#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله

#تلبيسات_نادر_العمراني_في_سفك_الدماء_باسم_الجهاد_والشهادة_في_سبيل_الله
يركز أهل الضلال من إخوان ومن خرج من تحت عباءتهم على قضية الجهاد والشهادة, لأنه بهما يقدم الشباب أرواحهم طمعا في نيل الشهادة التي رتب عليها في شرعنا المطهر أجورا عظيمة، ولكنهم لا يؤصلون في الشباب معنى الجهاد الحقيقي في سبيل الله والفرق بين قتال الكفار وقتال غيرهم، والفرق بين الجهاد وبين غيره من أنواع القتال الجائزة والممنوعة، ولا يهتمون ببيان شروطه الواجب توافرها ليكون الجهاد مشروعا، ولا تكون الراية المرفوعة فيه راية عمية نهي عن القتال تحتها, تجاهل الإخوان كل ذلك لأن أغراضهم الحزبية تتنافى مع بيان ذلك.
ولما كان الشعار الذي رفعوه ليغطوا به أغراضهم السلطوية هو تحكيم الشريعة أولوا نصوص الشرع فأفهموا الأغرار الأغمار من الشباب أن خصومهم على اختلاف توجهاتهم لا يريدون تحكيم الشريعة, فهم إما أعداء للدين، وإما موالون لأعداء الدين، وزرعوا في عقولهم أنهم على حق وأن قتالهم يستمد شرعيته من نصوص الشريعة، ومنها قول الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} وقوله تعالى: { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله}، وهذا نادر العمراني يوظف حديث {القتلى ثلاثة} توظيفا حزبيا بعيدا عن التأصيل العلمي للشباب.
*رد الصحابة لشبهة الجهاد المزعوم عند الإخوان:
وهذا عبد الله بن عمر وسعد ابن أبي وقاص رضي الله عنهما وعن الصحابة أجمعين يردان على هذه الشبهة.
جاء في صحيح البخاري، باب قوله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين
4243 حدثنا محمد بن بشار حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا إن الناس صنعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي فقالا ألم يقل الله وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة فقال قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب قال أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمرو المعافري أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل وقد علمت ما رغب الله فيه قال يا ابن أخي بني الإسلام على خمس إيمان بالله ورسوله والصلاة الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت قال يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله قاتلوهم حتى لا تكون فتنة قال فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلا فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة قال فما قولك في علي وعثمان قال أما عثمان فكأن الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن تعفوا عنه وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده فقال هذا بيته حيث ترون
قال ابن حجر في الفتح في شرح الحديث: " قوله : ( ما حملك على أن تحج عاما وتعتمر عاما وتترك الجهاد في سبيل الله ) أطلق على قتال من يخرج عن طاعة الإمام جهادا وسوى بينه وبين جهاد الكفار بحسب اعتقاده وإن كان الصواب عند غيره خلافه ، وأن الذي ورد في الترغيب في الجهاد خاص بقتال الكفار ، بخلاف قتال البغاة فإنه وإن كان مشروعا لكنه لا يصل الثواب فيه إلى ثواب من قاتل الكفار ، ولا سيما إن كان الحامل إيثار الدنيا .
وفي صحيح مسلم وغيره عن أسامة بن زيد رحمه الله قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ، فَصَبَّحْنَا الْحُرَقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ، فَأَدْرَكْتُ رَجُلًا فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ، فَذَكَرْتُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا خَوْفًا مِنَ السِّلَاحِ، قَالَ: "أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: وَأَنَا وَاللَّهِ لَا أَقْتُلُ مُسْلِمًا حَتَّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَة}.
فانظر يا رعاك الله إلى فقه الصحابة كيف فرقوا بين قتال وقتال, قاتل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا تكون فتنة وهي الشرك، وكان الدين كله لله، واعتزل من اعتزل منهم القتال حيث قدر أن القتال بين المسلمين سيترتب عنه عواقب غير محمودة، ومما هو معلوم أن القتال, سواء أكان للكفار، أو قتال لفئة باغية لا بد أن يكون تحت راية إمام شرعي استتب له الأمر واستقر على إمامته المسلمون, إما بيعة، وإما تغلبا، وفي غير هذا يسمى القتال قتال فتنة يترتب عليه مفاسد عظيمة, من كثرة لسفك الدماء في غير طائل، ومن استباحة العدو للمسلمين بضعفهم وتفككهم، إلى غير ذلك. وغاب فقه الصحابة لهذه الأمور عن الإخوان ومن خرج من تحت عباءتهم, ففي عصرنا هذا عمد شيوخ الإخوان والمقاتلة إلى تجميع أكبر عدد من الشباب للقتال بهذه الشبهة التي ردها الصحابة رضوان الله عليهم من قبل من أجل تحقيق الأغراض الحزبية ولكي تعلم أن قتالهم على غير أساس شرعي انظر إلى تحالفهم أول الأمر مع الدواعش والقاعدة، مكونين ما يعرف بمجالس الشورى. ثم اقتضت مصالحهم التخلص منهم لإرضاء رغبات داخلية وخارجية لكن طال نفس الحرب وفتح الإخوان والمقاتلة على أنفسهم جبهات كثيرة للقتال استهلكت فيها كثير من طاقاتهم البشرية حيث صار أصدقاء الأمس من قاعدة ودواعش أعداء اليوم وتغير المواقف بهذه الدرجة يدل على عدم ثبات الأصول والمبادئ، وحيث إنه لا بد من استمرارهم في حربهم لئلا يخسروا الداعمين للوصول إلى الحكم، أو يدرجوا ضمن قوائم الأرهاب، سعى نادر العمراني ومن لف لفه إلى استجلاب مزيد من الوقود البشري للاستمرار في الحرب أطول فترة ممكنة.
وذلك بما جرت به مع الأسف الشديد عادة الإخوان والمقاتلة إلى توظيف الحماسة الدينية للشباب بتوظيف نصوص الشريعة وتأويلها على حسب أغراضهم بدون أن يكون غرضهم التأصيل العلمي الصحيح، بل بالتلبيس والتضليل, ومن تلك القضايا التي وظفوها قضية الجهاد و(الشهادة في سبيل الله).
*العمراني يخفي عن الشباب شرط من شرطي قبول العمل وهو المتابعة لأغراض حزبية:
أقام الإخوان والمقاتلة الدنيا ولم يقعدوها عندما شاع نبأ اغتيال العمراني متهمين بذلك السلفيين وهم ومنهجهم براء من سفك الدماء بهذه الطريقة، ومتناسين أن العمراني ذاته مارس هذه الطريقة بتوظيف نصوص شرعية تخدم هذه الجماعات الضالة بمزيد من سفك الدماء.
كتب نادر العمراني مقالا في موقعه الرسمي تحت عنوان, [حديث القتلى ثلاثة]جاء فيه:
(للشهيد بشارات عدة، بشَّره الله بها ورسوله ، ولست بصدد حصرها وتعدادها. وإنَّما مرادي أن أنبِّه على واحدة منها، يغفَل عنها الكثير من الناس، خاصَّة في أيامنا هذه. فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ لا دليل عليه.
فليس من شرط المجاهد ألاَّ يكون خطَّاء، وليس من شرط الشهيد أن يكون كاملاً، بل الشرط أن يكون مؤمناً بالله ورسوله ، مخلصاً لله في عمله وإقدامه. ومتى تحقق فيه هذان الشرطان، استحقَّ وعد الله له).
ترك العمراني الكلام في تأصيل المسائل الشرعية عند الشباب, فترك تعليمهم شرطا قبول العمل, فلنيل الشهادة عند العمراني شرطان هما: الإيمان بالله ورسوله، وإخلاص العمل لله. نعم، لا بد من وجود أصل الإيمان الذي هو الشهادتان لقبول الأعمال التي هي من مسمى الإيمان، وهو ما عبر عنه في أحد روايات حديث أركان الإسلام عن ابن عمر ب{إيمان بالله ورسوله}، وقد تقدم، قال ابن رجب رحمه الله في شرح حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل: {أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : " إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ " . قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ " قِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : " حَجٌّ مَبْرُورٌ }:
" وأما حديث أبي هريرة: فهو يدل على أن الإيمان بالله ورسوله عمل لأنه جعله أفضل الأعمال، والإيمان بالله ورسوله الظاهر أنه إنما يراد به الشهادتان مع التصديق بهما؛ ولهذا ورد في حديث: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله"، وفي رواية ذكر: "الإيمان بالله ورسوله" بدل "الشهادتين"؛ فدل على أن المراد بهما واحد؛ ولهذا عطف في حديث أبي هريرة على هذا الإيمان "الجهاد" ثم "الحج"، وهما مما يدخل في اسم الإيمان المطلق؛ لكن الإيمان بالله أخص من الإيمان المطلق، فالظاهر أنه إنما يراد بهما الشهادتان مع التصديق بهما".
فالشهادتان ركن لا يكون الإسلام إلا بهما، ثم تأتي بقية الشرائع والأعمال التي لا تصح إلا بشرطين ذكر العمراني أحدهما وأغفل الآخر, فالذي ذكره العمراني الإخلاص وهو مندرج في الشهادتين، والشرط الذي أغفله المتابعة بأن يكون العمل على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ذكر العمراني هذا الشرط لتبين العاقل الفارق بين الجهاد الذي هو مشروع لئلا تكون فتنة وهي الشرك والقتال الذي هو فتنة من أجل السلطة، ولافتضح أمر الإخوان والمقاتلة.
ترك شرط المتابعة مع أنه منصوص عليه في كتاب الله, جاء في مقال ماتع في موقع راية الإصلاح تحت عنوان: [إخلاص الدين لله وتجريد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم]: "الله عزّ وجلّ لم ينصّ على أنّه يتقبّل العمل الأكثر من حيث الكميّة، ولكنّه ينصّ دائما على أنّه يتقبّل العمل الأحسن، كما في قوله سبحانه: ﴿إِنّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿إِنَا لاَ نُضَيِّعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾، وقوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «أخلصه وأصوبه، فقيل: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنّ العمل إذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يُقْبل، وإذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنّة».
وقال سعيد بن جبير والحسن البصري رحمهما الله: «لا يُقبل قول إلاّ بعمل، ولا يُقبل عمل إلاّ بقول، ولا يُقبل قول وعمل إلاّ بنيّة، ولا يُقبل قول وعمل ونيّة إلاّ بنيّة موافقة السنّة». انظر شرح أصول الإعتقاد للالكائي (18)، (20).
وعن سفيان بن عبد الله الثقفيّ قال: «قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدا، قال: قل آمنت بالله ثمّ استقم» رواه مسلم.
وقد فسّر هذا بعض السّلف بالإخلاص والمتابعة، روى ابن بطّة في «الإبانة /الإيمان» (156) بسند صحيح عن سلام بن مسكين قال: كان قتادة إذا تلا: ﴿إِنَّ الّذين قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، قال: «إنّكم قد قلتم ربّنا الله، فاستقيموا على أمر الله، وطاعته، وسنّة نبيّكم، وأمضوا حيث تؤمرون، فالاستقامة أن تلبث على الإسلام، أن تلبث على الإسلام، والطريقة الصالحة، ثمّ لا تمرق منها، ولا تخالفها، ولا تشذّ عن السنّة، ولا تخرج عنها ...».
وفي هذا المعنى قال الله عزّ وجلّ: ﴿وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ من قَبْلَ أَنْ يأْتِيَكُمْ العَذابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِن رَبِّكُمْ ﴾، فأمرَ باتّباع أحسن ما أنزل، وهذا لا يتأتّى إلاّ لمن اقتفى أثر رسول الله في ذلك، وهذا بعد أن أمر الله عزّ وجلّ بالإسلام له في قوله: ﴿وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾، والإسلام إذا جاء متعدّيًا لزم حمله على الإخلاص", فلو نص العمراني على شرط المتابعة لافتضح بأن حربه حزبية, حيث لا أمام شرعيا، ولا راية واضحة، فكيف يسمى جهادا في سبيل الله لتحكيم شرع الله؟!
*استغلال الحزبيين لجهل الشباب بالدين وتعميقه فيهم:
ترك العمراني تعليم الشباب الشروط الشرعية للجهاد وما يجب أن يتوفر فيه، لأنه لو علمهم ذلك لتبين كثير من التناقضات التي في مواقف هذه الجماعات, فلا بد للقتال من إمام يقاتل تحت رايته، والإخوان والمقاتلة لم تعد لهم ولاية بنصوص المواد التي وافقوا عليها وبسطوا الفتاوى في إثبات شرعيتها وفيها تحديد نهاية جسم المؤتمر الوطني، وتعنتوا بعدها في التمسك بالسلطة بحجج واهية تتمثل في إجراءات شكلية في مكان استلام وتسليم، فإن علموا الشباب أن من شروط الجهاد القتال تحت راية واضحة مع إمام شرعي فستنهال عليهم الأسئلة, سسيسألون العمراني ويقولون له هو ومن معه: ما حكم القتال تحت راية من انتهت ولايته؟ وماذا يسمى من يقاتل بعد انتهاء ولايته في الشرع؟ وهل تثبت الولاية شرعا وتنفى من أجل إجراءات تتعلق باستلام وتسليم؟ وكيف تفتون أن من يقاتل تحت راية من انتهت ولايته يكون شهيدا في سبيل الله وفي نصوص الشرع أنه لا يحكم لأحد بالشهادة إلا من جزم له الشارع الحكيم بها وهو يقاتل تحت راية شرعية واضحة فكيف بإثبات الشهادة في سبيل الله لمن يقاتل تحت راية من انتهت ولايته وهو يعلم بفترة انتهاء ولايته ووافق عليها أولا؟ وهو لا يقاتل كفارا بل يقاتل إخوانه في الدين والوطن؟ والمشكلة التي لا يستطيع الإخوان والمقاتلة تبريرها أن الوسيلة التي أوصلتهم إلى تولي مقاليد الأمور وبذلوا الجهد في إثبات شرعيتها أولا وهي الانتخابات هي الوسيلة ذاتها التي سلبتهم هذا الحق فتعنتوا؟
*القيد الذي يؤكد أن العمراني أراد توظيف النصوص لغرض حزبي:
ترك العمراني تبصير الشباب بشروط الجهاد مركزا على حقيقة واحدة يريدها، هي التي يغفل عنها الناس خاصة في أيامنا هذه كما يقول العمراني، ولعلك أيها القارئ الكريم تركز على هذا القيد [في أيامنا هذه]، وتربط بينه وبين ما يحدث فيها من أحداث جارية في بلادنا ليتبين لك الأمر، وهذا إن دل فإنما يدل على توظيف للنص أراده العمراني لا من باب تأصيل الشباب تأصيلا صحيحا.
ها هو ذا نادر العمراني لما أراد توظيف النصوص لأغراض حزبية يخفي كثيرا من الأمور عن الجهاد والشهادة فلا يبدي إلا ما أراده, فيظن القارئ أول وهلة حين يطالع قول العمراني: (فإنهم لمَّا علموا فضل الشهيد وما وُعِدَ به، ظنُّوا أنَّ هذه المنْزلة لا يدركها إلاَّ الأتقياء الكُمَّل الخلص، الذين لازموا التقوى، وداوموا على الطاعة.
وهذا مفهوم خاطئ)، أنه سيبصر الشباب بما ينبغي أن يتوفر في الجهاد الشرعي الذي تترتب عليه الشهادة لمن يقتل في سبيل الله،, ، لكنه لما ساق الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان وحسن إسناده المنذري والألباني رحمة الله على الجميع أراد استجلاب القوة المعطلة من الشباب عن الحرب، وذلك الحديث هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: { القَتْلى ثَلاثةٌ:
رَجَلٌ مُؤمنٌ جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يُقتلَ، فذلك الشهيد المُمْتَحَن في خَيمة الله تحت عرشه. ولا يَفْضُلُه النبيون إلاَّ بفضل درجة النبوة ورجل مؤمن قَرَفَ على نفسه من الذنوب والخطايا، جَاهَد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فتلك مَصْمَصَةٌ مَحَتْ ذنوبَه وخطاياه. إنَّ السَّيفَ محَّاءٌ للخطايا، وأُدخِل من أي أبواب الجنة شاء؛ فإنَّ لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب، وبعضها أفضل من بعض.
ورجلٌ منافق، جاهد بنفسه وماله حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يُقتل، فذلك في النار. إنَّ السيف لا يمحو النفاقَ}
وها هو يوظف الحديث توظيفا حزبيا, فأثبت أن المجاهدين والشهداء على منزلتين, منزلة كاملي الإيمان, وهم من يقاتلون في حزبه وشربوا أفكار الإخوان والمقاتلة القائم على الطاعة العمياء لمشايخهم بدون تفهم الأدلة فكل ما يقوله مشايخهم حق لا يقبل المناقشة، فجعل هؤلاء الخارجين بالسيف في وجه إمامهم كاملي الإيمان، وأهل هذه المنزلة كثير منهم منتظم في الحرب، والمنزلة الثانية المجاهدون والشهداء أصحاب المعاصي الذين لم ينخرطوا في حزبهم وتأثروا بهم أو الذين انشغلوا بالدنيا وهم بعيد عن هذه التجاذبات السياسية والقتالية، وهؤلاء يهدف العمراني لانخراطهم مع حزبه لأن هذه الحرب التي يخوضها الإخوان طال نفسها وأتت على كثير من الأغرار الأغمار من شبابهم، فيطمح العمراني ومن لف لفه إلى انخراط هؤلاء الشباب في معركتهم الحزبية من أجل السلطة موظفا هذا الحديث في وعدهم أن ينالوا الشهادة على ما عندهم من معاصي, بدون أن يذكرهم بالتوبة، وبدون أن يبصرهم بشرط المتابعة لرسول الله فيفضح حزبه. فأنت يا من ابتليت بالزنا وشرب الخمر وغير ذلك ما هو إلا أن تقاتل معنا في أيامنا هذه لتنال الشهادة، لا فرق في هذا بينمعصية ومعصية. هذا ما يحتمله الإجمال في كلام العمراني.
وقد نص أهل العلم أن الشهيد يغفر له كل ذنب في حق الله لا في حقوق الآدميين, روى مسلم (1886) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ ) .
وروى مسلم (114) عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : فُلَانٌ شَهِيدٌ فُلَانٌ شَهِيدٌ ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلَانٌ شَهِيدٌ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( كَلَّا ، إِنِّي رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ فِي بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ ) ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَا ابْنَ الْخَطَّابِ ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النَّاسِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ ) قَالَ : فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ : أَلَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا الْمُؤْمِنُونَ " .
وهذا دأب هؤلاء المشايخ, يوردون النصوص على ما يريدون بدون ذكر مقيداته أو مبيناته،, أو تفسيراته على فهم السلف الصالح، لأن غرضهم التوظيف للأغراض الحزبية لا التأصيل العلمي الصحيح. والله تعالى أعلم.
ملحوظة:
مقال العمراني من هنا:
http://naderomrani.ly/article/323#sdfootnote2sym

السبت، 4 أغسطس 2018

الإبانة في نقض الإبانة عن غلط المستغل لحديث البطانة:

الإبانة في نقض الإبانة عن غلط المستغل لحديث البطانة:
نشر أحد كتاب المواقع السلفية إبانة جديدة، وما أكثر الإبانات في هذه الأيام، إبانات تحاكي إبانة ابن بطة رحمه الله وغيره من أهل العلم، لكن، في العنوان، وهي مع هذا إبانات فيها من المشكلات ما فيها، ومنها هذا المقال الذي هو بعنوان, (الإبانةة عن غلط المستغل لحديث البطانة)، وفرع عليه كاتب آخر مقالا آخر سماه, (المصعفقة مطية الروافض)، وهما مقالان أكثر فيهما صاحباهما من النقولات، وحاولا أن يشبكا خيوط المقالين، وقد استمد المقال الأول قوته من تغريدة نشرت للد. عرفات المحمدي وفقه الله بتاريخ ٢٤ مايو ٢٠١٨، ٥:٥٣ ص – قال فيها:
(مقال جيد نافع لأحد طلاب العلم
فيه وقفات طيبة ونقولات نافعة بإذن الله)، وهذا رابط التغريدةhttps://twitter.com/Arafatbinhassan/status/999634559670083584
وهذا رابط المقال الذي أثنى عليه د. عرفات وفقه الله:
https://t.co/dq2voPNBfo
وقد بدأ صاحب المقالة الأولى مقالته بوقفة طيبة بلا ريب في سياق تبيين منهجه وخطته في مقاله فبين لنا أمرين يكثر فيهما الخلل فقال:
(ينبغي " أن يُفهَم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مرادُه من غير غلو ولا تقصير، فلا يُحمَّلَ كلامُه ما لا يحتمله، ولا يُقَصَّرَ به عن مراده وما قصَدَه من الهدى والبيان وقد حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله، بل سوءُ الفهم عن الله ورسوله أصلُ كلِّ بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، لا سيَّما إن أضيف إليه سوءُ القصد، فيتفق سوءُ الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حُسْن قَصْده، وسوءُ القصد من التابع، فيا محنةَ الدين وأهلهِ ! والله المستعان " كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الروح (184)).

