ذكرها ابن القيم وغيره، فلا إشكال، لأنه يتماشى مع ما وجهه بعض أهل العلم من أن الدعاء زيادة، أو سؤال للتثبيت على الحالة التي هو عليها، وكذلك يتماشى مع ما وجهه بعض أهل العلم من أن فتنة القبر وعذاب القبر يعمان الصغير والكبير كما سيأتي ذكره، فمع وجود التكليف لمن ذهب عقله أو مات قبل الحلم في غير هذه الدار تظهر قوة وجوه الدعاء للطفل ومن كان مثله، وأما كون الاستغفار لا يكون إلا بعد ذنب، فتقدم، وكلام ابن القيم في تقرير تلك المسألة طويل، فإن أردت الإلمام به فعليك بكتابه, (طريق الهجرتين).
ومن الآثار المروية في الدعاء للصبي إذا مات ما رواه البيهقي في السنن الكبرى 4، ص15، برقم 6794، بسنده عن هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْمَنْفُوسِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ، وَيَقُولُ: " §اللهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا سَلَفًا وَفَرَطًا وَذُخْرًا " قَالَ نُعَيْمٌ: وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ أَتُصَلِّي عَلَى الْمَنْفُوسِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ؟ قَالَ: قَدْ صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مَغْفُورًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يَعْصِ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ "
وروى البيهقي وغيره أيضا والبخاري تعليقا في صحيحه ج2، ص89-90، باب قراءة فاتحة الكتاب على الجنازة هذا عن الحسن فقال: "وَقَالَ الحَسَنُ: " يَقْرَأُ عَلَى الطِّفْلِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَنَا فَرَطًا وَسَلَفًا وَأَجْرًا "، قال الشيخ الألباني رحمه الله في حاشية أحكام الجنائز ص126-127:
"الثانية: قال الشوكاني في " نيل الأوطار " (55 4): " إذا كان المصلي عليه طفلا استحب أن يقول المصلي: اللهم اجعله لنا سلفا وفرطا وأجرا، روى ذلك البيهقي من حديث أبي هريرة، وروى مثله سفيان في " الجامعة " عن الحسن ". قلت: حديث أبي هريرة عند البيهقي إسناده حسن، ولا بأس في العمل به في مثل هذا الموضع، وإن كان موقوفا، إذا لم يتخذ سنة، بحيث يؤدي ذلك الى الظن إنه عن النبي صلى الله عليه وسلم".
وهذا ما يتمسك به بعض الأئمة عند الصلاة على الطفل ، فلا يذكرون للمصلين غيره، فيأمرونهم بالصلاة عليه، والدعاء لوالديه، فلو أنهم بحثوا أو سألوا. فيا ترى، ماذا لو عرفوا أن لأبي هريرة أثراآخر صحيحا موقوفا عليه أيضا، وفي ديوان من أشهر دواوين السنة، وهو موطأ الإمام مالك، وفيه الاستعاذة من أبي هريرة للصبي من عذاب القبر، ففي الموطأ ج2، ص320 في التبويب الذي عقده الإمام مالك فيما جاء في التكبير على الجنائز فقال: "776 - مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ؛ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى صَبِيٍّ لَمْ يَعْمَلْ خَطِيئَةً قَطُّ. فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ".
جاء في مشكاة المصابيح بتحقيق الشيخ الألباني ج1 ص531: "1689 -[44] (صَحِيح)". وقد استشكل هذا كما استشكل الاستغفار للصبي، فقال ابن عبد البر رحمه الله في الاستذكار ج3، ص39-40:
""وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الصَّبِيِّ اللَّهُمَّ أَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُ اللَّهِ تعالى (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) الْفَتْحِ 14 وَلَوْ عَذَّبَ اللَّهُ عِبَادَهُ أَجْمَعِينَ كَانَ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ كَمَا أَنَّهُ إِذَا هَدَى وَوَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ وَأَضَلَّ وَخَذَلَ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ كَانَ غَيْرَ ظَالِمٍ لَهُمْ وَإِنَّمَا الظَّالِمُ مَنْ فَعَلَ غَيْرَ مَا أَمَرَ بِهِ وَاللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ مَأْمُورٍ لَا شَرِيكَ لَهُ".
وفي شرح الزرقاني على الموطأ ج2، ص88:
"وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ هُنَا عُقُوبَتَهُ وَلَا السُّؤَالَ بَلْ مُجَرَّدَ الْأَلَمِ بِالْغَمِّ وَالْهَمِّ وَالْحَسْرَةِ وَالْوَحْشَةِ وَالضَّغْطَةِ وَذَلِكَ يَعُمُّ الْأَطْفَالَ وَغَيْرَهُمْ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ اعْتَقَدَهُ لِشَيْءٍ سَمِعَهُ مِنَ الْمُصْطَفَى أَنَّ عَذَابَ الْقَبْرِ عَامٌّ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَأَنَّ الْفِتْنَةَ فِيهِ لَا تَسْقُطُ عَنِ الصَّغِيرِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ الْمَلِكِ: يُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى الْعَادَةِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْكَبِيرِ أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ كَبِيرٌ أَوْ دَعَا لَهُ عَلَى مَعْنَى الزِّيَادَةِ كَمَا كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَرْحَمَهَا وَتَسْتَغْفِرُهُ".