وهو استهلال طيب ونقل نافع، لكن المحنة ليست في معرفته ونقله، بل في كيفية تطبيقه، ولا شك ما نقله صاحب المقال إلا ليوفي به، فهل وفق لذلك؟ هل نجح في عدم تحميل كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحتمل؟ وهل نجح في تجاوز التقصير به عن مراده؟
لك أن تقرأ المقال أو تقرأ هذه الأسطر وتنظر أيها القارئ المنصف، فأول ما يلزم من أراد بيان غلط المستغل أن يفهم كلام خصمه على مراد خصمه، ولا يحمله ما لا يحتمل، ثم يورد لك أدلته التي استدل بها خصمه، ووجه استدلال الخصم بها، ثم يبين لك صحة الدليل ومدى مخالفة فهم الخصم للدليل، ثم يبين لك القول الصحيح بدليله، ويوقفك على كلام أهل العلم في المسألة.
وأنت تفهم أيها القارئ المنصف من العنوان أن هناك نص استغله مستغل، ففسره على ما يوافق هواه، وعنوان المكتوب دعوى، وبيناته فحوى أسطره، وأول ما تحتاج إلى معرفته كلام ذلك المستغل بنصه وحروفه, لتلزمه الحجة به، وكذلك النص الذي صرفه عن معناه الأصلي إلى معنى يوافق هواه، ولست بعيد عهد أيها القارئ المنصف بأن هذا المقال جيد نافع فيه نقولات نافعة ووقفات طيبة.
أولا--- بيانه للقضية:
وها هو صاحب المقال يشرع في المراد حيث قال:
(وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه ) [ السلسلة الصحيحة 1802]
فيتبع الرجل هواه ويبذل جهده في لي أعناق نصوص يحسب أنها توافق هواه وتنصر ما أراده واشتهاه، ومن ذلك ما تناقله كثير من الناس في هذه الأيام من فهم مغلوط لحديث جليل، مع لزوم هذا الفهم الخاطئ والتنزيل العجيب من الطعن بأئمة أعلام رسخت أقدامهم في السنة وعظمت منزلتهم في الذب عن الدين والجهاد في سبيله، وذلك بالطعن في خواصهم وإطلاق اللسان في وصفهم بأنهم أهل شرّ وباطل وخسة ! ونحو ذلك من التهم الباطلة العرية عن الدليل المعتبر البعيدة عن صحيح النظر.
بل قالوا إن لهذه البطانة الشريرة – بزعمهم – تأثيراً على أهل العلم، وكأن هذه البطانة تزين لهذا العالم – المشهود بعلميته ! المعروف بتحريه ودقته !! المشهور بإنصافه وإصابته – ما تريد لتخرج منه بما تريد، تلقنه هذه البطانة وتستغفله وتستغل كلامه .
فأسقطوا بهذا التأصيل أهل العلم ولزم منه وصف هؤلاء العلماء بالغفلة والتلقين والضعف، وأسقطوا بذلك أحكامهم ! جرحاً وتعديلاً وشككوا بكل ما يصدر منهم مما ينقله الثقات، على اعتبار أن بطانة الشيخ مجرمة في النقل للشيخ والنقل عنه !).
فالقضية التي يريد أن يعالجها ما تناقله كثير من الناس في هذه الأيام من فهم مغلوط لحديث جليل، مع لزوم هذا الفهم الخاطئ والتنزيل العجيب من الطعن بأئمة أعلام، ..... وذلك بالطعن في خواصهم وإطلاق اللسان في وصفهم بأنهم أهل شرّ وباطل وخسة ! ونحو ذلك من التهم الباطلة العرية عن الدليل المعتبر البعيدة عن صحيح النظر.

فهم مغلوط،يلزم منه الطعن في أئمة أعلام، من خلال الطعن في خاصتهم بتهم باطلة، عارية عن الدليل المعتبر، وهي تهم بعيدة عن صحيح النظر.
وهي إطلاقات لا تكون إلا ممن خبر القضية كلها, فعرف كلام كل طرف، ونظر في أدلة الفريقين، فهل يا ترى وصل كاتب المقال إلى هذه الرتبة؟، أم إنها مجرد دعاوى وإطلاقات؟ أم هو تقليد مجرد؟ والكاتب تصدى للردود، ومعنى ذلك أن له حظ من النظر، فلا ينفعه التقليد المجرد. وعموما لو اكتفى بأن قال: حكم العلماء بكذا وكذا لكان أولى، حتى لا يقع في إشكالات مع إطلاقاته هذه، ولو حصر الأمر في الفهم المغلوط وبيان ما يلزم منه من لوازم باطلة لكان أليق بمقصود المقال، لكنه عني ببيان موقفه من الإشكال الحاصل الذي قضيته في مقاله هذا جزء منهبهذه الإطلاقات، وكأنه حسم الموقف ممليا على القارئ وإن كان له حظ من النظر أن الحق في مقاله هذا فاقرأ وسلم. وتأمل أيها القارئ أنه إلى الآن لم يخبرك بالفهم المغلوط الذي يريد أن يفنده.
ويستمر في بيان دعوى المردود عليهم بمقاله هذا فيذكر تماديهم بأن زعموا أن بطانة الشيخ المذمومة تؤثر عليه بما تريد لتخرج منه بما تريد، تلقنه هذه البطانة وتستغفله وتستغل كلامه
فهو يستعمل لفظ الزعم منكرا إمكان لتأثير البطانة السيئة على العلماء، وهي دعواه التي ينبغي أن يأتي عليها بالبرهان، فهل سيوفق في ذلك؟
يسوق هذا الكلام عليهم سياق إنكار، فالعالم الذي وصفت بطانته بهذه الأوصاف مشتهر بعلمه وأمانته ودقته وصوابه في أحكامه، ونتيجة الطعن في هذه البطانة إسقاط العالم، ولزم من كلام المردود عليه في مقاله عند صاحب المقال وصف هذا العالم بالغفلة والتلقين والضعف،
وهذا خلاصة الإشكال عنده, مفهوم مغلوط فرّع عليه لوازم ولوازم، فالطعن في بطانة العالم يفضي إلى الطعن في العالم ولزم من ذلك عنده إسقاط العالم بوصفه أنه يلقن، وبوصفه بالضعف، والغفلة، وإسقاط العالم الموصوف بالغفلة والضعف والتلقين إسقاط لأحكامه جرحا وتعديلا.
سلسلة من الإلزامات من صاحب المقال للمردود عليه، نتيجتها اتهام صاحب المقال للمردود عليه بسوء الفهم وسوء القصد، فهو إشكال موهوم متخيل في ذهن صاحب المقال الجيد النافع، وها هو يريد أن يرد على هذا الإشكال الموهوم المتخيل ملصقا إياه بالمردود عليه، وهذه هي البداية، إشكال ليس له وجود إلا في ذهن صاحب المقال جعلها تهمة تلصق بالمردود عليهم بمقاله، فبطل منهج صاحب المقال من أوله، لأنه أساء فهم كلام خصمه فكيف يرد على كلامم ليس لخصمه أصلا؟!


وأول ما يسأل عنه صاحب المقال: هل أنت تتكلم لغة أهل الاصطلاح أم لا؟ فإن كنت تتكلم باصطلاحات أهل العلم، فما تقصد بالتلقين؟ وهل وصف الراوي أو الحافظ أو العالم عند أهل الأثر بالضعف والغفلة والتلقين من المسقطات, بحيث إذا طرأت عليه لا يقبل منه علم هكذا بإطلاق؟ وما الفرق بين التلقين والوشاية؟

ثم أورد صاحب المقال الحديث الذي استغله المردود عليه وأراد أن يفهمه للناس فهما مغلوطا، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: { مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ}،
وما الفهم المغلوط للحديث يا صاحب المقال؟
قال صاحب المقال:
(بل قالوا إن لهذه البطانة الشريرة – بزعمهم – تأثيراً على أهل العلم، وكأن هذه البطانة تزين لهذا العالم – المشهود بعلميته ! المعروف بتحريه ودقته !! المشهور بإنصافه وإصابته – ما تريد لتخرج منه بما تريد، تلقنه هذه البطانة وتستغفله وتستغل كلامه .
فأسقطوا بهذا التأصيل أهل العلم ولزم منه وصف هؤلاء العلماء بالغفلة والتلقين والضعف، وأسقطوا بذلك أحكامهم ! جرحاً وتعديلاً وشككوا بكل ما يصدر منهم مما ينقله الثقات، على اعتبار أن بطانة الشيخ مجرمة في النقل للشيخ والنقل عنه !
فقال لهم أهل الحق ذباً عن علماء الحق بحق : في قولكم هذا طعن واضح في أهل العلم ! واستنقاص لهم واستصغار لشأنهم ! وسوء أدب معهم.
فقال أهل الظلم : كيف تقولون لنا ذلك وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ، وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلَّا كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى » [صحيح البخاري – 7198]
بل قال بعضهم من جهله وعماه ولبئس ما ادعاه : إذا جاز هذا في حق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكيف بمن هم دونهم، أم أن عالمكم فوق منزلة النبي ؟ أم له العصمة ؟
وهذا كله من جهل القائل وسوء فهمه وضحالة فكرة وقلة تدبره ، بل كثير منهم تلمس لديه هذا الفهم المعوج وإن لم يصرح لك به ؛ إلا أنك تشم رائحته في طريقته وفي لحن كلامه مما يشعر بوجوده في مكنونات صدره .
فالقالة هذه هي محل البحث والنظر، واستدلالهم على الوجه المذكور هو المقصد من هذه الكتابة).

وأخيرا, هذا هو المفهوم المغلوط، فالمردود عليه في مقاله يقول بإمكان تأثير البطانة السيئة في العالم، فلما قال له أهل الحق كما قال صاحب المقال إن هذا طعن في العالم استدل المردود عليه بالحديث،
ما وجه استدلال المردود عليه؟
لم يذكر لنا صاحب المقال، ، وإنما أردف ذكر الحديث بحرف الإضراب بل، ومفهوم كلامه أن المردود عليه يستدل على إمكان تأثير البطانة السيئة في العالم بهذا الحديث، بل من المردود عليهم من يقول إذا جاز هذا في حق الأنبياء فكيف بمن هو دونهم؟!

واسم الإشارة هذا يرجع إلى أقرب مذكور وهو إمكان وقوع تأثير البطانة السيئة ولكن، في حكايته هو لكلام خصمه لا في نص كلامهم، ولو أورد نص كلام الخصم عازيا له إلى مصدره لاستراح من كتابة هذا المقال أصلا، فلماذا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بطانة السوء إن لم يكن لها تأثير؟، ولماذا جاء ذكر العصمة بعد ذكر بطانة السوء؟، لمذا غيب الكاتب هذه الجزئية؟، لو تأمل كاتب المقال هذه الجزئية لأراح واستراح، وعلى الأقل لأراح القارئ المنصف من مسألة كاملة فرعها في تقرير حماية جناب الأنبياء من تأثير البطانة لأن عامة المردود عليهم يقرون به ولا ينكرونه، بل هم يقولو بإمكان تأثير بطانة السوء في من هم دون الأنبياء بشهادة الكاتب نفسه, فقال: بل قال بعضهم، فكيف يحكم على عامة خصومه بقول بعضهم ثم لا يسمي هذا القائل؟! بل لا يذكر لك نص كلامه؟! وهذه دعوى بلا برهان، فعليه أن يسمي القائل بإمكان تأثير بطانة السوء على الأنبياء ويذكر لنا نص كلامه لنعرفه ونحذره.
وهذه شهادة أخرى من الكاتب على نفسه بأن عامة المردود عليهم لا يقولون بتأثير البطانة السيئة على الأنبياء لعصمة الله لهم، فيقول:
(ثم بعد هذا التأصيل البيّن الواضح المقرر يأتينا من ينقض غزله ! ويهدم بنيانه ويخالف ما كان يقوله من حق! ويقول : ( من هو مثل النبي صلى الله عليه وسلم معصوم ، حتى يكون أصحابه إذا طعن فيهم كان طعناً فيه ) ، ونسي أنه القائل في يوم من الأيام : ( أرادوا الطعن في أحمد بتلاميذه، وهذا الذي نسمع اليوم: [الشيخ فلان يأتيه البلاء من الذي حوله]، هذا تسفيه لهذا العالم، يعني وصل إلى درجة من الجهل والغباء أن ينطلي عليه الكلام؟
كيف صار الآن مصدراً للجرح والتعديل، وهو يضحك عليه طلابه؟ )
فكان ماذا ؟! وما الذي تغير ؟! وأين الدليل على دعوى تخصيص هذا الأمر بالنبي صلى الله عليه وسلم).
فها هو يسوي بين أصحاب أحمد رحمة الله على الجميع، وبين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من حيث أن الطعن في بطانةة البطانة طعن في صاحب البطانة.

بل انظر إليه كيف يدعي على خصمه في المسألة التي فرعها في تقرير حماية جناب النبوة من تأثير البطانة السيئة فقال:
(يصوّر المتعصب القائل بالبهتان بدون حجة أو برهان، أن أثر الشر من بطانة الشر حتم لازم، فحتى الأنبياء لهم بطانة تفعل فعلها ! فلا يستغرب من وجود مثلها عند من هم دونهم!)
فمن يا ترى ممن يعتد بقولهم قرر أنه حتم لازم حتى في جناب الأنبياء؟! ومن يا ترى الذي أساء الفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم؟!
والحاصل أن تأثير البطانة ممتنع عنده على العلماء الربانيين, لأن القول بتأثيرها عليهم يقدح فيهم ويسبب في إسقاط أحكامهم، إضافة إلى أن القول بتأثيرها يلزم منه نسبة هذا العالم إلى أي البطانتين تغلب عليه، والمردود عليه نسب هذا إلى علماء ربانيين بأن بطانة السوء تستغله، فمعنى ذلك لمز هذا العالم بأنه سيئ لاستيلاء بطانة السوء عليه! وهذا إنما وقع فيه بسبب تعميم الأحكام, فمن قال إن بطانة فلان كلهم سيئين؟ ومن ذا يحصر بطانة عالم قضى عمره في خدمة السنة في أشخاص معدودين؟!
ومن هنا انخرمت جودة هذا المقال ببنائه على مقدمات غير صائبة, هي حكاية الخصم لقول خصمه بتصرفه هو، فقوله ما لم يقل، وألزمه ما لا يلزمه شاء أم أبى كما صرح في بعض عباراته، وفرع على هذا وفرع، فلا صح عندك أيها المنصف المفهوم المغلوط عند الخصم وبالتالي كل ما سيبنى عليه فهو باطل واه، وتبقى مسألة صحة القاعدة, طعنك في بطانة العالم طعن فيه.
وبإيجاز هذا المقال والمقال الذي فرع عليه عليهما ملحوظات منها:
--النصوص المقتبسة في بعض منها اجتزاء لما أراد الكاتبان توظيفه لتأدية فكرتهما بدون تمام الفكرة التي أرادها العالم المنقول منه.
--الأدلة والنقولات التي استدلا بها لا تخدم ما أرادا تقريره.
--غياب تحرير موطن النزاع عن الكاتبين جعلتههما يقولان من أرادا الرد عليهم ما لم يقولوه، واتهامهم بما هم منه براء.
ولعل النية كانت الذب عن أهل العلم الكبار ، لكن, سمو الغرض لا يحسن معه الخلل في الطريق التي يراد التوصل به إليها ولو حسنت نية الكاتب،
ثانيا-- ما على المقالين من ملحوظات:
وهاك تفصيل ما تقدم من ملحوظات.
ا—عدم تحرير موطن النزاع:
إن مما ظهر مؤخرا على الساحة القول بأن جرحك لطلاب العالم طعن فيه، والطعن في بطانة العالم طعن فيه، فالبطانة خاصة العالم ودخلاءه وأصحاب سره، فأنت حين تقول ذلك فإنه يكون وسيلة للطعن في العالم، وهذا عين قول الروافض لأنهم توصلوا للطعن في النبي صلى الله عليه وسلم من خلال الطعن في أصحابه الكرام, فهم لم يستطيعوا الطعن فيه صلوات ربي وسلامه عليه مباشرة، فقالوا له أصحاب سوء، ولهذا الطعن في بطانةة العالم طعن فيه، والقول بغير هذا قول مشابه لقول الروافض، ويفتح الباب لأهل الأهواء للطعن في أئمة السنة من خلال الطعن في بطانتهم،فكان الإلزام لمن جرح بعض بطانة العالم أنه من جنس أفعال الروافض, لأنه عين صنيعهم مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال الطرف الآخر: بل ليس هذا مسلما لكم، وذلك بالنص، وبكلام العلماء خلفا عن سلف، وهو فعلهم أيضا. فأما النص فحديث البطانة الذي رواه البخاري وغيره وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: { «ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه، والمعصوم من عصمه الله».
فأما الأنبياء فمعصومون من تلك البطانة السييئة، فمن يثبت لغيرهم العصمة.
قالوا: وهناك شواهد من قصص للسلف في هذا، ومنها ما رواه الذهبي رحمه الله في السير في ترجمة الإمام ابن خزيمة فقال:
قال الحاكم : حدثني أبو بكر محمد بن حمدون وجماعة من مشايخنا -إلا أن ابن حمدون كان من أعرفهم بهذه الواقعة- ، قال : لما بلغ أبو بكر بن خزيمة من السن والرئاسة والتفرد بهما ما بلغ ، كان له أصحاب صاروا في حياته أنجم الدنيا ، مثل أبي علي محمد بن عبد الوهاب الثقفي ، وهو أول من حمل علوم الشافعي ودقائق ابن سريج إلى خراسان ، ومثل أبي بكر أحمد بن إسحاق -يعني الصبغي - خليفة ابن خزيمة في الفتوى ، وأحسن الجماعة تصنيفا ، وأحسنهم سياسة في مجالس السلاطين ، وأبي بكر بن أبي عثمان ، وهو آدبهم ، وأكثرهم جمعا للعلوم ، وأكثرهم رحلة ، وشيخ المطوعة والمجاهدين ، وأبي محمد يحيى بن منصور ، وكان من أكابر البيوتات ، وأعرفهم بمذهب ابن خزيمة وأصلحهم للقضاء .
قال : فلما ورد منصور بن يحيى الطوسي نيسابور ، وكان يكثر الاختلاف إلى ابن خزيمة للسماع منه ، وهو معتزلي ، وعاين ما عاين من الأربعة الذين سميناهم حسدهم ، واجتمع مع أبي عبد الرحمن الواعظ القدري بباب معمر في أمورهم غير مرة فقالا : هذا إمام لا يسرع في الكلام ، وينهى أصحابه عن التنازع في الكلام وتعليمه ، وقد نبغ له أصحاب يخالفونه وهو لا يدري ، فإنهم على مذهب الكلابية فاستحكم طمعهما في إيقاع الوحشة بين هؤلاء الأئمة . ا.ه رحمه الله.

فهذا ابن خزيمةة رحمه الله على جلالته في العلم دخل في بطانته من كان من الكلابية.

وقال الذهبي أيضا:
فحدثني أبو بكر أحمد بن يحيى المتكلم قال : لما انصرفنا من الضيافة اجتمعنا عند بعض أهل العلم ، وجرى ذكر كلام الله : أقديم هو لم يزل ، أو نثبت عند إخباره تعالى أنه متكلم به ؟ فوقع بيننا في ذلك خوض ، قال جماعة منا : كلام البارئ قديم لم يزل .
وقال جماعة : كلامه قديم غير أنه لا يثبت إلا بإخباره وبكلامه . فبكرت إلى أبي علي الثقفي ، وأخبرته بما جرى ، فقال : من أنكر أنه لم يزل فقد اعتقد أنه محدث . وانتشرت هذه المسألة في البلد ، وذهب منصور الطوسي في جماعة إلى ابن خزيمة ، وأخبروه بذلك حتى قال منصور : ألم أقل للشيخ : إن هؤلاء يعتقدون مذهب الكلابية ؟ وهذا مذهبهم . قال : فجمع ابن خزيمة أصحابه ، وقال : ألم أنهكم غير مرة عن الخوض في الكلام ؟ ولم يزدهم على هذا ذلك اليوم. ا.ه رحمه الله

فانظر إلى صنيع من دخل في بطانة ابن خزيمة رحمه الله رمى ببدعته خصومه الذين هم من أهل السنة الخلص.

ثم قال الذهبي رحمه الله:
قال الحاكم : وحدثني عبد الله بن إسحاق الأنماطي المتكلم قال : لم يزل الطوسي بأبي بكر بن خزيمة حتى جرأه على أصحابه ، وكان أبو بكر بن إسحاقوأبو بكر بن أبي عثمان يردان على أبي بكر ما يمليه ، ويحضران مجلس أبي علي الثقفي ، فيقرءون ذلك على الملأ ، حتى استحكمت الوحشة . ا.ه رحمه الله.

فانظر ماذا صنع من كان من بطانة السوء مذا صنع؟ اتهم غيره من جلساء الشيخ ببدعته التي هو متلبس بها ويخفيها عن الشيخ.

بل بلغ من تأثير البطانة أن ابن خزيمة رحمه الله وصف تلاميذهالأئمة الثقات بأنهم كذبة وكلابية، فقال الذهبي أيضا:
سمعت أبا سعد عبد الرحمن بن أحمد المقرئ ، سمعت ابن خزيمة يقول : القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله غير مخلوق ، ومن قال : شيء منه مخلوق . أو يقول : إن القرآن محدث ، فهو جهمي ، ومن نظر في كتبي ، بان له أن الكلابية -لعنهم الله- كذبة فيما يحكون عني بما هو خلاف أصلي وديانتي ، قد عرف أهل الشرق والغرب أنه لم يصنف أحد في التوحيد والقدر وأصول العلم مثل تصنيفي ، وقد صح عندي أن هؤلاء -الثقفي ، والصبغي ، ويحيى بن منصور - كذبة ، قد كذبوا علي في حياتي ، فمحرم على كل مقتبس علم أن يقبل منهم شيئا يحكونه عني ، وابن أبي عثمان أكذبهم عندي ، وأقولهم علي ما لم أقله . ا.ه رحمه الله.

فرد الذهبي رحمه الله قائلا:
قلت : ما هؤلاء بكذبة ; بل أئمة أثبات ، وإنما الشيخ تكلم على حسب ما نقل له عنهم . فقبح الله من ينقل البهتان ، ومن يمشي بالنميمة . ا.ه رحمه الله.

بل حتى بعد الصلح قد تسعى بطانة السوء في فساد الحال بين العالم وبين من من كان من أصفيائه، وهذا تمام النقل من السير، قال الذهبي رحمه الله:
قال الحاكم : سمعت أبا بكر أحمد بن إسحاق يقول : لما وقع من أمرنا ما وقع ، وجد أبو عبد الرحمن ومنصور الطوسي الفرصة في تقرير مذهبهم ، واغتنم أبو القاسم ، وأبو بكر بن علي ، والبردعي السعي في فساد الحال ، انتصب أبو عمرو الحيري للتوسط فيما بين الجماعة ، وقرر لأبي بكر بن خزيمة اعترافنا له بالتقدم ، وبين له غرض المخالفين في فساد الحال ، إلى أن وافقه على أن نجتمع عنده ، فدخلت أنا ، وأبو علي ، وأبو بكر بن أبي عثمان ، فقال له أبو علي الثقفي : ما الذي أنكرت أيها الأستاذ من مذاهبنا حتى نرجع عنه ؟ قال : ميلكم إلى مذهب الكلابية ، فقد كان أحمد بن حنبلمن أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره . حتى طال الخطاب بينه وبين أبي علي في هذا الباب ، فقلت : قد جمعت أنا أصول مذاهبنا في طبق ، فأخرجت إليه الطبق ، فأخذه وما زال يتأمله وينظر فيه ، ثم قال : لست أرى هاهنا شيئا لا أقول به . فسألته أن يكتب عليه خطه أن ذلك مذهبه ، فكتب آخر تلك الأحرف ، فقلت لأبي عمرو الحيري : احتفظ أنت بهذا الخط حتى ينقطع الكلام ، ولا يتهم واحد منا بالزيادة فيه . ثم تفرقنا ، فما كان بأسرع من أن قصده أبو فلان وفلان وقالا : إن الأستاذ لم يتأمل ما كتب في ذلك الخط ، وقد غدروا بك وغيروا صورة الحال .
فقبل منهم ، فبعث إلى أبي عمرو الحيري لاسترجاع خطه منه ، فامتنع عليه أبو عمرو ، ولم يرده حتى مات ابن خزيمة ، وقد أوصيت أن يدفن معي ، فأحاجه بين يدي الله -تعالى- فيه. ا.ه رحمه الله.

فانظر كيف تسربت الشحناء بين العالم السني السلفي وبين تلامذته حتى وصل الأمر إلى المحاجة بين يدي الله، ومات العالم السني رحمه الله وهو يثق في تلك البطانة.
لا يقال, واقعة عين قل نظيرها، بل لعله لو تتبعت السير لوجد غيرها، والله أعلم، وقد كنت أستفدتها من مقال قرأته لأخ سلفي، وها هي مسوقة لك بأكثرها أيها القارئ من السير، ويكفي أنها شاهد واقعي للحديث النبوي.
ومن كلام المعاصرين ما هو مشتهر عن عالمين كبيرين من أهل السنة, الشيخ محمد أمان الجامي رحمه الله، والشيخ عبيد الجابري حفظه الله.
قال الشيخ الجامي رحمه الله:
قال الشيخ رحمه الله في مقدمة شرحه على قرة عيون الموحدين:
امْتُحِنَ - كما يعلم الجميع- الإمَامُ أَحْمَدُ -رحمه الله- عندما تأثّر الخليفةُ السابعُ من خلفاءِ بني العبّاس ، وهو منْ أعْقلِ الخلفاءِ وأنْبَلِهِمْ كما قال المُؤرّخونَ ولكن مع ذلكَ أثّرت فيهِ بِطَانَةُ السُوءِ، وهذه نقطةٌ مهمةٌ ينْبَغِي أنْ يَنْتَبِهَ لَهَا العَاقِلُ؛ الإنسانُ مهما يكُون عَالماً وعَاقلاً ولبيباً البطانةُ تؤثِّر فِيهِ لأنّه يثقُ في البِطَانَةِ ، يجعَلُ فيهم الثّقة، فتؤثّر؛ كانت بِطَانَتُهُ المُعْتَزِلَةُ - أتباع وَاصِل بنِ عَطَاءمازالوا بِهِ يُوَسْوِسُونَ إليهِ إلى أنْ أقْنَعُوهُ بالقوْلِ بخلْقِ القُرآنِ وبنَفْي صِفاتِ اللهِ تَعَالى، بدَعْوى أنَّ إثْباتَ الصفاتِ - إذا أثْبتْنَا للهِ صفاتٍ كثيرةٍ أثْبتنَا قُدماءَ - قالُوا نحنُ لا نُؤْمنُ إلّا بقديمٍ وَاحدٍ وهُو اللهُ، وأوْهَمُوهُ بأنَّ إثباتَ الصفاتِ يؤدّي إلى إثْباتِ قدماءَ مع اللهِ. قديمٌ مع الله، القدْرةُ قديمةٌ والإرادةُ قديمةٌ والعلْمُ قديمٌ والسمْعُ قديمٌ ... كمْ قديم؟ بلا حساب. تأثّرَ الرجلُ وزيّنُوا لهُ أكثرَ فأكثرَ، قالوا لهُ لوْ قلتَ هذه الصفات ليْست قديمةً حادثةٌ جعلتَ اللهَ محلاًّ للحوادثِ ووقعتَ في ورْطةٍ؛ إذا ما السلامةُ وما التنْزيهُ؟ أنْ تنفيَ هذه الصفاتِ كلُّها، نؤْمنُ بقديمٍ لا يتّصفُ بأية صفة. ا.ه رحمه الله.

وفي هذا الصدد تصب فتوى الشيخ عبيد حفظه الله، أن العالم يطرأ عليه ما يطرأ على البشر, ينسى، يذهل.

فقال أصحاب طعنك في بطانة العالم طعن فيه:
إن الطعن في خاصة الرجل اتهام له بأنه اتخذ أصحاب سوء، وإذا قيلت هذه الكلمة في عالم رباني فهي تهمة له بأمور منها: الخرف، عدم تقدير الأمور، سقوط أهليته، أنه لا يعرف أصحابه، وهذا إن لم تقولوه صراحة فما يدرينا أنه مستخف في السطور، ومستور في الصدور؟ وهذا يقوله عامة أهل الأهواء في أئمة السنة اليوم.

قال المنازعون لهم: فرعتم على كلامنا لوازم، وأخذتمونا بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم معصوم والصحابة رضوان الله عليهم عدول، والفرق واضح بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم، وبين من هو دونهم.


فأنت ترى أيها القارئ المنصف إصرار من يرى بهذه القاعدة على تعميم الحكم باستصحاب العلة في الموقفين، موقف النبي صلى الله عليه وسلم، وموقف البطانة مع من هم دون النبي صلى الله عليه وسلم, لكي تطرد القاعدة، فالمؤتسي بالأسوة يسير على نهجه، والعلماء ورثة الأنبياء، يستنون بسنتهم، ويهتدون بهديهم، فما دام اتهام أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالسوء طعن في النبي صلى الله عليه وسلم بأنه اتخذ أصحاب سوء، فكذلك الطعن في بطانة العلماء الربانيين طعن فيهم بأنهم اتخذوا أصحاب سوء، وكيف يقع النبي صلى الله عليه وسلم فيما نهاه الله عنه من اتخاذ البطانة السيئة، فهذا القول فيه بهتان عظيم على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك قولكم في العالم السني السلفي كيف يتخذ لنفسه بطانة سيئة؟
وهذا الكلام لا يصدر إلا عمن لم يفهم الفرق بين وجود البطانة السيئة بالقرب من العالم وبين الاتخاذ للبطانة السيئة، وفي هذا جلاء الإشكال، وبيانه في ذكر أدلة أصحاب هذه القاعدة.
فهو قياس مع الفارق.


ب-- عدم صحة المقدمات يؤدي إلى بطلان النتاءج: وتفرع عن عدم التفريق بطلان القاعدة, فإن اتخاذ أصحاب سوء تدل عليه قرائن الحال للناظر، ولذا يثرب على صاحبه، أما وجود البطانة السيئة مع حرص أصحابها على خفاء الحال فهذا الذي لا يذم صاحبه حين يخفى عليه الحال، وقد أثنى الذهبي وغيره من الأئمة على ابن خزيمة رحمة الله عليهم جميعا مع وقوع القصة المتقدمة معه لخفاء حال بطانة السوء عليه رحمه الله.

ج-- الأخذ بلازم الكلام غير الملزم:
قال صاحب المقال في أواخر مقاله:
(فانظر إلى سوء صنيع القوم ! وكيف قد بالغوا جداً بالتهويل والمجازفة في تقبيح صورة بطانة العلماء وخواصهم المصاحبين لهم، فأوقعهم غلوهم هذا في الطعن بأهل العلم وعيبهم شاءوا أم أبوا).

فهم ألزموا من طعن في بعض بطانة العالم أنه بذا يطعن في العالم نفسه، بل زاد صاحب المقال عبارة, (شاءوا أم أبوا)، فأي إنصاف وأي فهم للدليل، وأي قواعد للسلف جرى عليها مثل هذا المقال الجيد النافع؟! قال شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى ج29، »فصل استأجر الأرض التي فيها شجر أو مساكن:
وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان : أحدهما : لازم قوله الحق ، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه ; فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره ، وكثير مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة : من هذا الباب .
والثاني : لازم قوله الذي ليس بحق . فهذا لا يجب التزامه ; إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض . وقد ثبت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين . ثم إن عرف من حاله : أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه ; وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه ; لكونه قد قال ما يلزمه وهو لا يشعر بفساد ذلك القول ولا يلزمه .
وهذا التفصيل في اختلاف الناس في لازم المذهب : هل هو مذهب أو ليس بمذهب ؟ هو أجود من إطلاق أحدهما فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له فهو قوله ، وما لا يرضاه فليس قوله . وإن كان متناقضا . وهو الفرق بين اللازم الذي يجب التزامه مع ملزوم اللازم الذي يجب ترك الملزوم للزومه . فإذا عرف هذا عرف الفرق بين الواجب من المقالات والواقع منها . وهذا متوجه في اللوازم التي لم يصرح هو بعدم لزومها .
فأما إذا نفى هو اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال ; وإلا لأضيف إلى كل عالم ما اعتقدنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ; لكونه ملتزما لرسالته فلما لم يضف إليه ما نفاه عن الرسول ; وإن كان لازما له : ظهر الفرق بين اللازم الذي لم ينفه واللازم الذي نفاه . ولا يلزم من كونه نص على الحكم نفيه للزوم ما يلزمه لأنه قد يكون عن اجتهادين في وقتين .
وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء - مع وجود الاختلاف في قول كل منهما : - أن العالم قد فعل ما أمر به من حسن القصد والاجتهاد وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله وإن لم يكن مطابقا ; لكن اعتقادا ليس بيقيني كما يؤمر الحاكم بتصديق الشاهدين ذوي العدل وإن كانا في الباطن قد أخطآ أو كذبا وكما يؤمر المفتي بتصديق المخبر العدل الضابط أو باتباع الظاهر ، فيعتقد ما دل عليه ذلك وإن لم يكن ذلك الاعتقاد مطابقا . فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد وإن كان قد يكون غير مطابق وإن لم يكونوا مأمورين في الباطن باعتقاد غير مطابق قط .
فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين مع قصده للحق واتباعه لما أمر باتباعه من الكتاب والحكمة : عذر بما لم يعلمه وهو الخطأ المرفوع عنا ; بخلاف أصحاب الأهواء . فإنهم { إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس } ويجزمون بما يقولونه بالظن والهوى جزما لا يقبل النقيض مع عدم العلم بجزمه ، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطنا ولا ظاهرا . ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده ويجتهدون اجتهادا لم يؤمروا به ، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه فكانوا ظالمين شبيها بالمغضوب عليهم أو جاهلين شبيها بالضالين. ا.ه رحمه الله.


ولخص ذلك الكلام الشيخ فركوس حفظه الله في فتوى له فقال:
فالذي عليه أهلُ التحقيقِ أنّ لازمَ المذهبِ إن صرَّح به صاحبُهُ، أو أشار إليه، أو التزمه أو عُلم من حاله أنّه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره؛ فهو مذهبٌ له.
فإن كان لازمُ قوله حقا، فإنّه يضاف إليه؛ لأنّ لازمَ الحقِّ حقٌّ، وكذلك لازمُ الباطل باطلٌ؛ ذلك لأنّ لوازمَ الأقوالِ من جُملة الأدلّة في الحكم على صحّتها أو فسادها، حيث يُستَدَلُّ بصحّة اللازم على صحّة الملزوم، وبفساد اللازم على فساد الملزوم. لذلك كان اللاّزم من قول الله تعالى وقولِ رسولِه صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم يثبت ويحكم به؛ لأنّ كلامَ الله ورسولِه حقٌّ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ؛ ولأنّ الله تعالى عالِمٌ بما يكون لازمًا من كلامه وكلامِ رسوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم فيكون مرادًا.
أمّا إذا كان لازمُ قولِه الذي لم يصرّح به، أو لم يُشِرْ إليه، ولم يلتزمه، أو سكت عنه، ولم يذكره بالتزام ولا منعٍ، أو صرّح بمنع التلازم بينه وبين قوله. فالصحيح أنّ نسبة القول إليه تقويلٌ له ما لم يقل، ولا يُلزَم بما لم يَلْتَزِمه، ولا يؤاخذ به، إذ «لاَ يُنْسَبُ لِسَاكِتٍ قَوْلُ قَائِلٍ»؛ لأنّه قد يصدر منه ما يلزمه، وهو ذاهلٌ عن فساد اللاّزم، ولو كان قريبًا، لقصور علم المخلوق وعدم عصمته.
https://ferkous.com/home/?q=fatwa-758

فهذه أحوال لازم المذهب كما فصلها شيخ الإسلام رحمه الله، وهذا الفرق بين المجتهد وأهل الأهواء، فكيف تأخذون من جرح بعض بطاانة العالم أنه طعن في العالم وتلزمون به خصمكم وقد نص صراحة على أنه لا يلتزم هذا المذهب؟!
فإن كانت قاعدة إلزام الخصم بلازم كلامه الذي لم يلتزمه من المستحدث عند هؤلاء فليعلموا أنه يمكن أن يتجاوز أهل الأهواء الحد بهذه القاعدة تقويل القائل ما لم يقل إلى التكفير بالمآل، وقد أنكر هذا القول شيخ الإسلام رحمه الله, فإن القائل قد يجهل بعض ما يؤول إليه كلامه فلا يؤاخذ به، بل يستدل به على فساد القول.
فإن كنتم تريدون التوصل إلى توقير الأكابر بسد الذرائع للطعن فيه بسد باب الطعن في بطانته بإطلاق حتى تنقطع حجة أهل الأهواء فإنكم فتحتم لهم بابا آخر على مصراعيه وهو إلزام الخصم بلازم قوله وإن لم يلتزمه، وسيكون رد التكفيري عليك حين تنكر عليه التكفير بدون وجود الشروط وانتفاء الموانع أنكم تلتزمون هذا المسلك, وهو الأخذ بلازم القول.
فعلى من يتصدى لتبني الجواب على هذا السؤال: هل طعنك في بطانة العالم طعن فيه؟ أن يفرق بين ثلاثة أمور:
--اتخاذ بطانة سوء، ويدخل فيه الجلوس مع أهل البدع للمءانسة.
--وجود بطانة السوء، وهذا يكون بالدس والتلبيس، والتخفي.
--التأثر بتلك البطانة، ولا يعصم من هذا إلا علام الغيوب.

ثالثا-- أدلة من قال طعنك في بطانة العالم طعن فيه:
استدل مقررو هذه القاعدة بأدلة، منها: أدلة ذم المصاحب لمصاحبته لصاحب السوء، واستشهدوا بكلام أئمة من السلف في تقرير ذلك، وجعلوها أدلة على أن الطعن في بطانة العالم طعن فيه، فكيف تقولون على عالم سلفي سني أنه يتخذ أصحاب سوء؟
وهاك ما ذكره صاحب المقال من ذلك حيث ذكر ما نصه:
(فهل الطعن في خاصة المرء يكون طعناً فيه ؟

من المعلوم الذي لا مرية فيه أن الصاحب بصاحبه وأن المرء بخدنه:
قال صلى الله عليه وسلم : { المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل } [الصحيحة : 927]
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : [ إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه ومن هو مثله ] وقال : [ اعتبروا الناس بأخدانهم، فإن الرجل لا يخادن إلا من يعجبه ]
وقال قتادة رحمه الله : [ إنا والله ما رأينا الرجل يصاحب من الناس إلا مثله وشكله ]
وقال شعبة بن الحجاج : [ وجدت مكتوباً عندي : إنما يصاحب الرجل من يحب ]).

فهذه النصوص والآثار إنما تنسجم مع الاتخاذ, ففيها النهي عن اتخاذ صحبة السوء، وأن هذا يغضي من شأن الرجل، ويزيد على شينه به بأن يضر بدنياه وأخراه، وهو الذي صرح به قول الله تعالى: {لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا} الآية، وهي عامة في كل من يشملهم القيد, {من دونكم لا يألونكم خبالا}، وهذا ما نص عليه الحديث صراحة, {فلينظر أحدكم من يخالل}، وهذه العبارة تزيد فائدتها على مجرد الاستدلال على القرين بقرينه.
وهذا فهم السلف منها, فقد أخرج أبو داود الحديث في كتاب الأدب، وترجم له بقوله: (باب من يؤمر أن يجالس)، قال صاحب عون المعبود:
الرجل ) : يعني الإنسان ( على دين خليله ) أي على عادة صاحبه وطريقته وسيرته ( فلينظر ) : أي يتأمل ويتدبر ( من يخالل ) : فمن رضي دينه وخلقه خالله ومن لا تجنبه فإن الطباع سراقة. ا.ه رحمه الله.

وللتنبيه فهو حكم أغلبي، قال صاحب مرقاة المفاتيح:
5019 - ( وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : المرء على دين خليله ) أي : غالبا ، والخلة الحقيقية لا تتصور إلا في الموافقة الدينية ، أو الخلة الظاهرة قد تفضي إلى حصول ما غلب على خليله من الخصلة الدينية ، ويؤيده قوله : ( فلينظر أحدكم من يخالل ) : قال تعالى : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين. ا.ه رحمه الله.

وما دام أنه حكم أغلبي فهو ليس مطرد، وإذ إنه ليس بمطرد فهذا يؤكد أنه لا يلزم من الطعن في بعض بطانة الأخيار طعن في العلماء الأخيار، فليبحث القوم عن دليل غيره، فإن قالوا: القواعد أغلبية، ولكل حكم استثناء بطل إلزامكم من أساسه.
وعلى هذا المحمل تحمل النصوص التي يقتبسونها من الشيخ العثيمين وفيها أن الطعن في الصاحب طعن في المصاحب, لأنه اتخذ لنفسه أصحاب سوء، هذا ما كان من نصوص وآثار استدل بها صاحب المقال، فهي نقولات لا تصلح دليلا له، ففيها استحقاق الذم من جهة اتخاذ صحبة السوء.
وها هو يستطرد في نقل الآثار والوقائع وكلام أهل العلم مستدلا بها فيقول:
(جاء في سير أعلام النبلاء [13/ 174] : قيل لعبد الوهاب الوراق: إن تكلم أحد في أبي طالب، والمروذي، أما البعد منه أفضل؟
قال: نعم، من تكلم في أصحاب أحمد فاتهمه ثم اتهمه، فإن له خبئة سوء، وإنما يريد أحمد.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
( إذا مات مقيما على صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مزنون بنفاق فأذاه أذى مصحوبه قال عبد الله بن مسعود: "اعتبروا الناس بأخدانهم" وقالوا:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
وقال مالك رضي الله عنه: "إنما هؤلاء قوم أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم فلم يمكنهم ذلك فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء كان له أصحاب سوء ولو كان رجلا صالحا كان أصحابه صالحين أو كما قال: وذلك أنه ما منهم رجل إلا كان ينصر الله ورسوله ويذب عن رسول الله بنفسه وماله ويعينه على إظهار دين الله وإعلاء كلمة الله وتبليغ رسالات الله وقت الحاجة وهو حينئذ لم يستقر أمره ولم تنتشر دعوته ولم تطمئن قلوب أكثر الناس بدينه ومعلوم أن رجلا لو عمل به بعض الناس نحو هذا ثم آذاه أحد لغضب له صاحبه وعد ذلك أذى له ) [ الصارم المسلول 580 ]
فانظر إلى فقه شيخ الإسلام رحمه الله وانظر إلى عبارته وما فيها من وفاء وخلق رفيع
ومثله ما جاء عن عبد الله بن مصعب بن ثابت ، قال: قال لي أمير المؤمنين المهدي: يا أبا بكر، ما تقول فيمن يتنقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قلت: زنادقة.
قال: ما سمعت أحدا قال هذا قبلك؟ قال: قلت: هم قوم أرادوا رسول الله بنقص، فلم يجدوا أحدا من الأمة يتابعهم على ذلك، فتنقصوا هؤلاء عند أبناء هؤلاء، وهؤلاء عند أبناء هؤلاء، فكأنهم قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم تصحبه صحابة السوء، وما أقبح بالرجل أن يصحبه صحابة السوء. فقال: ما أراه إلا كما قلت. [ تاريخ بغداد : 10/174]
فمصاحبة أهل السوء والركون إليهم، خيبة وفشل يستحق صاحبه الطعن والتوبيخ
والآن يأتي الظالم يرمي خواص العلماء بالشر والسوء والخسة وغير ذلك من أوصاف الباطل، ثم يأتي العالم يدافع عن بطانته وأصحابه ويرد الظلم عنهم، فكيف يستقيم بعد هذا أن يقال أن الطعن فيهم لا يعد طعناً فيه ؟!
أما سمع هذا القائل قول الثوري رحمه الله ؟ فقد قال يحيى بن سعيد القطان لما قدم سفيان الثوري البصرة جعل ينظر إلى أمر الربيع بن صبيح وقدره عند الناس سأل أي شيء مذهبه ؟ قالوا ما مذهبه إلا السنة قال من بطانته ، قالوا أهل القدر قال هو قدري ) [الإبانة / 421]
بل إن الطعن في بطانة العالم قد يكون أول خطوات الطعن فيه :
روى الطبري في تاريخه [4/365] : عن عامر بن سعد، قال:
[ كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيئ جبله ابن عمرو الساعدي، مر به عثمان وهو جالس في نَدِيِّ قومه، وفي يد جبلة بن عمرو جامعة، فلما مر عثمان سلم، فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا! قال: ثم أقبل على عثمان، فقال: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه ، قال عثمان: أي بطانة! فو الله إني لأتخير الناس...
قال: فانصرف عثمان، فما زال الناس مجترئين عليه إلى هذا اليوم ]
قلت : فما أشبه اليوم بالبارحة ! وهذا أول الطعن على العلماء، وهذا أول الاجتراء عليهم .