فأما حمل عذاب القبر على غير الحقيقة الشرعية فأمر يعوزه الدليل، وأذا جاز القول بأنه قال هذا التعوذ على توقيف عنده من النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنع من القول به وجها في الاستغفار للصبي أيضا؟ يزيده وضوحا ما ذكره العيني في نخب الأفكار ج7، ص431:
"قوله: "اللهم أعذه من عذاب القبر" يدل على أن عذاب القبر حق ردًّا على من أنكره من المعتزلة، وأنه يعم الصغير والكبير. فإن قيل: المنفوس الذي لم يعمل خطيئة كيف يعذب في القبر؟ قلت: لما لم يَخْل الصغير عن السؤال في القبر حتى عن نظره إلى الدنيا مرة واحدة أطلق على ذلك العذاب؛ لأن في السؤال نوع عذاب في حقه، والأولى أن يحمل هذا على سؤال الثبات والدوام على ما هو عليه من عدم العذاب في حقه، كما كان رسول الله - عليه السلام - يتعوذ من عذاب القبر مع العلم قطعًا أنه لا يعذب أصلًا.
فما المانع أن يكون سؤال المغفرة للصبي أو السقط الذي نفخت فيه الروح والتعوذ لهما من عذاب القبر من باب طلب الثبات لهما إذا قيل بعموم فتنة القبر وعذاب القبر للصغير والكبير، وإذا قيل إن الأنبياء يتعوذون وهم معصومون منه ويستغفرون وقد غفر لهم من باب التعبد والاقتداء، فيقال إن في الصحابة من بشر بالجنة، وكان يتعوذ لنفسه، ويفرق فرقا شديدا من العذاب، وإن كان هؤلاء مكلفون، والصبية لم يكلفوا، فهو عمل صحابي، لا يعلم له مخالف، والسند إليه صحيح، واحتمال فعله على توقيف في المسألة وارد، وفعل ذلك اقتداء به عمل بأثر، كما يقتدي به من يدعو للصبي بأن يكون سلفا وفرطا وذخرا أو أجرا، وقبله استغفر النبي صلى الله عليه وسلم للأصناف الثمانية وفيهم الصغير، ويشمل الصغير حيا وميتا إلى ما شاء الله أن تكون بقية باقية من أمته صلوات ربي وسلامه عليه. وقد اختار المالكية صيغة دعاء جمعوا فيها بين سؤال الله أن يكون الصبي سلفا وفرطا وأجرا، وبين الاستغفار والاستعاذة له، كيف وأمامهم هو من روى استعاذة أبي هريرة للطفل من عذاب القبر، جاء في النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني ج1، ص595:
"وأما الدعاء للطفل، قال ابن وهب، عن مالك، في (المجموعة): يسأل الله له الجنة: ويستعاذ له من النار، ونحو ذلك من الكلام، كما روي عن أبي هريرة. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يكبر الأولى فيقول ما ذكرنا من حمد الله، والصلاة على نبيه فقط، ثم يكبر الثانية ويقول: اللهم إنه عبدك، وابن عبدك، أنت خلقته، وأنت قبضته إليك، وأنت عالم بما كان عاملا به وصائرا إليه، اللهم جاف الأرض عن جنبيه، وأفسح له في قبره، وافتح أبواب السماء لروحه، وأبدله دارا خيرا من داره، وأعذه من عذاب القبر، وعذاب النار، وصيره إلى جنتك برحمتك، وألحقه بصالح سلف المسلمين، في كفالة إبراهيم، واجعله لنا ولأبويه سلفا وذخرا، وفرطا وأجرا. وفي موضع آخر: وثقل به موازينهم وأعظم به أجورهم ولا تحرمنا وإياهم أجره، ولا يفقتنا وإياهم بعده. تقول ذلك بإثر كل تكبيرة. ويدعو بعد الرابعة بما ذكر، على مذهب من يدعو بعد الرابعة". وفي الرسالة له ص58: "باب في الدعاء للطفل والصلاة عليه وغسله تثني على الله تبارك وتعالى وتصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ثم تقول اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك أنت خلقته ورزقته وأنت أمته وأنت تحييه اللهم فاجعله لوالديه سلفا وذخرا وفرطا وأجرا وثقل به موازينهم وأعظم به أجورهم ولا تحرمنا وإياهم أجره ولا تفتنا وإياهم بعده اللهم ألحقه بصالح سلف المؤمنين في كفالة إبراهيم وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وعافه من فتنة القبر ومن عذاب جهنم تقول ذلك في كل تكبيرة وتقول بعد الرابعة اللهم اغفر لأسلافنا وأفراطنا ولمن سبقنا بالإيمان اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام واغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات ثم تسلم".
مما تقدم يعلم أن المقصود من حديث النبي صلى الله عليه وسلم "ويدعى لوالديه}، الجمع لا قصر الدعاء في الجنازة للوالدين، فهي واو لمطلق الجمع لا للمغايرة، والدليل قوله وفعله، وفعل أصحابه من بعده، ونص كثير من أهل العلم عليه، وأن الدعاء له ليس فيه صيغة مخصوصة، بل الدعاء للصغير كالكبير كما قال أهل العلم، إلا أنه يزاد الدعاء لوالديه معه، والله أعلم.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)