ومن نصوص العلماء التي تؤكد هذا الأمر وتشهد له :
• قال الإمام السجزي رحمه الله عند ذكره لأحد الأشاعرة من رسالته لأهل زبيد [232] :
( وكلما ذُكر بين يديه شيخ من شيوخ الحنابلة وقع فيه، وقال: أحمد نبيل لكنه بُلي بمن يكذب. وهذا مكر منه لا يحيق إلا به، ولو جاز أن يقال: إن أصحاب أحمد كذبوا عليه في الظاهر من مذهبه، والمنصوص له لساغ أن يقال إن أصحاب مالك والشافعي وغيرهما كذبوا عليهم فيما نقلوا عنهم، وهذا لا يقوله إلا جاهل رقيق الدين قليل الحياء )

• وقال العلامة المعلمي رحمه الله عن طريقة الكوثري :
( يتتبع أصحاب الإمام أحمد طاعناً في اعتقادهم يُسِرُّ حَسْواً في ارتغاء، يقصد الطعن في الإمام أحمد ) التنكيل من مجموعة آثار المعلمي رحمه الله [11/335]

• قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى [شرح رياض الصالحين 3/246] :
(عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل)) يعني أن الإنسان يكون في الدين، وكذلك في الخلق؛ على حسب من يصاحبه، فلينظر أحدكم من يصاحب، فإن صاحب أهل الخير؛ صار منهم، وإن صاحب سواهم؛ صار مثلهم )

• وقال فيه أيضاً في [2/311] : (القرين على دين قرينه، وكل إنسان يعاب بقرينه إذا
كان قرينه سيئاً؛ يقال: فلان ليس فيه خير؛ لأن قرناءه فلان وفلان وفلانٌ من أهل الشر. فالطعن في الأصحاب طعن بالمصاحب )
• وقال كذلك في القول المفيد [2/275] : ( المرء على دين خليله، والإنسان يُستدل على
صلاحه أو فساده أو سوء أخلاقه، أو صلاحها بالقرين ))

فها أنت ترى أيها القارئ تصريحه بما ذكر لك في أول هذه الأسطر من استعماله للقياس مع الفارق, فيتجاهل الفرق بين مسألة الطعن في صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين الطعن في بعض بطانة العالم، وينص صراحة على أنه لا يوجد دليل على التخصيص، فشتان ما بين مقام العصمة ومقام الاجتهاد، وشتان ما بين من عدلهم الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات وهو عالم الغيب والشهادة وزكاهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين من يزكيهم العالم الرباني الذي يزكي على ما يظهر له من أحوال، وشتان بين عدالة مستندة على توقيف واعتقادها قربة إلى الله عز وجل، واعتقادها علامة فارقة بين السنة والبدعة، وبين الإيمان والنفاق، وبين عدالة مستندة على الاجتهاد، وهل الطاعن في بطانة أي عالم ولو بالهوى يعتبر رافضيا؟! بل هل يدخل صاحبه في البدعة هكذا بإطلاق؟! وأين يندرج كلام الأقران بعضهم في بعض مع دعوى العموم هذه وقد يكون بين عالمين بالكلام الصريح لا بالطعن في بطانة أحدهما؟! فيا نفس اقطعي رجاءك من وقفات طيبة بعد هذا.
ومع دعوى العموم هذه نقض صاحب المقال قسما من أدلته، فما كان بخصوص الصحابة ليس فيه دليل له.
فماذا بخصوص الكلام في أصحاب أحمد والقول بأن من تكلم فيهم فإنما يريد أحمد رحمة الله عليهم جميعا؟
أما أثر الوراق المنقول من سير أعلام النبلاء فليس فيه إشكال، ولا يمت للمسألة بصلة إلا عند من لم يتدبره، فمن المتكلم أو الطاعن المسؤول عنه، هل هو عالم سني سلفي أمضى عمره في الذب عن السنة؟، أم كانوا مبتدعة؟، أم مجاهيل لا يعلم حالهم جعل كلامهم في أصحاب أحمد علامة على معتقدهم؟
والمستحضر للبيئة التي خرج فيها هذا الكلام يعلم أن العلماء عندهم أن أصحاب أحمد المذكورين أئمة أعلام، والخصومة شديدة بينهم وبين أهل البدع، فلا ينبغي نزع النص عن واقعه.
ولو فرض جدلا أن عالما سنيا تكلم بجرح مفسر في أحدهم وبين ذلك للوراق رحمه الله فهل سيستعمل الوراق رحمه الله الأصول السلفية المقررة فيقبل جرح الجارح بدليله؟، أم سيقول لهذا المتكلم بعلم إنه طعن في أحمد رحمه الله بالطعن في أحد أصحابه؟
وأما أثر الربيع بن صبيح فهو أبعد من الأول,, فإنه في مجالسة أهل الأهواء.

وتبين من كل ما تقدم:
*عموم وجود البطانتين في حق الأنبياء ومنن دونهم, سئل الشيخ ابن باز السؤال التالي:
هل كانت للرسول ﷺ بطانةٌ تأمره بالسُّوء؟
فأجاب رحمه الله:
ظاهر الحديث العموم، وأنه يُبتلى الأنبياء وغيرهم، لكن الله يعصمهم ويكفيهم: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾[المائدة:67]، فقد يُبتلون ويكفيهم الله.
https://binbaz.org.sa/fatwas/22416/%D9%87%D9%84-%D9%83%D8%A7%D9%86%D8%AA-%D9%84%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%88%D9%84-%D8%A8%D8%B7%D8%A7%D9%86%D8%A9-%D8%AA%D8%A7%D9%85%D8%B1%D9%87-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%A1

رابعا-- لماذا ليس في الحديث حجة للمردود عليه؟:
قال صاحب المقال:
(قلنا لهم أنتم تطعنون في أهل العلم بكلامكم السيء السابق، فأوردوا هذا الحديث يحسبون أن فيه حجة لهم، بل الذي فيه عارهم وشنارهم وتأكيد طعنهم في أهل العلم، وهاك بيان ذلك:

جاء في روايات هذا الحديث الشريف ، قوله صلى الله عليه وسلم : « ما من وال إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالا، فمن وقي شرها فقد وقي وهو من التي تغلب عليه منهما » [ انظر السلسلة الصحيحة برقم 2270]
ومحل الشاهد في آخر الحديث وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم ( وهو من التي تغلب عليه منهما )

قال الحافظ في الفتح [13/191] :
( من يلي أمور الناس قد يقبل من بطانة الخير دون بطانة الشر دائما وهذا اللائق بالنبي، ومن ثم عبر في آخر الحديث بلفظة العصمة .
وقد يقبل من بطانة الشر دون بطانة الخير وهذا قد يوجد ولا سيما ممن يكون كافرا .
وقد يقبل من هؤلاء تارة ومن هؤلاء تارة فإن كان على حد سواء فلم يتعرض له في الحديث لوضوح الحال فيه وإن كان الأغلب عليه القبول من أحدهما فهو ملحق به إن خيرا فخير وإن شرا فشر) ا.هـ
ففي هذا الحديث بيان لأقسام الناس مع هذه البطانة :
فمنهم من يقبل من بطانة الخير دائماً ، ومنهم من يقبل من بطانة الشر دائماً
ومنهم من يقبل من هذه تارة ، ومن تلك تارة أخرى ، فإما أن يتساوى أخذه وإما أن تغلب إحدى الطائفتين عليه، فهو ملحق بالطائفة الغالبة عليه، إن غلب عليه قبول الخير من أهل الخير فهو منهم ، وإن غلب عليه قبول الشر من أهل الشر فهو منهم.
الآن وقد اتضح لك أقسام الناس مع هاتين البطانتين، انظر في أي قسم وضع المشغبة العلماء ! ومن حالهم تعرف جوابهم :
فإنهم الآن لا يقبلون أحكام العلماء المأمونين المشهود لهم بالعدل والإصابة بحجة أنها أحكام خارجة تحت تأثير بطانة الشر! أو أحكام نقلتها لنا بطانة الشر، فأسقطوا كلام العلماء وردوه بكل برود وجفاء، وما عادت في قلوبهم أية قيمة لكلام أهل العلم بحجة بطانة الشر! فمن أي الأقسام جعلتم العلماء ؟! الجواب بيّن واضح من القسم الذي غلب عليه بطانة السوء والشر بزعمهم .
قال السندي في حاشيته على سنن النسائي [7/159] :
( فَإِن غلبت عَلَيْهِ بطانة الْخَيْر يكون خيرا وان غلبت عَلَيْهِ بطانة السوء يكون سَيِّئًا ]

قال الشيخ محمد بن علي الأثيوبي في ذخيرة العقبى [32/315] :
( (وَهُوَ) أي ذلك الوالي الذي له بطانتان موصوفتان بالوصفين المذكورين (مِن) الطائفة (الَّتِي تَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْهُمَا) يعني أنه منْ جنس الطائفة التي تغلب عليه، فإن غلبت عليه بطانة الخير، فهو منْ أهل الخير، وإن غلبت عليه بطانة الشرّ، فهو منْ أهل الشرّ. والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو المستعان، وعليه التكلان) .
وقال فيه أيضاً [32/317] :
[ إن كَانَ الأغْلب عَلَيْهِ القبُول منْ أحَدهمَا، فهُو مُلحق بِهِ، إن خيرًا فَخَير، وإِن شرًّا فَشَرّ ]
وقال فيه أيضاً [32/320] :
( الإِمام له بطانتان: بطانة تأمره بالخير، وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشرّ، وتحضّه عليه، فينبغي له أن يكون عَلَى حَذَر فِي أموره، حتى لا يوافق بطانة السوء، فيقع فِي السوء، ويكون منْ حزبه )
فانظر إلى سوء صنيع القوم ! وكيف قد بالغوا جداً بالتهويل والمجازفة في تقبيح صورة بطانة العلماء وخواصهم المصاحبين لهم، فأوقعهم غلوهم هذا في الطعن بأهل العلم وعيبهم شاءوا أم أبوا، فانظر نظر المتأني إلى الحديث الشريف؛ ماذا تجد فيه ؟ ألا تجد أن النبي e أخبر بوجود بطانتين الأولى أهل خير والثانية أهل شر، وكل بطانة تأمر بما تأمر به، والموفق يقرب أهل الخير ويباعد أهل الشر، ولكن انظر إلى صنيع القوم ! كأنهم يقولون لا بطانة حول العالم إلا أهل الشر ! والعالم أذن لهم ! ثم بعد هذا يقولون لا نطعن بالعلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون .).

لا شك أيها القارئ المنصف أن كلامم المعصوم يحمل مطلقه على مقيده، ومجمله على مفصله، وروايات الحديث يفسر بعضها بعضا، لكن، هل غيرت رواية تبيين مراتب الإمام مع البطانة من معنى الحديث الذي أكثر رواياته منتهية ببيان أن المعصوم من عصم الله؟! وهل كان الحديث في معظم رواياته مبهما يحتاج إلى هذه الزيادة؟ وهل معنى هذه الرواية ثبوت الذم للإمام وإن لم يعلم بسوء حال بعض بطانته؟، أم هو كلام سيق للتحذير؟، أم هل الرواية مسوقة للإخبار عن سوء ذلك القابل من بطانة السوء مع علمه بهم؟ وهل يلزم من وصف عالم بأنه تأثر في موقف ما ببطانة السوء كونهاا غالبة عليه ومن ثم استحق الذم بذلك؟
قصة الحافظ ابن خزيمة وتعامل العلماء معها خير شاهد على فهم السلف مع النصوص، النصوص التي نقلها صاحب المقال خير رد عليه, وقد أشار الحافظ ابن حجر في النص الذي نقله عنه صاحب المقال، وفيه:
وقد يقبل من بطانة الشر دون بطانة الخير وهذا قد يوجد ولا سيما ممن يكون كافرا . ا.ه رحمه الله.
ففي عبارة ولا سيما إذا كان كافرا إشارة إلى سوء هذا الذي غلبت عليه بطانة السوء، وبسبب ذلك قبل قولهم.
وقال الحافظ أيضا:
وقد يقبل من هؤلاء تارة ومن هؤلاء تارة فإن كان على حد سواء فلم يتعرض له في الحديث لوضوح الحال فيه وإن كان الأغلب عليه القبول من أحدهما فهو ملحق به إن خيرا فخير وإن شرا فشر) ا.هـ

فمن أين لصاحب المقال إلزام المردود عليه بأنه نسب إلى العلماء أنهم من القسم الذي غلبت عليه بطانة السوء؟ وأين نص كلامهم في هذا؟ وهكذا يسير مع الإلزام بما لا يلزم، وتقويل المردود عليه ما لم يقل من أول مقاله إلى آخره، وها هو يصرح بأنه ليس لديه نص كلامه في هذا فيقول:
(الآن وقد اتضح لك أقسام الناس مع هاتين البطانتين، انظر في أي قسم وضع المشغبة العلماء ! ومن حالهم تعرف جوابهم :)
وقال أيضا:
(فمن أي الأقسام جعلتم العلماء ؟! الجواب بيّن واضح من القسم الذي غلب عليه بطانة السوء والشر بزعمهم .)
فهل رد خصومك يا صاحب المقال أحكام العلماء كلها؟

وها هو مرة ثالثة يقر بأنه ليس عنده نص ثابت من كلام خصومه يؤيد ما ادعاه فيقول:
(كأنهم يقولون لا بطانة حول العالم إلا أهل الشر ! والعالم أذن لهم ! ثم بعد هذا يقولون لا نطعن بالعلماء، فإنا لله وإنا إليه راجعون .)
وهذا تفسير الشيخ الإثيوبي للرواية كما ذكرته يا صاحب المقال حيث يقول:
( الإِمام له بطانتان: بطانة تأمره بالخير، وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشرّ، وتحضّه عليه، فينبغي له أن يكون عَلَى حَذَر فِي أموره، حتى لا يوافق بطانة السوء، فيقع فِي السوء، ويكون منْ حزبه )
ويتبين لك أيها القارئ المنصف ما يلي:
*وجود بطانة السوء لا يلزم منه ذم صاحبها إلا إن كان اتخذهم اتخاذا وهو يعلم حالهم ولم تدع مصلحة إلى مداراتهم، وفرق بين وجود البطانة وبين اتخاذ البطانة.
*فرق بين الطعن للتنقص أو كان للوقيعة في أهل الأثر وبين ما سيق من الكلام نصحا للمسلمين، وفرق بين أن يكون الكلام من عالم سني سلفي وبين أن يكون من مبتدع، وفرق بين ما كان لحظ النفس، وبين ما كان مبنيا على الدليل.
*الجمع بين مسألتي لزوم الطعن في النبي صلى الله عليه وسلم من الطعن في صحابته، وبين لزوم الطعن في العالم من خلال الطعن في بطانته، جمع بين مختلفين، ومن زعم غير هذا لزم
من كلامه رفع العلماء إلى منزلة الأنبياء.
ثم بعد هذا فرع الثاني مقاله, المصعفقة مطية لروافض، فغرب وشرق حول هذا المفهوم, أنه لا دليل على تخصيص الأنبياء دون العلماء، ونقل كلام الروافض، وقرن بينهم وبين إخوانه، وهذه خاتمة اللوازم التي بدأت في المقال الجيد النافع ذي الوقفات الطيبة والنقولات النافعة، فهل أصاب د. عرفات المحمدي يا ترى في هذه الأوصاف؟

الخميس، 19 يوليو 2018

#تأملات: الفرق بين قول الله تعالى: عن العسل: {فيه شفاء} وقوله تعالىعن القرآن : {وننزل من القرآن ما هو شفاء} الآية.

#تأملات: الفرق بين قول الله تعالى: عن العسل: {فيه شفاء} وقوله تعالىعن القرآن : {وننزل من القرآن ما هو شفاء} الآية. قال ابن كثير في تفسير آية النحل: وقوله : ( فيه شفاء للناس ) أي : في العسل شفاء للناس من أدواء تعرض لهم . قال بعض من تكلم على الطب النبوي : لو قال فيه : " الشفاء للناس " لكان دواء لكل داء ، ولكن قال ( فيه شفاء للناس ) أي : يصلح لكل أحد من أدواء باردة ، فإنه حار ، والشيء يداوى بضده . ا.ه رحمه الله. وأما عن آية الإسراء، فقال الشيخ الشنققيطي رحمه الله في أضواء البيان: وقوله في هذه الآية : ما هو شفاء [ 17 \ 82 ] يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه ; كالشك والنفاق وغير ذلك ، وكونه شفاء للأجسام إذا رقي عليها به ، كما تدل له قصة الذي رقى الرجل اللديغ بالفاتحة ، وهي صحيحة مشهورة ، وقرأ أبو عمرو وننزل بإسكان النون وتخفيف الزاي ، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ، والعلم عند الله تعالى . ا.ه رحمه الله. فعبارة القرآن عن العسل بتقديم الجار والمجرور المتعلقان بمحذوف خبر، والمبتدأ شفاء نكرة. وعبارة القرآن عن القرآن جاءت بذكر ضمير الشأن وجاءت لفظة شفاء خبرا. وهذا يبين أن القرآن كله شفاء، فمنه ماا هو شفاء للبدن ومنه ما هو شفاء لأمراض القلوب. وكلام الأطباء الذي ذكره ابن كثير له وجه من اللغة، فالعسل سبق بحرف الجر في، وحرف الجر في يفيد الظرفية أي أن العسل يحتوي على شفاء، والجار والمجرور {فيه} شبه جملة خبر مقدم، وتقديم الخبر يفيد التخصيص، وجملة {فيه شفاء} جاءت مبينة لصفة من صفات الشراب، وكلمة شفاء جاءت مبتدأ منكرا في سياق الإخبار، فلا تفيد عمووما، بل تنكيرها ومجيؤها مبتدأ وتقدم ذكر العسل عليها عاملا في ضميره حرف الجر في المفيد للظرفية يقيد هذا الشفاء مع كون الشفاء صفة من صفاته. أما القرآن فقوله تعالى: {من القرآن} من لبيان الجنس، وهي بمعنى أي، وليست من تبعيضية، فالكلام في غير القرآن, وننزل أي القرآن، وليس معنى الكلام, وننزل القرآن الذي بعضه شفاء، والدليل قوله تعالى: {ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالو لولا فصلت آياته أاعجمي وعربي، قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}، والضمير هو في الآيتين يعود على القرآن كله لا على بعضه، وكلمة شفاء هنا جاءت خبرا عن جميع القرآن، ولا يضر تنكيرها، بل هو الموافق لسوق الكلام, فهي متممة لمعنى الجملة وليست صفة، والفارق أن الخبر فيه إعطاء فائدة، وفيه بيان لأن هذه الفائدة من ماهية المخبر عنه وهو القرآن، أو أنها خصيصة من خصائصه، بخلاف الصفة فإنها يكثر أن تكون في المخلوقات عرضية، وقد يفهم من تعريف كلمة الشفاء في آية الإسراء وآية الزخرف إفادة الحصر الحقيقي للشفاء في القرآن، لأن تعريف المبتدأ والخبر من أساليب الحصر والقصر في لغة العرب، ولكن لما كان المراد بيان أن القرآن كله شفاء وفي غيره شفاء لكن القرآن أععظم ما يتداوى به لأمراض القلوب والأبدان جاءت كلمة الشفاء خبرا منكرا. والله أعلم.

الاثنين، 2 يوليو 2018

من معضلات الإلغاز النحوي في الدربة والمران, إعراب (هو هو) أنموذجا:

من إشكالات التلغيز في الدربة والمران على الإعراب إعراب (هو هو) أنموذجا. أرسل أحد الإخوة ملغزا يطلب إعراب, (هو هو)، ، والحق أن في السؤال إشكالا، وفي الجملة إجمالا،وهو: هل هذه الجملة كما وردت في السؤال تعد كلاما بالمعنى الاصطلاحي النحوي ليعرب ؟ أي, هل يحسن السكوت عليه؟ وهل تعد كما عرضت في الإلغاز كلاما فصيحا؟ وقد يعد بعضم ن يقرأ هذه السطور حول الأثر السلبي للإلغاز من العبث، فإنما هو من باب اللهو والترويح، أو أن كتابة هذه السطور حول كلام من قبيل اللغو من باب تضييع الوقت فيما هو قليل النيل، لكن، يا ترى، لماذا يسود في الوسط العام كراهية النحو والإعراب؟ وما الذي جرأ بعض المتحذلقين فكتب مقالا عنوانه, (الإعراب، هذا الخراب)؟ وقد مرت مرحلة لا يمكن تناسيها ولو على سبيل التاريخ ساد منهج يطمح لتجديد النحو، وذلك باعتبار أن ما شاع عند النحاة من تقاعيد معيارية أوقعت في كثير من الإشكالات، والأولى الاستغناء عن ذلك بالتعامل مع الظواهر بالوصفية، فغيروا أقسام الكلام ووسعوها، وعدوا فرضية أن الإعراب فرع عن المعنى مجرد فرضية ذهنية، لا يمكن إثباتها واقعا، وقد تبنى هذا المنهج أساتذة يشار إليهم بالبنان، ومن هؤلاء د. تمام حسان في كتبه, اللغة العربية معناها ومبناها، واللغة بين المعيارية والوصفية، ومناهج البحث في اللغة، فهو يفترض في كتابه اللغة العربية معناها ومبناها، نصا هرائيا كما يصفه على هيئة شعر فيقول في ص183: "انظر مثلًا إلى ما يأتي: قَاصَ التَّجِينُ شِحَالَه بِتَريسِهِ ... فاخِي فَلَمْ يَسْتَفِ بِطَاسيةِ الْبَرَنْ" ثم يقوم بعد ذلك بإعراب هذا النص الهرائي كما يصفه، منتقدا قاعدة, أن الإعراب فرع عن المعنى. وانظر كيف يتهكم بمن بعج القياس ومد النحو، وهو عبد الله ابن أبي إسحاق الحضرمي فيقول في الصفحة نفسها: "إن من حسن الحظ أن ابن إسحاق -رضي الله عنه- لم يتأخر به زمانه حتى يقرأ ما يبدو هنا أنه أريد به أن يكون من قبيل الشعر, ولو قد حدث هذا لعده من شعر الجنّ, أو لزعم أن آدم قاله قبل أن يعلمه الله الأسماء كلها، ربما دون أن يردف ذلك بقوله: والله أعلم". ثم يقول في ص184: "ولو كان الإعراب فرع المعنى الدلالي ما استطعنا كذلك أن نعرب قول المجنون بن جندب: محكوكة العينين معطاء القفا ... كأنما قدت على متن الصفا تمشي على متن شراك أعجفا ... كأنما ينشر فيه مصحفا فإن أبا العلاء العماني لم يستطع تفسير ذلك, ولم يستطع ذلك أبو عبيدة ولا الأصمعي ولا أبو زيد, وقال أبو زيد: إنه كلام مجنون ولا يعرف كلام المجانين إلّا مجنون". فإن كان هذا حال من طالع كتب اللغة وتخصص فيها، فكيف بحال العامة؟! وقد اشتد نكيره على العامل وتأثيره، وعنده أن ما يؤثر في الإعراب هي أمور وظيفية تنشأ من المستويات الثلاثة, الصوتي، الصرفي، التركيبي، وأما الدلالي فلا علاقة له بأمور المبنى ومنه الإعراب. ساد هذا المنهج إلى أن ظهرت نظرية تشومسكي التوليدية والتحويلية، وترجمت إلى العربية، وعاد بعد المدارس المتأثرة بالوصفية للنحو هيبته. فهل كنا بحاجة إلى تشومسكي ليعيد لنا هيبة النحو؟ وقد سبق أهل العربية إلى بيان المقصود بالنظم، وهو معاني النحو التي لم يدقق فيها د. تمام حسان ومن نهج نهجه، ومعاني النحو غير المعنى المعجمي. لكن، ما علاقة هذا كله بالإشكالات في الإلاغز؟ وإعراب, (هو هو)، إن هذه الألاغز التي ساد تداولها في أزمنة ليست بالقصيرة هي التي أتاحت لسلك التغريب التغلغل في نقد اللغة، فبدت عندهم كائنا جامدا، بينما علماؤنا المتقدمون تعاملوا معها على أنها شريان نابض يتدفق بالمعاني، وهي مع هذا لها قداسة وخصوصية لأنها اللغة التي بلغنا بها الوحي، من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم. ولعلك أيها القارئ الكريم حين تطالع كلام شيخ الإسلام الآتي في عود الضمير سترى ذلك جليا. وقد أعرب بعض الإخوة بارك الله فيه هذه الجملة, (هو هو) بدون اعتبار ما فيها من إبهام، على أن الضمير (هو) الأول مبتدأ، والثاني خبر، ولذا وردت الأسئلة التالية: هل تكلمت العرب بهذا الكلام على أنه جملة مؤسسة؟ وهل لهذين الضميرين المبهمين من عائد؟ إن من المسلمات المعلومة عند المبتدئين في دراسة النحو فضلا عن غيرهم أن موضوع علم النحو الكلام المركب المفيد بالوضع، ولا بد من شرط الإفادة، وهذه الجملة كما وردت في السؤال مكونة من ضمير مكرر للغائب، ويقول العلماء: إن الضمائر من الأسماء المبهمة، أي, لا تختص بمعين، فهي لا تدل على شخص بعينه مثلا، فكل شخص يقول أنا، ويصدق على كل مخاطب مذكر أن تقول له أنت، وضمائر الخطاب والتكلم استغني بدلالتهما على الحضور فلا يحتاجان إلى عائد، بينما ضمير الغائب لا بد فيه من عائد يعود عليه، إما مذكور، وإما موصوف في الذهن، كما هو الحال في ضمير الشأن, كما في قول الله تعالى: {قل هو الله أحد}، فليس للضمير ما يعود عليه، ولكن الذهن يقدره بالشأن أو القصة أو الحال، وقوله تعالى: {وهو محرم عليكم إخراجهم}، أي والشأن أو الحال أنه محرم عليكم، فهنا في جملة (هو هو) علام يعود الضمير المكرر؟ فلو قلت لشخص ابتداء: هو هو، فلن يفهم عنك مقالك، زد على ذلك أن العلماء فسروا استعمال العرب لضمير الفصل أو العماد بألا يلتبس المعنى بين ما هو مبتدأ وخبر، وما هو موصوف وصفة، وبين ما هو توكيد في مثل قولك: (العذر هو العذر)، وما أشبهها من التراكيب. وأما ما تكلمت به العرب مما صورته مشابهة لهذه الجملة من تكرار الضمير فيها فإن العرب تكلمت به على وجود عائد، ومثاله ما يعرف بالمسألة الزنبورية، وفيها: كنت أظن أن النحل أشد لسعا من الزنبور، فإذا هو هي. فالمتكلم حين يسمع (فإذا هو هي)، لا يلتبس عليه الفهم, لأن للضميرين عائدا. وكذلك في بيت أبي خراش الهذلي: *رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع* فقلت وأنكرت الوجوه هم هم* فالضمير المكرر في البيت يرجع إلى الذين أمنوه ليقتلوه بقتيلهم، فللضمير مرجع، ويبقى في البيت, هل الضمير المكرر يعرب مبتدأ وخبرا؟ أم هو على سبيل التوكيد اللفظي؟ قال ابن فارس في الصاحبي في فقه اللغة ص /137: " وربّما حَذفت العربُ ألف الاستفهام. ومن ذلك قول الهُذْلِيّ: رَفوْنِي وقالوا يا خويلدُ لم ترَعْ ... فقلت وأنكرتُ الوجوهَ همُ همُ أراد: أهم?". وتبعه القرطبي رحمه الله في تفسيره ج11، ص287 وذلك عند كلامه على قول الله تعالى: {أفإن مت فهم الخالدون}، وغيرهما. وذهب ابن جني في الخصائص إلى أن ما في اللفظ المكرر الثاني من المعنى ما ليس في اللفظ الأول، لكن، كأن سياق الكلام عنده على التقرير لا الاستفهام، جاء في الخصائص ج3، ص340-341: " فإن قلت: فقد قال أبو النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري وقال الآخر: إذ الناس ناسٌ والبلاد بغرة ... وإذ أم عمار صديقٌ مساعف "وقال آخر": بلاد بها كنا وكنا نحلها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد وقال الآخر: هذه رجائي وهذي مصر عامرةً ... وأنت أنت وقد ناديت من كثب وأنشد أبو زيد: رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هُم هُم قيل: هذا كله وغيره مما هو جار مجراه، محمول عندنا على معناه دون لفظه؛ ألا ترى أن المعنى: وشعري متناهٍ في الجودة، على ما تعرفه وكما بلغك، ، وقوله: إذ الناس ناس أي: إذ الناس أحرار، والبلاد أحرار، وأنت أنت أي: وأنت المعروف بالكرم، وهم هم أي: هم الذين أعرفهم بالشر والنكر لم يستحيلوا ولم يتغيروا". وعلى تقدير الاستفهام فالضميران يعربان مبتدأ وخبرا، ولا إشكال، لتعلقهما بكلام سابق، ولهما عائد. لكن، في ديوان الهذليين وفي شرح أشعار الهذليين، وفي كتاب الأغاني أن لهذه القصيدة قصة، وهذا سوقها بتمامها, لعلنا نستفيد منها المرجح. قال صاحب خزانة الأدب ج1، ص440-442: الشاهد الثاني والسبعون رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هم هم لما تقدم في البيت قبله، أي: هم الذين يطردونني ويطلبون دمي. وهذا البيت لأبي خراش الهذلي، مطلع قصيدة، وهي ستة عشر بيتاً، ذكر فيها تفلته من أعدائه حين صادفهم في الطريق كامنين له، وسرعة عدوه حتى نجا منهم. روى السكري في " شرح أشعار الهذليين " عن الأخفش قال: " خرج أبو خراش وأم خراش يريدان بعض أهلهما، فمرا بخزاعة، فلما رأتهما خزاعة قالوا: هذا أبو خراش وامرأته فلا تهيجوهما حتى يدنوا منا. فقال أبو خراش لأم خراش: فإن سألوك فقولي: تخلف كأنه يقضي حاجة، وهو مار بكم. فمضت حتى إذا علم أبو خراش أنها قد جاوزت الثنية وأمنهم جاء يمشي رويداً حتى مر في وسطهم، فسلم فردوا عليه السلام، فقال: ممن أنتم؟ قالوا: إخوتك وبنو عمك منهم، فهموا به فعدا وعدوا على إثره، فأعجزهم وجعلوا ينظرون إليه ويرمونه، ونجا منهم " وفي " الأغاني " بسنده: " أن أبا خراش الهذلي خرج من أهله هذيل، يريد مكة، فقال لزوجته أم خراش: ويحك إني أريد مكة لبعض الحاجة، وإن بني الديل يطلبونني بترات، فإياك أن تذكريني؟ فخرج بها وكمن لحاجته، وخرجت إلى السوق لتشتري عطراً وما تحتاجه النساء فمر بها فتيان من بني الديل فقال أحدهما لصاحبه: أم خراش ورب الكعبة؟ فسلما عليها فقالت: بأبي أنتما من أنتما؟! فقالا: رجلان من أهلك هذيل. قالت: فإن أبا خراش معي فلا تذكراه لأحد، ونحن رائحون العشية. فجمع الرجلان جماعة وكمنوا في طريقه، فلما نظر إليهم قال لها: قتلتني. قالت: ما ذكرتك ورب الكعبة إلا لفتيين من هذيل. فقال: والله ما هما من هذيل ولكنهما من بني الديل، وقد جلسا لي وجمعا جماعة من قومهما، فإذا جزت عليهم فإنهم لن يعرضوا لك لئلا أستوحش فأفوتهم، فاركضي بعيرك وضعي عليه العصا. فكانت على قعود يسابق الريح. فلما دنا منهم وقد تلثموا ووضعوا تمراً على طريقه على كساء فوقف قليلاً كأنه يصلح شيئاً - وجازتهم أم خراش ووضعت العصا على قعودها - وتوثبوا إليه، فوثب العدو، وسبقهم ولم يلحقوه. وقال أبو خراش في ذلك هذه القصيدة " . فهذه القصة على اختلاف رواياتها فيما ذكر من كتب تفيد بجزمه بأنهم أعداؤه، وسياق القصة على هذا يرجح جانب أن الكلام تقرير. وعليه، فإن كان استفهاما فالإعراب على أن الضمير المكرر مبتدأ وخبره، وإن كان الكلام إخبارا فللإعراب وجهان, إما مبتدأ وخبر، وإما أن الضمير الأول مبتدأ والثاني توكيد لفظي والخبر محذوف تقديره الذين أخاف أو أحذر، أو هم هم أعدائي، فكأنه يخاطب نفسه حاثا لها على الحزم في الحذر والفرار، فالحاصل أن للضمير المكرر عائدا. وكذلك الحال في عبارات سيبويه، وهو الذي حصلت معه المسألة الزنبورية، ومنها عن بدل الاشتمال ج1 ص151): "ويكون على الوجه الآخرَ الذي أذكره لك وهو أن يَتكلّمَ فيقولَ رأيتُ قومَك ثم يَبْدوَ له أن يبيَّنَ ما الذى رأى منهم فيقولَ ثُلُثَيْهم أَو ناساً منهم | ولا يجوز أن تقول رأيتُ زيدا أباه والأبُ غيرُ زيد لأنّك لا تبينَّه بغيره ولا بشيء ليس منه | وكذلك لا تثنَّي الاسم توكيداً وليس بالأوَّل ولا شيء منه فإِنَّما تثنَّيه وتُؤكَّدُهُ مُثَنًّى بما هو منه أو هو هو" فللضمير مرجع في بداية الكلام. وأما استعماله هكذا بلا عائد، وبلا سياق يلتحق به فإنه بغض النظر عن سلوك الإلغاز يدخل فيه أمور كثيرة دخلت في الفلسفة والإلهيات، وعلم النفس، ومسائل جدلية لا خير فيها، اقرأ كلام شيخ الإسلام في ج10 ص226-227: ويبين ذلك أن أفضل الذكر " لا إله إلا الله " كما رواه الترمذي وابن أبي الدنيا وغيرهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله } وفي الموطأ وغيره عن طلحة بن عبد الله بن كثير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } . ومن زعم أن هذا ذكر العامة وأن ذكر الخاصة هو الاسم المفرد وذكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر فهم ضالون غالطون . واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله : { قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } من أبين غلط هؤلاء فإن الاسم هو مذكور في الأمر بجواب الاستفهام . وهو قوله : { قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس } إلى قوله { قل الله } أي الله الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فالاسم مبتدأ وخبره قد دل عليه الاستفهام كما في نظائر ذلك تقول : من جاره فيقول زيد . وأما الاسم المفرد مظهرا أو مضمرا فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به إيمان ولا كفر ولا أمر ولا نهي ولم يذكر ذلك أحد من سلف الأمة ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعطي القلب بنفسه معرفة مفيدة ولا حالا نافعا وإنما يعطيه تصورا مطلقا لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات فإن لم يقترن به من معرفة القلب وحاله ما يفيد بنفسه وإلا لم يكن فيه فائدة . والشريعة إنما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره . وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر في فنون من الإلحاد وأنواع من الاتحاد . كما قد بسط في غير هذا الموضع . وما يذكر عن بعض الشيوخ من أنه قال : أخاف أن أموت بين النفي والإثبات . حال لا يقتدى فيها بصاحبها فإن في ذلك من الغلط ما لا خفاء به ; إذ لو مات العبد في هذه الحال لم يمت إلا على ما قصده ونواه إذ الأعمال بالنيات وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتلقين الميت لا إله إلا الله وقال : { من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة } ولو كان ما ذكره محذورا لم يلقن الميت كلمة يخاف أن يموت في أثنائها موتا غير محمود بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد". فالإخلال بشرط الإفادة التي يحسن السكوت عليها سبب في الوقوع في الإلحاد، والحيدة عن منهج النبوة في الذكر بورع لا حقيقة له، وهو خوف الموت بين النفي والإثبات في كلمة التوحيد، هذا والاسم المفرد له معنى معجمي متعارف عليه، فكيف باستعمال المبهمات معزولة عن سياقها؟ قال شيخ الإسلام بعد ذلك في المصدر نفسه ص227 "والذكر بالاسم المضمر المفرد أبعد عن السنة وأدخل في البدعة وأقرب إلى إضلال الشيطان فإن من قال : يا هو يا هو أو : هو هو . ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدا إلا إلى ما يصوره قلبه والقلب قد يهتدي وقد يضل وقد صنف صاحب " الفصوص " كتابا سماه " كتاب الهو " وزعم بعضهم أن قوله : { وما يعلم تأويله إلا الله } معناه وما يعلم تأويل هذا الاسم الذي هو " الهو ". فتأمل قوله, " لَمْ يَكُنْ الضَّمِيرُ عَائِدًا إلَّا إلَى مَا يُصَوِّرُهُ قَلْبُهُ وَالْقَلْبُ قَدْ يَهْتَدِي وَقَدْ يَضِلّ"، فليس كل قلب يوفق إلى معرفة الله بما بأسمائه وصفاته على الوجه الشرعي، وقد يتراءى له وهو ينادي بهذا النداء أو يسمع هاتفا يغره بأنه هو الله، أو ال(هو) الذي يخاطبه، كل ذلك بسبب الإخلال بشرط الكلام، واستعمال الضمير المبهم بلا عود، إلا إلى ما تصوره الذهن، وجال في الخاطر، وكيف لأعرف المعارف أن يعبر عنه بغير ما سمى به نفسه، بل يعبر عنه بالمبهمات؟ إلى أن قال رحمه الله ص233: "والمقصود هنا أن المشروع في ذكر الله سبحانه هو ذكره " بجملة تامة " وهو المسمى بالكلام والواحد منه بالكلمة وهو الذي ينفع القلوب ويحصل به الثواب والأجر والقرب إلى الله ومعرفته ومحبته وخشيته وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية . وأما الاقتصار على " الاسم المفرد " مظهرا أو مضمرا فلا أصل له فضلا عن أن يكون من ذكر الخاصة والعارفين بل هو وسيلة إلى أنواع من البدع والضلالات وذريعة إلى تصورات أحوال فاسدة من أحوال أهل الإلحاد وأهل الاتحاد كما قد بسط الكلام عليه في غير هذا الموضع" وقال أيضا ج10، ص565 "فثبت بما ذكرناه أن ذكر الاسم المجرد ليس مستحبا ; فضلا عن أن يكون هو ذكر الخاصة . وأبعد من ذلك ذكر " الاسم المضمر " وهو : " هو " . فإن هذا بنفسه لا يدل على معين وإنما هو بحسب ما يفسره من مذكور أو معلوم فيبقى معناه بحسب قصد المتكلم ونيته ; ولهذا قد يذكر به من يعتقد [ أن ] الحق الوجود المطلق . وقد يقول : " لا هو إلا هو " ويسري قلبه في " وحدة الوجود " ومذهب فرعون والإسماعيلية وزنادقة هؤلاء المتصوفة المتأخرين بحيث يكون قوله " هو " كقوله : " وجوده " . وقد يعني بقوله : " لا هو إلا هو " أي : أنه هو الوجود وأنه ما ثم خلق أصلا ، وأن الرب والعبد والحق والخلق شيء واحد . كما بينته من مذهب " الاتحادية " في غير هذا الموضع". فلإبهام ضمير الغائب وحاجته إلى العائد لم يسعف الصوفية وأهل الباطل استعمال الضمير ولو في جملة لينجوا من الابتداع فضلا عن إلحاد الملحدين، حتى وهم يقولون: يا هو يا من لا هو إلا هو، أو يقولون هو هو زاعمين أنهم يقصدون بذلك الله جل جلاله، فلربما استعمل المبتدعة الإجمال فقال هذه العبارة والضمير فيها يعود على ما أضمره في نفسه، لكن العبارة ب(لا إله إلا الله) لا يرتاب فيها مرتاب، لأنه لا إجمال فيها. الخلاصة: هذه الجملة ولو كانت على سبيل الدربة والمران ليست على سنن العرب في كلامها بل هي على سبيل أصحاب المجملات من حلولية واتحادية وفلاسفة، والواجب التعامل مع اللغة العربية على أنها شريان نابض بالمعاني النفيسة، والدرر الثمينة، فالنحو وسيلة لا غاية، وسيلة لتفهم الوحيين أولا، ولكلام العرب ثانيا، واستخدامه وسيلة يوقف على مكنونات وأسرار تبهر العربي الذي بعدت به الشقة بينه وبين لغته، وتغير نظرته للنحو من ذلك الكائن الجامد ذي القوالب المصنعة سلفا، إلى ذلك الدليل الساطع على حياة لغة العرب, لغة الوحيين. وأما هذه العبارة على سبيل الإلغاز فحالها كما جاءت في السؤال بين أمرين, إما هراء لا معنى له، وإما مجملة يمكن أن يستخدمها أصحاب الأهواء لخدمة أهوائهم، ولكي تكون هذه الجملة على سنن العرب لا بد من عود الضمير على مذكور أو معلوم في الذهن يمنع التصورات الباطلة، واطلاع العربي على شيء من أسرار لغته الحية يبصره بالفارق الدقيق بين معاني النحو التي عناها أهل التصنيف في العربية، وبين ما انتقده المتأثرون بفكر الغرب من تمارين جامدة كانت من أحد أسباب نقدهم للنحو العربي. والله أعلم.

الثلاثاء، 13 مارس 2018

نسبة القول بالقدر للحسن البصري رحمه الله:

نسبة القول بالقدر للحسن البصري رحمه الله:
لست من العلماء ولا من طلبة العلم الناصحين المخلصين، ولا أنا ممن له خبرة بالأسانيد، ولكن لما كثر الجدل حول مسألة الشكاية إلى السلطان ذكرت قصة الحسن البصري رحمه الله مع أيوب السختياني في تخويف أيوب له بالسلطان في مسألة القول بالقدر، ولما كتب الشيخ علي الشرفي الحذيفي مقاله الأخير في الذب عن الشيخ عبد الله البخاري والرد على الشيخ عبد الله الأحمد وعلى ناصر زكريا ذكر مسألة نسبة القدر للحسن رحمه الله وأحال فيها إلى كتب الحافظ الذهبي رحمه الله، وهذه خلاصة من مطالعة في ترجمة الحسن البصري رحمه الله في كتاب سير أعلام النبلاء.

فيقال:
المروي في مسألة نسبة القدر إلى الحسن عن السلف في الكتاب المذكور على أضر:
بالأول: مرويات تنسب له الخوض فيه يسيرا وتبرئه منه: ومنها الرواية التي فيها ذككر تخويفه بالسلطان, جاء في سير أعلام النبلاء طبعة مءسسة الرسالة ج4 ص579، 580:
حماد بن زيد ، عن أيوب ، قال : كذب على الحسن ضربان من الناس : قوم القدر رأيهم لينفقوه في الناس بالحسن ، وقوم في صدورهم شنآن وبغض للحسن . وأنا نازلته غير مرة في القدر حتى خوفته بالسلطان ، فقال : لا أعود فيه بعد اليوم . وقد أدركت الحسن - والله - وما يقوله . ا.ه رحمه الله.
الثانيي: مرويات مجملة: وهي مرويات تلت الرواية السابقة تلت ونصها من الكتاب المذكور:

قال الحمادان ، عن يونس قال : ما استخف الحسن شيء ما استخفه القدر .

حماد بن زيد ، أن أيوب وحميدا خوفا الحسن بالسلطان ، فقال لهما : ولا تريان ذاك ؟ قالا : لا . قال : لا أعود .

قال حماد : لا أعلم أحدا يستطيع أن يعيب الحسن إلا به .

وروى أبو معشر ، عن إبراهيم ، أن الحسن تكلم في القدر . رواه مغيرة بن مقسم ، عنه . ا.ه رحمه الله.

الثالث: ينسب للحسن رحمه الله الرجوع عن قوله في القدر, وهي رواية تلت المرويات المجملة السابقة، ونصها:
وقال سليمان التيمي : رجع الحسن عن قوله في القدر . ا.ه رحمه الله.
الرابع: مرويات فيها موافقة الحسن رحمه الله لعقيدة السلف في القدر: وهي مرويات عقبت رواية سليمان التيمي السابقة، ونصها:
حماد بن سلمة ، عن حميد ، سمعت الحسن يقول : خلق الله الشيطان ، وخلق الخير ، وخلق الشر . فقال رجل : قاتلهم الله ، يكذبون على هذا الشيخ .

أبو الأشهب : سمعت الحسن يقول في قوله : وحيل بينهم وبين ما يشتهون قال : حيل بينهم وبين الإيمان .

وقال حماد ، عن حميد ، قال : قرأت القرآن كله على الحسن ، ففسره لي أجمع على الإثبات ، فسألته عن قوله : كذلك سلكناه في قلوب المجرمين قال : الشرك سلكه الله في قلوبهم .
حماد بن زيد ، عن خالد الحذاء ، قال : سأل الرجل الحسن فقال : ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ؟ قال : أهل رحمته لا يختلفون ، ولذلك خلقهم ، خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره . فقلت : يا أبا سعيد ، آدم خلق للسماء أم للأرض ؟ قال : للأرض خلق . قلت : أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة ؟ قال : لم يكن بد من أن يأكل منها ; لأنه خلق للأرض . فقلت : ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صال الجحيم ؟ قال : نعم ، الشياطين لا يضلون إلا من أحب الله له أن يصلى الجحيم .

أبو هلال محمد بن سليم : دخلت على الحسن يوم الجمعة ولم يكن جمع ، فقلت : يا أبا سعيد ، أما جمعت ؟ قال : أردت ذلك ، ولكن منعني قضاء الله .

منصور بن زاذان : سألنا الحسن عن القرآن ، ففسره كله على الإثبات .

ضمرة بن ربيعة ، عن رجاء ، عن ابن عون ، عن الحسن ، قال : من كذب بالقدر فقد كفر . ا.ه رحمه الله.
الخامس: روايات تبرئ الحسن مما نحل عليه في القول بالقدر, ونص الرواية:
رجاء بن سلمة ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين - وقيل له في الحسن : وما كان ينحل إليه أهل القدر ؟ قال : كانوا يأتون الشيخ بكلام مجمل ، لو فسروه لهم لساءهم . ا.ه رحمه الله:
وفي رواية ص582، 583
وقال أبو سعيد بن الأعرابي : كان يجلس إلى الحسن طائفة من هؤلاء ، فيتكلم في الخصوص ، حتى نسبته القدرية إلى الجبر ، وتكلم في الاكتساب حتى نسبته السنة إلى القدر ; كل ذلك لافتنانه وتفاوت الناس عنده ، وتفاوتهم في الأخذ عنه ، وهو بريء من القدر ومن كل بدعة . ا.ه رحمه الله.
السادس: إشارة إلى سبب نسبة بعض الأقوال البدعية إلى الحسن رحمه الله: ويدخل فيها رواية أبي سعيد ابن الأعرابي السابقة، ورواية تقدمت الكلام عن نسبة القدر إليه في السير وهي أيضا عن أبي سعيد ابن الأعرابي أيضا، ونصها وما بعدها فيه بيان العلة، قال الذهبي رحمه الله في ص580:
وقال أبو سعيد بن الأعرابي في " طبقات النساك " : كان عامة من ذكرنا من النساك يأتون الحسن ، ويسمعون كلامه ، ويذعنون له بالفقه ، في هذه المعاني خاصة .

وكان عمرو بن عبيد ، وعبد الواحد بن زيد من الملازمين له ، وكان له مجلس خاص في منزله ، لا يكاد يتكلم فيه إلا في معاني الزهد والنسك وعلوم الباطن ، فإن سأله إنسان غيرها ، تبرم به وقال : إنما خلونا مع إخواننا نتذاكر .

فأما حلقته في المسجد فكان يمر فيها الحديث ، والفقه ، وعلم القرآن ، واللغة ، وسائر العلوم ; وكان ربما يسأل عن التصوف فيجيب ، وكان منهم من يصحبه للحديث ، ومنهم من يصحبه للقرآن والبيان ، ومنهم من يصحبه للبلاغة ، ومنهم من يصحبه للإخلاص وعلم الخصوص ، كعمرو بن عبيد وأبي جهير ، وعبد الواحد بن زيد ، وصالح المري ، وشميط ، وأبي عبيدة الناجي ; وكل واحد من هؤلاء اشتهر بحال - يعني في العبادة . ا.ه رحمه الله.
فعمرو بن عبيد من الطبقة الرابعة أشهر من أن يذكر في باب البدعة بالقدر قال الذهبي في ترجمته:

الزاهد ، العابد ، القدري ، كبير المعتزلة ، وأولهم ، أبو عثمان البصري. ا.ه رحمه الله.
وعبد الواحد بن زيد من السادسة قال فيه الذهبي: قلت : فارق عمرو بن عبيد لاعتزاله ، وقال بصحة الاكتساب ، وقد نسب إلى شيء من القدر ، ولم يشهر ; بل نصب نفسه للكلام في مذاهب النساك ، وتبعه خلق . وقد كان ثابت البناني ، ومالك بن دينار يعظان أيضا ، ولكنهما كانا من أهل السنة .

وكان عبد الواحد صاحب فنون ، داخلا في معاني المحبة والخصوص ، قد بقي عليه شيء من رؤية الاكتساب ، وفي ذلك شيء من أصول أهل القدر ، فإن عندهم : لا نجاة إلا بعمل . فأما أهل السنة فيحضون على الاجتهاد في العمل ، وليس به النجاة وحده دون رحمة الله .

وكان عبد الواحد لا يطلق : إن الله يضل العباد ، تنزيها له . وهذه بدعة . وفي الجملة ، عبد الواحد من كبار العباد ، والكمال عزيز . وقد سقت من أخباره في " تاريخ الإسلام " ولكن ابن عون ومسعرا وهؤلاء أرفع وأجل . ا.ه رحمه الله.
ويقال بعد هذا تعليقا على ما تقدم:
أصرح الروايات التي يفهم منها نسبة القدر للحسن رواية أيوب عنه، وهي وإن كان فيها ذكر تلبس الحسن رحمه الله بشيء من المقالات في القدر إلا أنها صريحة في كونها تنفي أنه على مذهب القدرية، ولكن لم يذكر لنا أيوب رحمه الله شيئا من تلك المقالات التي نازل فيها الحسن، ولكنه رحمه الله نفى كونه منسوبا إلى القدر، وأنه ترك القول بالقدر، وهي رواية أصرح من الروايات المجملة التي قد يفهم منها نسبة القول بالقدر بإطلاق للحسن رحمه الله.
ولعلها مقالات وقف عليها أيوب رحمه الله وكانت من أثر مجالسة بعض القدرية كعمرو بن عبيد وعبد الواحد بن زيد، وكان سببها كما ذكر ابن سيرين رحمه الله إيراد الألفاظ المجملة التي لو فصلوها لساءهم الحسن رحمه الله.وقد أثبت العلماء رحمهم الله توبة الحسن رحمه الله من مقالاته هذه، ووردت آثار في أنه كان يفسر النصوص الشرعية بإثبات القدر، وآثار من كلامه فيها موافقة عقيدة أهل السنة والجماعة في القدر.
ويبقى الاستدلال بهذه الواقعة في أمر الشكاية إلى السلطان، فيقال: إن أيوب رحمه الله نص على أنه نازله في مسألة القدر مرارا، وكانت هذه المرحلة الأولى، ثم بعد ذلك نص على أنه خوفه، وفي هذا من الفوائد:
--الصبر على من وقعت منه المخالفة من أهل السنة وعدم التعجل في إصدار الأحكام عليه.
--تكرار المناصحة مرة بعد مرة بالحجة والبرهان مع بيان الخطأ.
-- التدرج في الانتقال من أسلوب لآخر في علاج الخطأ.
--بدأ أيوب رحمه الله بمرحلة التخويف بالسلطان ولم يباشر ذلك, إذ إن المقصد هداية الخلق وعدم إعانة الشيطان عليهم، ولو فرض أن المخطئ من أهل السنة كابر وعاند مع استنفاد الوسائل المتاحة معه فحينئذ يكون رفع أمره إلى السلطان من باب أن آخر الدواء الكي، ولكي لا يفتتن به غيره.
وفي ختام المسألة هذا ختام كلام الذهبي رحمه الله على مسألة نسبة القول بالقدر للحسن رحمه الله حيث قال في ص584: قلت : وقد مر إثبات الحسن للأقدار من غير وجه عنه سوى حكاية أيوب عنه ، فلعلها هفوة منه ورجع عنها ولله الحمد .ا.ه رحمه الله.
فلا يصح بعد هذا نسبة القول القدر إليه بإطلاق، ولا يبقى في الاستدلال بعد هذا الكلام إلا استنباط العبرة من القصة مع تبرئة الإمام من مذهب القدرية فيما يلي: خطر مجالسة أهل الأهواء، ثبوت الصبر على من وقع في هفوة من أهل السنة عن السلف،اللجوء إلى السلطان يكون عند ترجح المصلحة بعد استنفاد الوسائل، وبذا تجتمع آراء العلماء في مسألة اللجوء إلى السلاطين.
والله أعلم.


الخميس، 22 فبراير 2018

بعض الأسرار البلاغية في كون قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} أبلغ من قول العرب (القتل أنفى للقتل):

من بلاغة القرآن:
--بعض الأسرار البلاغية في كون قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب} أبلغ من قول العرب (القتل أنفى للقتل):
يعترض العلمانيون تبعا لأسيادهم الغرب ومدعي حقوق الإنسان على شرعة القصاص وأنها وحشية ويتعامون عما يفعلونه هم من قتل بالكرسي الكهربائي الذي قد تصل الشحنة الكهربائية إلى مستويات عليا وكذلك القتل بالحقن السامة، وتجد أهل الجاهلية على انتكاس فطرتهم تفوقوا على أهل الحضارة المزعومة اليوم فقالوا: (القتل أنفى للقتل)، وقد اختلفت عبارة القرآن عن هذا المعنى, فقال الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} فتجد عبارة العرب قريبة الأخذ سهلة المتناول لا يأخذ الكلام عنها بضعة أسطر، بينما عبارة القرآن كلام الله أرقى وأبلغ على سهولة ألفاظها حوت معاني جليلة, ولذا قدم في الآية ما الأصل فيه التأخير، وأخر ما الأصل فيه التقديم، وأوجزت في الآية معان كثيرة جليلة في ألفاظ قليلة، وجاء من ألفاظ الآية ما تكمن بلاغته في كونه معرفة، وما بلاغته في كونه نكرة، ولا بد قبل الإشارة إلى بعض الأسرار من معرفة تفسير الآية عند السلف.
قال الطبري رحمه الله:

القول في تأويل قوله تعالى ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب )

قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " ، ولكم يا أولي العقول ، فيما فرضت عليكم وأوجبت لبعضكم على بعض ، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج ، ما منع به بعضكم من قتل بعض ، وقدع بعضكم عن بعض ، فحييتم بذلك ، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة .

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك .

فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه .

ذكر من قال ذلك : [ ص: 382 ]

2617 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " قال : نكال ، تناه .

2618 - حدثنا أبو كريب قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال : نكال ، تناه .

2619 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

2620 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد ، عن سعيد عن قتادة : " ولكم في القصاص حياة " ، جعل الله هذا القصاص حياة ، ونكالا وعظة لأهل السفه والجهل من الناس . وكم من رجل قد هم بداهية ، لولا مخافة القصاص لوقع بها ، ولكن الله حجز بالقصاص بعضهم عن بعض; وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة ، ولا نهى الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين ، والله أعلم بالذي يصلح خلقه .

2621 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر عن قتادة في قوله : " ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب " قال : قد جعل الله في القصاص حياة ، إذا ذكره الظالم المتعدي كف عن القتل .

2622 - حدثت عن عمار بن الحسن قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه عن الربيع قوله : " ولكم في القصاص حياة " الآية ، يقول : جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم . كم من رجل قد هم بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص .

2623 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال : نكال ، تناه . قال ابن جريج : حياة . منعة . [ ص: 383 ]

2624 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال : حياة ، بقية . إذا خاف هذا أن يقتل بي كف عني ، لعله يكون عدوا لي يريد قتلي ، فيذكر أن يقتل في القصاص ، فيخشى أن يقتل بي ، فيكف بالقصاص الذي خاف أن يقتل ، لولا ذلك قتل هذا .

2625 - حدثت عن يعلى بن عبيد قال : حدثنا إسماعيل ، عن أبي صالح في قوله : " ولكم في القصاص حياة " قال : بقاء .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره ، لأنه لا يقتل بالمقتول غير قاتله في حكم الله . وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر ، وبالعبد الحر .

ذكر من قال ذلك :

2626 - حدثني موسى بن هارون قال : حدثنا عمرو بن حماد قال : حدثنا أسباط عن السدي : " ولكم في القصاص حياة " يقول : بقاء ، لا يقتل إلا القاتل بجنايته .

وأما تأويل قوله : " يا أولي الألباب " ، فإنه : يا أولي العقول . " والألباب " جمع " اللب " ، و" اللب " العقل .

وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهل العقول ، لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه ، ويتدبرون آياته وحججه دون غيرهم .

وقال ابن كثير رحمه الله:
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

وقوله : ( ولكم في القصاص حياة ) يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل حكمة عظيمة لكم ، وهي بقاء المهج وصونها ; لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل انكف عن صنيعه ، فكان في ذلك حياة النفوس . وفي الكتب المتقدمة : القتل أنفى للقتل . فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح ، وأبلغ ، وأوجز .
( ولكم في القصاص حياة ) قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة ، فكم من رجل يريد أن يقتل ، فتمنعه مخافة أن يقتل .
وكذا روي عن مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي مالك ، والحسن ، وقتادة ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، ( يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) يقول : يا أولي العقول والأفهام والنهى ، لعلكم تنزجرون فتتركون محارم الله ومآثمه ، والتقوى : اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات .


وقال ابن عرفة في تفسيره (1/225):
ابن عرفة : فيه دليل لاهل السنة القائلين بأن لا حسن ولا قبح لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بتعداد هذه النعم ، فدلّ على أنها تفضل من الله تعالى ، ولو كان القصاص واجبا في ( العقل ) لما حسن كونه نعمة ، ولما صح الإتيان به لأن ذلك تحصيل الحاصل .
قال الأصوليون والبيانيون : وهذه أبلغ من قول العرب القتل أنفى للقتل .
وقدره ابن مالك في المصباح بأربعة أوجه :
أحدهما : أن حروفها عشرة ، وأسقط منها الياء من في ( وألف ) الوصل من « القِصَاصِ » لسقوطها في النطق وفي التفعيل أعني الأوزان ( الشعرية ) ، وحروف « القتل أنفى للقتل » أربعة عشر .
الثاني : تنافر الحروف في المثل وتناسبها في الآية .
الثالث : لفظ الحياة محبوب ، فالتصريح باسمها أولى من الكناية عنه بنفي القتل .
الرابع : صحة معناه لأن تنكير الحياة يفيد إما حياة عظيمة أو نوعا من الحياة إشارة لحسنه وغرابته ، بخلاف المثل فإن معناه غير صحيح وحقيقته غير مرادة .
قال ابن عرفة : ويظهر لي بيان الرّابع إما بأن القتل في المثل ( مطلق ) ( يتناول ) القتل عدوانا مع أنه غير مراد والآية صريحة في نفي ذلك .
قال ( ابن عرفة ) : والآية أصوب من وجه آخر وهو أنها تقتضي المساواة في جميع الوجوه بخلاف المثل فليس فيه تنصيص على المساواة .
وذكر ( الطبري ) في تأليفه في البيان والجعبري في شرح الشاطبية الصغرى أنّ الآية تفضله من وجوه : أحدها : ( إيهامه ) التناقض لمنافاة الشيء لنفسه أو العموم فيكون القتل ظلما أنفى للقتل قصاصا والمراد العكس بخلاف الآية فإنّها صريحة في معناها من غير احتمال ( شيء ) .
الثاني : عدول الآية عن التكرار وعن الإضمار ، بخلاف المثل لأن تقديره كراهية القتل أنفى للقتل .
الثالث : سلامة ألفاظها عما يوحش السامع ، وتخصيصها بالحياة المرغوب فيها وبعدها عن تكرار ( قَلْقَلة ) القَافِ للضَغط والشدة وتخصيصها بتكرار الصاد المستجلب ( باستعلائها ) وإطباقها مع الصفير للفصاحة .
الرابع : فيها الطباق المعنوي بين القصاص والحياة .
قلت : وزاد بعضهم عن القاضي ابن عبد السلام أن الآية أعجب لاقتضائها أنّ الموت سبب في الحياة ولأن دلالة القصاص على الحياة مطابقة ودلالة القتل عليها باللزوم .


وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ج14 ص80:
ولفظ القصاص يدل على المعادلة والمساواة فيدل على أن الله أوجب العدل والإنصاف في أمر القتلى فمن قتل غير قاتله فهو ظالم والمقتول وأولياؤه إذا امتنعوا من إنصاف أولياء المقتول فهم ظالمون هؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل وهؤلاء خارجون عما أوجبه الله من العدل .

وقال ابن القيم فيمفتاح دار السعادة ج2، ص253، 254:
وفي ضمن هذا الخطاب ما هو كالجواب لسؤال مقدر أن إعدام هذه البنية الشريفة وإيلام هذه النفس وإعدامها في مقابلة إعدام المقتول تكثير لمفسدة القتل فلأية حكمة صدر هذا ممن وسعت رحمته كل شيء وبهرت حكمته العقول فتضمن الخطاب جواب ذلك بقوله تعالى ولكم في القصاص حياة وذلك لأن القاتل إذا توهم أنه يقتل قصاصا بمن قتله كف عن القتل وارتدع وآثر حب حياته ونفسه فكان فيه حياة له ولمن أراد قتله ومن وجه آخر وهو أنهم كانوا إذا قتل الرجل من عشيرتهم وقبيلتهم قتلوا به كل من وجدوه من عشيرة القاتل وحيه وقبيلته وكان في ذلك من الفساد والهلاك ما يعم ضرره وتشتد مؤنته فشرع الله تعالى القصاص وأن لا يقتل بالمقتول غير قاتله ففي ذلك حياة عشيرته وحيه وأقاربه ولم تكن الحياة في القصاص من حيث أنه قتل بل من حيث كونه قصاصا يؤخذ القاتل وحده بالمقتول لا غيره فتضمن القصاص الحياة في الوجهين وتأمل ما تحت هذه الألفاظ الشريفة من الجلالة والإيجاز والبلاغة والفصاحة والمعنى العظيم فصدر الآية بقوله لكم المؤذن بأن منفعة القصاص مختصة بكم عائدة إليكم فشرعه إنما كان رحمة بكم وإحسانا إليكم فمنفعته ومصلحته لكم لا لمن لا يبلغ العباد ضره ونفعه ثم عقبه بقوله في القصاص إيذانا بأن الحياة الحاصلة إنما هي في العدل وهو أن يفعل به كما فعل والقصاص في اللغة المماثلة وحقيقته راجعة إلى الاتباع ومنه قوله تعالى وقالت لأخته قصيه أي اتبعي أثره ومنه قوله فارتدا على آثارهما قصصا أي يقصان الأثر ويتبعانه ومنه قص الحديث واقتصاصه لأنه يتبع بعضه بعضا في الذكر فسمى جزاء الجاني قصاصا لأنه يتبع أثره فيفعل به كما فعل وهذا أحد ما يستدل به على أن يفعل بالجاني كما فعل فيقتل بمثل ما قتل به لتحقيق معنى القصاص
.......... ونكر سبحانه الحياة تعظيما وتفخيما لشأنها وليس المراد حياة ما بل المعنى أن في القصاص حصول هذه الحقيقة المحبوبة للنفوس المؤثرة عندها المستحسنة في كل عقل والتنكير كثيرا ما يجيء للتعظيم والتفخيم كقوله وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة وقوله ورضوان من الله أكبر وقوله أن هو إلا وحي يوحى ثم خص أولى الألباب وهم أولو العقول التي عقلت عن الله أمره ونهيه وحكمته إذ هم المنتفعون بالخطاب ووازن بين هذه الكلمات وبين قولهم القتل أنفى للقتل ليتبين مقدار التفاوت وعظمة القرآن وجلالته


مما سبق يمكن معرفة بلاغة الآية كما يلي: عبارة العرب بلفظة القتل تتلائم مع بيئتهم ومعيشتهم في ذلك الوقت, إذ كانوا أهل حروب إما للثأر وإما من أجل أسباب لا تستدعي إراقة دماء، أما عبارة القرآن بالقصاص فيفهم منها أن القتل ليس شهوة أو مغامرة بل لما انتكست فطرة المقتص منه فأجرم كان جزاءه أن يذوق من نفس الكأس التي سقى منها غيره كما يقولون فكان هذا القصاص جزاء له وهذا قمة العدل وهذه المعاني غابت عن عبارة العرب إذ فيها عموم وإبهام بخلاف عبارة القرآن ففيها ففيها حدود لا يمكن أن يجاوزها المقتص {ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل أنه كان منصورا} وهذا كله داخل في معنى لفظة قصاص، وفيها عدل بالمقتص منه فإنه لا ينال منه إلا بقدر ما نال من غيره، وهذا ليس في عبارة العرب، كل هذا مستفاد من لفظة القصاص المعرفة بالألف واللام، فأين الوحشية في هذا؟! ولما كان كثير من الناس يغتر بظواهر الأمور ولا يعمل الفكر فيتساءل كيف يكون علاج أزهاق النفس بإزهاق نفس أخرى جاء النداء للفت الانتباه أنه لا يفطن لذلك إلا أولو العقول السليمة، وقد صدرت الآية بشبه الجملة بلام الجر الداخلة على كاف الخطاب ومعها ميم الجمع وشبه الجملة متعلق بخبر مقدم محذوف وقد كان النداء مفصلا لما أجمل في كاف الخطاب وميم الجمع لأن السامع حين يقف عند كلمة (حياة) قد يغشاه حالة من الدهشة أو العجب وسيقع في حيرة, كيف يكون القتل حياة، ومن في قلبه مرض سيهيم في أوحال من الشك فاستدعى النداء الانتباه لتحريك العقل للوقوف على شيء من الحكمة في كون القصاص حياة، وفي تقديم شبه الجملى المتعلق بالخبر المقدم المحذوف بيان لمزية أصحاب العقول السليمة من المؤمنين وتفضيل لهم على غيرهم وتأمل في التوافق بين تعريف القصاص وبين تنكير لفظة الحياة فتعريف لفظة القصاص أفاد بيان علة القصاص وكيفيته وأنه من باب العدل وقد تقدم، ومن قال بأن أل هنا جنسية فقد راعى هذه المعاني في كل قصاص شرع وإن جاءت هذه الآية تالية لبيان حكم القصاص في القتلى، أما تنكير لفظة الحياة فقد أكسبها هذا التنكير مزايا, منها تأخرها وحقها التقديم، ومنها إفادة العموم، فأما تقدمها وحقها التقديم حيث تعرب مبتدأ مؤخرا والمبتدأ حقه الصدارة في الكلام ففيه سر بديع، فالأصل تقدم المبتدأ وتأخر الخبر، والخبر إفادة أمر عن المخبر عنه، لكن لما تقدم شبه الجملة لكم لما تقدم ذكره من بيان مزية أهل العقول السليمة كان من فائدة تأخر المبتدأ {حياة} إفادة مزية وعطية لتلقيهم لشرعة القصاص والعمل بها وهي تنعمهم بهذه الحياة، وأم إفادة العموم من التنكير في لفظة الحياة ففيه إذهاب لتوهم العهدية من التعريف وعمومها يشمل المنفعة التي تحل على الجميع، أهل الجاني، أهل المجني عليه، المقيم للقصاص، المجتمع بأسره, ولذا فسر بعض السلف هذه اللفظة بالبقاء كما مر في تفسير ابن جرير الطبري رحمه الله، وبعضهم بمنع القتل، وهذا المعنى لا يتأتى مع التعريف، وأصل الكلام إن قدر في غير القرآن حياة كائنة لكم في القصاص، ولا يقوم مقام الآية أن يقال القصاص لكم حياة فإنه يضيع كثيرا مما مضى ذكره, ففيها تخصيص المخاطبين فقط بأن القصاص لهم حياة، وهو سياق إخباري إما ابتدائي يفيد المخاطب ما لم يكن يعرف أو هو سياق خبري يقصد به الإرشاد، وبقية المعاني تغيب، ولئن كان الجار والمجرور متعلق بخبر محذوف فما شأن الجار والمجرور {في القصاص} وما السر في دخول حرف الجر في على لفظة القصاص؟ قال المرادي في الجنى الداني أن من معاني في الظرفية والظرفية في أيسر عبارى هو كون شيء داخل شيء، والظرفية كما قال حقيقية ومجازية، أي: إما حسية، وإما معنوية، ومن أمثلة الظرفية المعنوية عنده قول الله تعالى: {ولكم في القصاص حياة} أي أن شرعة القصاص تتضمن حياة وإبقاء، ولكن القصاص إتباع لجرم بالعقوبة والحياة موجودة قبله ومستمرة بعده بناء على ما تضمنه تنكير الحياة من العموم والتعظيم، وهو وسيلة لإبقائها والحفاظ عليها فهل ينسجم هذا مع الظرفية؟ ولعل الجواب أن يقال إن الجار والمجرور أيضا متعلقان بالخبر المقدم المحذوف لإبقاء لفظة الحياة على عمومها غير مقيدة وهذا ما يفيده تقديم شبهي الجملة {ولكم في القصاص}، ثم إن من معاني الآية الجليلة مقصدان, الامتنان، والدعوة للتفكر، ويجلو الامتنان في كون تشريع القصاص من النعم التي تتحقق بها
مصالح العباد، فظاهره إيلام للمقتص منه وباطنه رحمة ومصالح بالعباد بحيث يكون وسيلة في إبقاء الحياة، فالظرفية تكمن في كون القصاص منة باحتواء القصاص على ما يكون وسيلة في إبقاء الحياة لا في كون القصاص يحتوي على الحياة ذاتها، وكأن المعنى أن الله شرع لكم بمنه ما فيه مصالح ورحمة بكم للإبقاء على حياتكم ومنها القصاص، فلخص حرف الجر في بدلالته على الظرفية هذه المعاني على أن الظرفية تكمن في احتواء القصاص على النعم والمصالح التي هي وسيلة في إبقاء الحياة والحفاظ عليها بإذن الله، هذا في مقصد الامتنان، وأما التفكر فإنه يتعدى بحرف الجر في، وهو يقتضي إعمال الفكر في الأمر بحيث يستحوذ الأمر المتفكر فيه على عقل المتفكر، فكأن الفكرة أو الأمر المتفكر فيه صار هو الظرف وذهن المتفكر هو المظروف، ولما كانت الدهشة والعجب تحصل من الطباق المعنوي كما قال ابن عرفة رحمه الله بين الحياة التي هي أمر محبوب وبين القصاص الذي هو في ظاهره إيلام وقد يصل إلى الإتلاف نبه الله على ذلك بذكر أولي الألباب، وتأخر ذكر أسلوب النداء النداء لما يحدثه أسلوب التفصيل بعد الإجمال من التشويق، وتنبيها على أن النقل مقدم على العقل ولو لم تعلم منه الحكمة، فبعد أن بين سبحانه الحكم نبه إلى أن العقول السليمة تقر بهذا، وتأخير ذكر العقل على النقل يفيد قصور العقل فقد يخفى عليه كثير من حكم الشريعة الجليلة فالأصل الرضى والتسليم، وهذه المعاني الجليلة لا توجد في قول العرب, (القتل أنفى للقتل).
والله أعلم.

الأحد، 4 فبراير 2018

الألقاب بين قواعد السلف وبين التوظيف للمواقف:

الألقاب بين قواعد السلف وبين التوظيف للمواقف:
إن من أعجب العجب أن يغرد من يغرد في تويتر أو ينشر من ينشر على مواقع الإنترنت وبالأخص على مواقع التواصل الاجتماعي في معرض انتقاص الشيخ #محمد_بن_هادي فيقول: في هذا الزمن لا يوجد حافظ، الحافظ من يحفظ مئة ألف حديث، فيجعل من العدد شرطا يحكم به على من يوصف بالحافظ عند السلف، مع أن الشيخ محمدا لمما ينهى عن المديح، ولا يرضاه، وكم نهى عنه، وفي الوقت ذاته ينتقد هذا القائل فتوى الشيخ محمد بن هادي بأن لقب إمام أهل السنة والجماعة لا يمكن أن يوصف به في عصورنا هذه إلا مقيدا فيقال: (إمام أهل السنة والجماعة في زمانه)، مع جريان عمل أئمة السلف على هذا، فيا ترى، ما سر هذا التضارب بين نفيه لصفة الحافظ عن الشيخ بحجة اشتراط السلف للعدد المذكور، وبين الإنكار على فتوى الشيخ في الوصف المقيد للقب أهل السنة والجماعة؟ مع علم هذا القائل بنهي الشيخ عن المديح وأنه ما قيد وصف إمام أهل السنة بالعصر أو الزمن إلا على عمل أئمة السلف على مر العصور؟ وهل ميزانه مع هذين اللقبين واحد؟
فأما استعمال لفظة حافظ فيقال عنها , إن لهذه الكلمة إطلاقان, إطلاق لغوي، وإطلاق عرفي، جاء في لسان العرب: الأزهري : رجل حافظ وقوم حفاظ وهم الذين رزقوا حفظ ما سمعوا وقلما ينسون شيئا يعونه . ا.ه رحمه الله.
وأما الإطلاق العرفي فهو عند المحدثين، وله استعمالان, استعمال في ضبط الراوي، واستعمال في رتبة من مراتب المحدثين.
ومن الاستعمال الأول ما ذكره الترمذي رحمه الله باب ما جاء أن للنار نفسين، ح 2719حيث قال في آخره: هذا حديثٌ حسن صحيحٌ. وقَد رُوِيَ عن أَبي هُرَيْرَةَ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ. وَالمُفَضّلُ بنُ صَالِحٍ لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ بِذَاِكَ الْحَافِظِ. ا.ه رحمه الله.
وأما عن استعمال لفظة الحافظ في مراتب المحدثين،  فلها إطلاقان, إطلاق عام، وإطلاق خاص، وقد ورد تفصيل لها في تدريب الراوي للسيوطي رحمه الله، ومما يستفاد من هذه الآثار ومما أورده السيوطي رحمه الله أنه لا يشترط عدد معين وإنما العرف في كل زمان يحدد من يتصف بالحافظ، جاء في تدريب الراوي للسيوطي ص37 إلى 39: وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يُطْلِقُونَ الْمُحَدِّثَ وَالْحَافِظَ بِمَعْنًى، كَمَا رَوَى أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي شَيْبَةَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ إِمْلَاءً لَمْ يُعَدَّ صَاحِبَ حَدِيثٍ.
وَفِي الْكَامِلِ لِابْنِ عَدِيٍّ مِنْ جِهَةِ النُّفَيْلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ هُشَيْمًا يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَحْفَظِ الْحَدِيثَ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْحَافِظَ أَخَصُّ، ..........................
وَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ السُّبْكِيُّ: إِنَّهُ سَأَلَ الْحَافِظَ جَمَالَ الدِّينِ الْمِزِّيَّ عَنْ حَدِّ الْحِفْظِ الَّذِي إِذَا انْتَهَى إِلَيْهِ الرَّجُلُ جَازَ أَنْ يُطْلَقَ عَلَيْهِ الْحَافِظُ؟ قَالَ: يُرْجَعُ إِلَى أَهْلِ الْعُرْفِ، فَقُلْتُ: وَأَيْنَ أَهْلُ الْعُرْفِ؟ قَلِيلٌ جِدًّا، قَالَ: أَقَلُّ مَا يَكُونُ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُ تَرَاجِمَهُمْ وَأَحْوَالَهُمْ وَبُلْدَانَهُمْ أَكْثَرَ مِنَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُهُمْ، لِيَكُونَ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ، فَقُلْتُ لَهُ هَذَا عَزِيزٌ فِي هَذَا الزَّمَانِ، أَدْرَكْتَ أَنْتَ أَحَدًا كَذَلِكَ؟ فَقَالَ: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ الشَّيْخِ شَرَفِ الدِّينِ الدِّمْيَاطِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ كَانَ لَهُ فِي هَذَا مُشَارَكَةٌ جَيِّدَةٌ، وَلَكِنْ أَيْنَ الثَّرَى مِنَ الثُّرَى، فَقُلْتُ: كَانَ يَصِلُ إِلَى هَذَا الْحَدِّ؟ قَالَ: مَا هُوَ إِلَّا كَانَ يُشَارِكُ مُشَارَكَةً جَيِّدَةً فِي هَذَا، أَعْنِي فِي الْأَسَانِيدِ، وَكَانَ فِي الْمُتُونِ أَكْثَرَ لِأَجْلِ الْفِقْهِ وَالْأُصُولِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ فَتْحُ الدِّينِ بْنُ سَيِّدِ النَّاسِ: وَأَمَّا الْمُحَدِّثُ فِي عَصْرِنَا فَهُوَ:
مَنِ اشْتَغَلَ بِالْحَدِيثِ رِوَايَةً وَدِرَايَةً، وَجَمَعَ رُوَاةً، وَاطَّلَعَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الرُّوَاةِ وَالرِّوَايَاتِ فِي عَصْرِهِ، (وَتَمَيَّزَ فِي ذَلِكَ حَتَّى عُرِفَ فِيهِ حِفْظُهُ) وَاشْتُهِرَ فِيهِ ضَبْطُهُ، فَإِنْ تَوَسَّعَ فِي ذَلِكَ حَتَّى عَرَفَ شُيُوخَهُ، وَشُيُوخَ شُيُوخِهِ، طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، بِحَيْثُ يَكُونُ مَا يَعْرِفُهُ مِنْ كُلِّ طَبَقَةٍ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْهَلُهُ مِنْهَا فَهَذَا هُوَ الْحَافِظُ، وَأَمَّا مَا يُحْكَى عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ: كُنَّا لَا نَعُدُّ صَاحِبَ حَدِيثٍ مَنْ لَمْ يَكْتُبْ عِشْرِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ فِي الْإِمْلَاءِ، فَذَلِكَ بِحَسَبِ أَزْمِنَتِهِمْ. انْتَهَى.
وَسَأَلَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْفَضْلِ بْنُ حَجَرٍ شَيْخَهُ أَبَا الْفَضْلِ الْعِرَاقِيَّ فَقَالَ: مَا يَقُولُ سَيِّدِي فِي الْحَدِّ الَّذِي إِذَا بَلَغَهُ الطَّالِبُ فِي هَذَا الزَّمَانِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُسَمَّى حَافِظًا؟ وَهَلْ يُتَسَامَحُ بِنَقْصِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمِزِّيُّ وَأَبُو الْفَتْحِ فِي ذَلِكَ لِنَقْصِ زَمَانِهِ أَمْ لَا؟
فَأَجَابَ: الِاجْتِهَادُ فِي ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي وَقْتٍ بِبُلُوغِ بَعْضِهِمْ لِلْحِفْظِ وَغَلَبَتِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ، وَبِاخْتِلَافِ مَنْ يَكُونُ كَثِيرَ الْمُخَالَطَةِ لِلَّذِي يَصِفُهُ بِذَلِكَ. وَكَلَامُ الْمِزِّيُّ فِيهِ ضَيِّقٌ، بِحَيْثُ لَمْ يُسَمِّ مِمَّنْ رَآهُ بِهَذَا الْوَصْفِ إِلَّا الدِّمْيَاطِيَّ، وَأَمَّا كَلَامُ أَبِي الْفَتْحِ فَهُوَ أَسْهَلُ، بِأَنْ يَنْشَطَ بَعْدَ مَعْرِفَةِ شُيُوخِهِ إِلَى شُيُوخِ شُيُوخِهِ، وَمَا فَوْقُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْحُفَّاظِ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانَ شُيُوخُهُمُ التَّابِعِينَ أَوْ أَتْبَاعَ التَّابِعِينَ، وَشُيُوخُ شُيُوخِهِمُ الصَّحَابَةَ أَوِ التَّابِعِينَ، فَكَانَ الْأَمْرُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَسْهَلَ بِاعْتِبَارِ تَأَخُّرِ الزَّمَانِ، فَإِنِ اكْتَفَى بِكَوْنِ الْحَافِظِ يَعْرِفُ شُيُوخَهُ وَشُيُوخَ شُيُوخِهِ، أَوْ طَبَقَةً أُخْرَى، فَهُوَ سَهْلٌ لِمَنْ جَعَلَ فَنَّهُ ذَلِكَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ حِفْظِ الْمُتُونِ وَالْأَسَانِيدِ، وَمَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ عُلُومِ الْحَدِيثِ كُلِّهَا، وَمَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ مِنَ السَّقِيمِ، وَالْمَعْمُولِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَاسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى فَرَاغٍ وَطُولِ عُمُرٍ، وَانْتِفَاءِ الْمَوَانِعِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يُولَدُ الْحَافِظُ إِلَّا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
فَإِنْ صَحَّ كَانَ الْمُرَادُ رُتْبَةَ الْكَمَالِ فِي الْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ، وَإِنْ وُجِدَ فِي زَمَانِهِ مَنْ يُوصَفُ بِالْحِفْظِ. وَكَمْ مِنْ حَافِظٍ غَيْرُهُ أَحْفَظُ مِنْهُ. انْتَهَى.
وَمِنْ أَلْفَاظِ النَّاسِ فِي مَعْنَى الْحِفْظِ، قَالَ ابْنُ مَهْدِيٍّ: الْحِفْظُ: الْإِتْقَانُ، وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ: الْإِتْقَانُ أَكْثَرُ مِنْ حِفْظِ السَّرْدِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: الْحِفْظُ: الْمَعْرِفَةُ. انتهى من تدريب الراوي.
فيتلخص من هذا المنقول أمور:
--الحافظ رتبة عالية لمن كان مبرزا في الحديث رواية ودراية بحيث يكون ما يغيب عنه في الجملة أقل مما يعيه.
--خضع لقب الحافظ لعرف المشتغلين بالحديث عبر العصور بنص الأئمة أنفسهم في النقل المتقدم على هذا، وذلك تبعا لاجتهاد كل أهل عصر في تحصيل علم الحديث، وعليه فتحمل الآثار المذكور فيها العدد على اجتهاد أهل كل عصر، وليس العدد شرطا في المحدث أو الحافظ، وتطبيق معايير زمن متقدم على زمن تأخر عنه قد يكون فيها إغضاء من المتقدم ورفع للمتأخر إلى رتبة المتقدم، وجرى عمل أهل العلم على توقير من تقدم من الأئمة لعلمه وسبقه، وكذلك على قدر المتأخر من الأئمة حق قدره بعلمه وحسن تأليفه وسبره.
--مع أن رتبة الحافظ عند أهل العلم رتبة عالية، إلا أنه وجد في مفهومها اختلاف, فمنهم من فهم العلماء من كلامه مساواته بين المحدث والحافظ، ومنهم من فرق.
--مع نص الأئمة على التباين بين كل عصر مع الذي سبقه وضعوا ضوابط ثابتة تواطأت عباراتهم حولها فلا بد أن يتصف الحافظ بها، وقد مضى شيء منها وسيأتي نقل كلام الحافظ ابن حجر فيها.
فانظر يا رعاك الله إلى فطنة أئمة السلف وكيف وصل بهم السبر إلى معرفة ما هو ثابت وما يخضع للتغيير بحسب عرف أهل الزمان.
فتبين أن لعلماء الحديث استعمالان للفظة حافظ, استعمال في ضبط الراوي، واستعمال في مرتبة من مراتب المحدثين، يتضح هذا فيما ذكره الحافظ ابن حجر في النكت على مقدمة ابن الصلاح بتحقيق الشيخ ربيع بن هادي حفظه الله فقد جاء تحت عنوان, [تعذر التصحيح في هذه الأعصار بمجرد اعتبار الأسانيد في نظر ابن الصلاح:] ج1 ص266 من كلام ابن الصلاح رحمه الله  ما نصه: 20- قوله (ص) : (فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريًّا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان فآل الأمر إذن في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة ... إلى آخر كلامه. ا.ه رحمه الله.
فعلق الحافظ ابن حجر قائلا ص268: هذا إن أراد المصنف بالحفظ حفظ ما يحدث به الراوي بعينه، وإن أراد أن الراوي شرطه أن يعد حافظا، فللحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا.

... 1- وهو الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف.
2- والمعرفة بطبقات الرواة ومراتبهم.
3- والمعرفة بالتجريح والتعديل، وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك أكثر مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون.
فهذه الشروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظا.
ولم يجعله أحد من أئمة الحديث شرطا للحديث الصحيح.
نعم والمصنف لما ذكر حد الصحيح لم يتعرض للحفظ أصلا، فما باله يشعر هنا بمشروطيته.
ومما يدل على أنه إنما أراد حفظ ما يحدث به بعينه أنه قابل به من اعتمد على ما في كتابه، فدل على أنه يعيب من حدث من كتابه ويصوب من حدث عن ظهر قلبه. ا.ه رحمه الله.
فتلخص من النقل السابق أمران:
--النص على الشروط الثابتة الواجب توفرها فيمن يلقب بالحافظ عبر العصور وليس منها اشتراط العدد.
--وجود الاستعمالين للفظة حافظ عند علماء الحديث في الضبط وفي رتبة من رتب الحديث.
وللشيخ الألباني رأي في المسألة حيث سئل في الشريط الثامن من سلسلة الهدى والنور حيث جاء فيه: قال السائل :

وصفكم بعض أهل العلم في مكة المكرمة بقوله الحافظ الألباني فعندما سؤل عن ذلك قال أنّك –أي الألباني –وقفتَ على ما لم يقف عليه مَن قبلك من أهل العلم وأيّد ذلك بقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمته لشيخه العراقي"انباء الغَمر بأنّ الحفظ المعرفة" ووقفتَ أنت وعرفتَ من المتون والأسانيد ما يزيد على ذلك فما رأيكم؟

جواب الشيخ :

على كل حال،

أولا : لاأرضى بهذا اللقب .

ثانيا: تعود القضية إلى المعنى المصطلح عليه الذي تذكره الآن أنت عن الحافظ ابن حجر مع شيخه العراقي ،هذا اصطلاح خاص ليس على الإصطلاح العام المفهوم في كتب المصطلح أنّ الحافظ الذي يحفظ كذا ألف حديث ما أذكر العدد بالضبط – مئة ألف حديث –هذا الإصطلاح العام إما أن يقول هو الإطلاع على ما لم يطّلع عليه الآخرون والمعرفةأيضا هذا يكون اصطلاحا خاصا وأنا على كل حال أتبرأ من أن يصفني أحد بهذه الصفة سواءا بالمعنى الإصطلاحي العام أو بهذا المعنى الخاص إنّما أنا كما أقول دائما وأبدا طالب علم أجتهد أن أطلّع بقدر ما أستطيع ا.ه.
وسواء أكان العدد مشترطا في الإطلاق العام أم كان مما يختلف من عصر لآخر فتنزيل اصطلاح المحدثين
وخلاصة القول: إذا كان هذا القائل أو الكاتب استعمل قواعد السلف في إنكار وجود حافظ في هذا الزمن على ما اشترطه السلف، فكان يلزمه أمران, إما إثبات غلط القول بأن غالب عادة السلف استعمال لقب (إمام أهل السنة والجماعة) مقيدا بالعصر أو الزمن، وإما السير على نهج الأئمة, فيما إطلقوه وقيدوه واشترطوا له شروطه، وإما أن يفسر تضارب مواقفه في إعمال قواعد السلف، والله أعلم.

السبت، 2 سبتمبر 2017

معنى ضمان التبعات عمن حظي بفضل الوقوف بعرفات:

معنى ضمان التبعات عمن حظي بفضل الوقوف بعرفات: يقول العلماء: حقوق الله عز وجل مبنية في الأصل على المسامحة والعفو إذا تاب الإنسان من تضييعها من باب أولى، ومن لم يتب يطلق عليه العلماء بما دلت عليه نصوص الشرع معرض للوعيد، أو معلق بالمشيئة, إن شاء الله عذبه، وإن شاء تاب عليه، وأما حقوق العباد، فمبنية على المطالبة والمُشاحَّة، ولا تسقط ولا تبرأ الذمة إلا بأدائها، ومما ورد في فضل الوقوف بعرفة والإفاضة إلى المشعر الحرام أن الله يضمن التبعاتعمن وقف بها، فما معنى التبعات المضمونة؟ هل هي في حق الله عز وجل؟ أم في حقوق العباد المبنية على المطالبة والمشاحة؟ ولا شك أن الأمرين كليهما مما لا ينبغي أن يفرط فيهما عاقل فضلا عن أن يكون مؤمنا أواها منيبا، فإن كانت في حق الله عز وجل، ففي الحديث, {رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه}، وطمع المؤمن الذي يتعبد لله على المحبة والخوف والرجاء جميعا في رحمة ربه عظيم، لكن، ماذا لو كانت التبعات المضمونة عن الواقف بعرفة والمفيض للمشعر الحرام حقوق العباد التي عليه، وهي كما علمت مبنية على المطالبة والمشاحة, لا يكاد العباد يسامحون فيها، وبالذات في شدة ذلك الموقف الذي تكون فيه المحاسبة على الحسنات والسيئات، ماذا لو جاءك خصومك يطالبونك بين يدي الله بما لهم عليك، حتى إذا أيقنت بذهاب حسناتك, بعضها أو كلها، حتى إذا فزعت إن فنيت حسناتك أن تطرح سيئات على سيئاتك، أرضى الله خصومك فلم تؤاخذ بما لهم عليك؟ لن تعرف شدة تلك الفرحة بعد ذلك الضيق الذي كدت ترى فيه حسناتك تذهب، أو سيئات تضاف إليك إلا إذا عاينت تلك الفرحة، والسبب حسنة سبقت لك من الله أن أقامك في عرفات حاجا، وأفضت منها مغفورا لك، ولك أن تقرن هذه البشارة العظيمة لو ثبتت بصعوبة الوصول إلى الحج في وقتنا الحاضر، ولا يعرف قيمة الحرمان إلا من عاش بين شوق وطمع في الحج وفي تلك البشارة، وبين صعوبة ظروف الحج في أيامنا هذه، وإذا ما كنت مؤمنا بأن أمرك كله مبني على التوفيق من الله وإن امتنعت عنك الأسباب، حينها ينفتح لك بإذن الله باب الرغبة والرجاء، مع ذلك الحزن الذي ينتابك كل عام قد لا تحيى عاما بعده فتدرك هذه البشارة، في صَحِيحُ مُسْلِمٍ >> كتاب الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ >> بَابُ الْعَزْمِ بِالدُّعَاءِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ وفي صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ >> كِتَابُ الجِهَادِ وَالسِّيَرِ >> بَابُ دَرَجَاتِ المُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ ، وَأَقَامَ الصَّلاَةَ ، وَصَامَ رَمَضَانَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ ، جَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ جَلَسَ فِي أَرْضِهِ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا " ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَفَلاَ نُبَشِّرُ النَّاسَ ؟ قَالَ : " إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ ، فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَى الجَنَّةِ - أُرَاهُ - فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ " قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ ، عَنْ أَبِيهِ : وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ * نعم، سقف الطمع فيما عند الله مرفوهع، فإن الله عز وجل لا يتعاظمه شيء أعطاه، ولعل الله يبلغنا بنياتنا ما عجزنا عن العمل به، في يوم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عما يكون فيه حين يقضى بين العباد فيما بينهم, ففي صَحِيحُ مُسْلِمٍ >> كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ >> بَابُ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ ؟ " قَالُوا : الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ ، فَقَالَ : " إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ ، وَصِيَامٍ ، وَزَكَاةٍ ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا ، وَقَذَفَ هَذَا ، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا ، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا ، وَضَرَبَ هَذَا ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ . يكون هذا حال الأقربين والأبعدين فيما بينهم، حينها لا بد من أن نقدر تلك البشارة قدرها. ليس معنى هذا التساهل في حقوق العباد، أو أخذها عدوانا وظلما على نية الحج الذي تضمن فيه عنك التبعات، فالله عز وجل لا يخادع، ولا يستوي الخبيث عنده والطيب، فالله يعطي هذه البشارة من شاء بعلم وحكمة. إليك أيها الأواه المنيب سياق البشارة، جاء في الترغيب والترهيب للمنذري: 1792 - وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم عرفة أيها الناس إن الله عز و جل تطول عليكم في هذا اليوم فغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم ووهب مسيئكم لمحسنكم وأعطى لمحسنكم ما سأل فادفعوا باسم الله فلما كان بجمع قال إن الله عز و جل قد غفر لصالحيكم وشفع صالحيكم في طالحيكم تنزل الرحمة فتعمهم ثم تفرق المغفرة في الأرض فتقع على كل تائب ممن حفظ لسانه ويده وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم فإذا نزلت الرحمة دعا إبليس وجنوده بالويل والثبور رواه الطبراني في الكبير ورواته محتج بهم في الصحيح إلا أن فيهم رجلا لم يسم 1793 - ورواه أبو يعلى من حديث أنس ولفظه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول إن الله تطول على أهل عرفات يباهي بهم الملائكة يقول يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثا غبرا أقبلوا يضربون إلي من كل فج عميق فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم وشفعت رغبتهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم وأعطيت لمحسنهم جميع ما سألوني غير التبعات التي بينهم فإذا أفاض القوم إلى جمع ووقفوا وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله تعالى فيقول يا ملائكتي عبادي وقفوا فعادوا في الرغبة والطلب فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم وشفعت رغبتهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم وأعطيت محسنيهم جميع ما سألوني وكفلت عنهم التبعات التي بينهم 1794 - وعن عباس بن مرداس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا لامته عشية عرفة فأجيب أني قد غفرت لهم ما خلا المظالم فإني آخذ للمظلوم منه قال أي رب إن شئت أعطيت المظلوم الجنة وغفرت للظالم فلم يجب عشية عرفة فلما أصبح بالمزدلفة أعاد فأجيب إلى ما سأل قال فضحك رسول الله صلى الله عليه و سلم أو قال تبسم فقال له أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها فما الذي أضحكك أضحك الله سنك قال إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لامتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكني ما رأيت من جزعه رواه ابن ماجه عن عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس أن أباه أخبره عن أبيه 1795ورواه البيهقي ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا عشية عرفة لامته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء فأوحى الله إليه أني فعلت إلا ظلم بعضهم بعضا وأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها فقال يا رب إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيرا من مظلمته وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدعاء فأجابه الله أني قد غفرت لهم قال فتبسم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له بعض أصحابه يا رسول الله تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم قال تبسمت من عدو الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه رواه البيهقي من حديث ابن كنانة بن العباس بن مرداس السلمي ولم يسمه عن أبيه عن جده عباس ثم قال وهذا الحديث له شواهد كثيرة وقد ذكرناها في كتاب البعث فإن صح بشواهده ففيه الحجة وإن لم يصح فقد قال الله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء 84 وظلم بعضهم بعضا دون الشرك انتهى. 1796 - وروى ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال وقف النبي صلى الله عليه و سلم بعرفات وقد كادت الشمس أن تؤوب فقال يا بلال أنصت لي الناس فقام بلال فقال أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه و سلم فأنصت الناس فقال معشر الناس أتاني جبرائيل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال إن الله عز و جل غفر لاهل عرفات وأهل المشعر وضمن عنهم التبعات فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال يا رسول الله هذا لنا خاصة قال هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثر خير الله وطاب". قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة تحت رقم, 1624: " - " إن الله تطول عليكم في جمعكم هذا ، فوهب مسيئكم لمحسنكم ، و أعطى محسنكم ما سأل ، ادفعوا باسم الله " . أخرجه ابن ماجة ( 3024 ) عن أبي سلمة الحمصي عن بلال بن رباح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له غداة جمع : " يا بلال أسكت الناس ، أو أنصت الناس " . ثم قال : فذكره . قال البوصيري في " الزوائد " ( 207 / 2 - مصورة المكتب ) : " هذا إسناد ضعيف ، أبو سلمة هذا لا يعرف اسمه ، و هو مجهول " . قلت : لكن الحديث صحيح عندي ، فإن له شواهد من حديث أنس بن مالك و عبادة بن الصامت و عباس بن مرداس . أما حديث أنس فيرويه صالح المري عن يزيد الرقاشي عنه مرفوعا به أتم منه . أخرجه أبو يعلى في " مسنده " ( 3 / 1015 ) . و صالح المري و يزيد الرقاشي ضعيفان ، و اقتصر الهيثمي في " المجمع " ( 3 / 257 ) على إعلاله بالمري فقط ! لكن رواه ابن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك به نحوه . هكذا ساق إسناده في " الترغيب " ( 2 / 128 ) ، و هو إسناد صحيح لا علة فيه ، و قد أشار إلى ذلك عبد الحق الإشبيلي في كتابه " الأحكام " ( رقم 71 - بتحقيقي ) بسكوته عليه ، و فيه : " إن الله غفر لأهل عرفات و أهل المشعر . .. " . و انظر " صحيح الترغيب " ( 1143 ) . و الحديثان الآخران مخرجان في " الترغيب " ، و إسنادهما و إن كان ضعيفا ، فلا بأس به في الشواهد . و للحديث شاهد آخر رواه البغوي عن عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد عن أبيه عن جده . ذكره السيوطي في " الجامع الكبير " ( 1 / 143 / 2 )". وللافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله كتاب ماتع بعنوان, قوة الحجاج في عموم المغفرة للحجاج، بين فيه طرق هذه الأحاديث، قوة الحجاج, بكسر الحاء وفتح الجيم الأولى بمعنى إقامة الحجة والبرهان، في عموم المغفرة للحجاج، جمع حاج، قال في أوله ص17: "فإني سئلت عن علم الحديث الذي أخرج في بعض السنن عن العباس بن مرداس السلمي في مغفرة الله عز وجل ذنوب الحاج ذي التبعات. هل هو صحيح أو حسن أو ضعيف يعمل في الفضائل بمثله؟ أو هو في حيز المنكرات أو الموضوعات؟ والجواب عن ذلك: أنه جاء من طرق أشهرها حديث العباس بن مرداس السلمي ثم ذكر طرق حديث العباس رضي الله عنه، وختمها بطريق أبي داود في سننه, كِتَاب الْأَدَبِ، فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ : أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ، 4622 حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبِرَكِيُّ ، وَسَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي الْوَلِيدِ الطَّيَالِسِيُّ ، - وَأَنَا لِحَدِيثِ عِيسَى أَضْبَطُ - ، قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقَاهِرِ بْنُ السَّرِيِّ يَعْنِي السُّلَمِيَّ ، حَدَّثَنَا ابْنُ كِنَانَةَ بْنِ عَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، قَالَ : " ضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ : أَبُو بَكْرٍ أَوْ عُمَرُ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ - وَسَاقَ الْحَدِيثَ - " * قال ابن حجر في قوة الحجاج بعد ذكر الحديث ص23: "وسكت عليه أبو داود فهو صالح عنده". وهذا من تسامح الحافظ ابن حجر رحمه الله في الترغيب والترهيب، فلئن لم يتعقب أبو داود هذا الحديث بشيء، فإن ابن حجر قال في التقريب ص319 في ترجمة عبد الله بن كنانة: "3556- عبد الله ابن كنانة ابن العباس ابن مرداس السلمي [أبو كنانة] مجهول من السابعة". وفي التقريب في ترجمة كنانة بن العباسص462: "5667- كنانة ابن العباس ابن مرداس السلمي مجهول من الثالثة". وإسناد يكون فيه مجهولان لا يكون صالحا. ثم قال ابن حجر ص24: "قلت: جاء أيضاً عن عبادة بن الصامت و أنس بن مالك و عبد الله بن عمر بن الخطاب وأبي هريرة و زيد جد عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد". ثم شرع في ذكر الطرق وبيان عللها، ومن أمثلها طريق أنس رضي الله عنه، قال ابن حجر رحمه الله في قوة الحجاج معلقا عليها ص26--29: "وأما حديث أنس فأخرجه أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في (مسنده)، قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج -هو السامي البصري- أنبأنا صالح المري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تطول على أهل عرفات يباهي بهم الملائكة)) يقول: يا ملائكتي. انظروا إلى عبادي شعثاً غبراً أقبلوا، يضربون إلي من كل فج عميق، فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميعا ما سألوني غير التباعات التي بينهم. فإذا أفاض القوم إلى جمع، ودفعوا، وعادوا في الرغبة والطلب إلى الله تعالى؛ فيقول الله تعالى: يا ملائكتي عبادي وقوفا فعادوا في الرغبة والطلب؛ فأشهدكم أني قد أجبت دعاءهم، وشفعت رغبتهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، وأعطيت محسنهم جميع ما سألوني، وكفلت عنهم التبعات التي بينهم)). وهذا السند ضعيف، فإن صالحاً المري وشيخه ضعيفان. وقد أخرجه أحمد بن منيع في (مسنده) من وجه آخر عن صالح المري. وذكره الحافظ المنذري في (الترغيب) من رواية عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي، عن أنس بن مالك قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تغرب، فقال: ((يا بلال، أنصت الناس)). فقال بلال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فنصت الناس، فقال: ((معاشر الناس، أتاني جبريل آنفاً، وأقرأني من ربي السلام، وقال: إن الله عز وجل، غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات)). فقام عمر بن الخطاب، فقال: يا رسول الله. هذا لنا خاصة؟ قال: ((هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة)). فقال عمر: كثر والله خير الله وطاب. قلت: إن ثبت سنده إلى عبد الله بن المبارك فهو على شرط الصحيح. فقد أخرج البخاري من رواية الزبير بن عدي حديثاً ومسلم من روايته حديثاً آخر. وقد أخرج مسدد بن مسرهد في (مسنده) لهذه الطريق شاهداً من وجه آخر مرسل رجاله ثقات، ولكنه ليس بتمامه. 18- وأما حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى في سورة البقرة: {واستغفروا الله إن الله غفور رحيم}. عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى السماء الدنيا في". وبالبحث القاصر لم أجد هذا السند متصلا إلى ابن المبارك إلا ما جاء في الضعفاء للعقيلي في الكلام عن شبويه المروذي: 802 - حدثنا محمد بن خالد البردعي قال : حدثنا علي بن موفق قال : حدثنا شبويه المروزي قال : حدثنا ابن المبارك ، عن سفيان ، عن الزبير بن عدي ، عن أنس قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة يوم عرفة ، وكادت الشمس أن تغرب ، فقال : « يا بلال ، أنصت لي الناس » فقام بلال فقال : يا معشر الناس ، أنصتوا ، فقال : « أتاني جبريل عليه السلام آنفا فأقرأني من ربي السلام وقال : إن الله قد غفر لأهل عرفات ما خلا التبعات ، أفيضوا بسم الله » قد روي في ، هذا المعنى بخلاف هذا اللفظ حديث العباس بن مرداس ، وحديث عن ابن عمر وغيره ، وأسانيدها لينة ، وفيه عن عائشة وجابر إسنادان صالحان. علق ابن حجر رحمه الله في لسان الميزان على هذه الطريق (4/231) في ترجمة شبويه هذا فقال: "3762 - شبويه. عنِ ابن المبارك فذكر حديثا منكرا. ذكره العقيلي , انتهى. -[232]-". فوصفه بأنه حديث منكر، وقد مر بك نقل كلام المنذري بتمامه، ولم يسم ما بينه وبين عبد الله بن المبارك، ولم يتعقبه الشيخ الألباني كما مر إلا بأن السند من ابن المبارك إلى أنس سند صحيح، فإن لم يكن إلى ابن المبارك طريق إلا التي ذكرها العقيلي عن شبويه فقد مر بك حكم الحافظ ابن حجر في لسان الميزان أنه منكر. قال ابن حجر في قوة الحجاج ص30 مختتما التعليق على شاهد أنس رضي الله عنه وهي أمثل طريق لهذا الحديث: "وقد أخرج مسدد بن مسرهد في (مسنده) لهذه الطريق شاهداً من وجه آخر مرسل رجاله ثقات، ولكنه ليس بتمامه". ومن أمثلها حديث ابن عمر رضي الله عنه حيث علق الحافظ ابن حجر على حكم ابن الجوزي على طرق الحديث بالوضع ومنها طريق ابن عمر فقال الحافظ ص37—38: "وأما حديث ابن عمر ففيه عبد العزيز بن أبي رواد وثقه يحيى القطان ويحيى بن معين وأبو حاتم الرازي والعجلي والدارقطني. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أحمد: كان صالحاً، وليس في الثبت مثل غيره. وتكلم فيه جماعة من أجل الإرجاء. قال القطان: لا يترك حديثه لرأي أخطأ فيه. ومن كان هذا حاله لا يوصف حديثه بالوضع. وأما بشار فلم أر للمتقدمين فيه كلاماً، وقد توبع. وقد نقله الحافظ عن الطبري وأبي نعيم وهذا لفظ الطبري كما ساقه في تفسير قول الله تعالى, {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}قال الطبري في تفسيره, (4/193-194): "3844 - حدثني مسلم بن حاتم الأنصاري، قال: حدثنا بشار بن بكير الحنفي، قالا حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال:"أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله. فلما كان غداة جمع قال:"أيها الناس، إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله. فقال أصحابه: يا رسول الله، أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني سألت ربي بالأمس شيئا لم يجد لي به، سألته التبعات فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل قال: إن ربك يقرئك السلام ويقول التبعات ضمنت عوضها من عندي"". وقد توهم عبارة ابن حجر رحمه الله في بشارة الحنفي أنه لم يجد للمتقدمين فيه كلاما أنه تعديل له، بل هي عبارة عن أن هذا الراوي مجهول، قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على تفسير الطبري ما نصه (4/194): بشار بن بكير الحنفي: لم أجد له ترجمة بعد طول البحث والتتبع، حتى لقد ظننته محرفا لولا أن وجدته مذكورا أيضًا في إسناد هذا الحديث في الحلية لأبي نعيم"." وأما متابعه في الرواية عن ابن عمر وهو عبد الرحيم بن هارون الغساني فقد قال ابن حجر عنه في التقريب ص354: "4060- عبد الرحيم ابن هانئ [هارون] الغساني أبو هشام الواسطي نزيل بغداد ضعيف كذبه الدارقطني من التاسعة مات بعد المائتين". وقد ترك نقل كلام الحافظ ابن حجر عن غير هذه الطرق تجنبا للإطالة. والحاصل أنه لا يخلو طريق من طرق هذا الحديث من علة بانفراده، وبعض العلل أقوى من بعض، وعمدة من حسنه أو صححه كثرة طرق الحديث، وهو ما يعبر عنه بعضهم بقوله, (وكثرة طرقه تشعر بأن له أصلا)، قال ابن حجر رحمه الله في مقدمة قوة الحجاج ص19: "فإن المقبول ما اتصل سنده، وعدلت رجاله، أو اعتضد بعض طرقه ببعض حتى تحصل القوة بالصورة المجموعة، ولو كان كل طريق منها لو انفردت لم تكن القوة فيها مشروعة. وبهذا يظهر عذر أهل الحديث في تكثيرهم طرق الحديث الواحد ليعتمد عليه، إذ الإعراض عن ذلك يستلزم ترك الفقيه العمل بكثير من الأحاديث اعتماداً على ضعف الطريق التي اتصلت إليه". وقد مر نقل كلام البيهقي من الترغيب والترهيب للمنذري ونصه: " وهذا الحديث له شواهد كثيرة وقد ذكرناها في كتاب البعث فإن صح بشواهده ففيه الحجة وإن لم يصح فقد قال الله تعالى ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء النساء 84 وظلم بعضهم بعضا دون الشرك". وقد استشكل فهم هذا النص ونظائره لما يظن من معارضته لتلك النصوص المصرح فيها بأن تكفير الكبائر لا بد فيه من توبة, {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما}، وغيرها، فكان ظن هذا التعارض مع ضعف إسناد كل طريق عونا لمن ضعف الحديث، ورد هذا الحديث أيضا بأنه ظني لا يعارض النصوص القطعية المشترطة للتوبة لتكفير الكبائر، ومن أهل العلم من جزم بأن التبعات لا بد فيها من القصاص، وكل هذا له وجهه، ولا تعارض بحمد الله، فإن الذي اشترط فقال: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه}، هو القائل: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، فالشرط على الاستحقاق للمؤاخذة بالعقوبة، ومناط المغفرة بالمشيئة التي هي عن علم وحكمة، فالمرتكب للكبيرة مستحق للمؤاخذة، وهذا ما المخلوق المذنب أهل له، والمغفرة لا تقع لكل مستحق للمؤاخذة، وهذا ليس عدلا فحسب، بل هو محض جود وفضل أيضا، وهذا لا يحيط به إلا من له العلم المطلق، والمربي فينا قد يعاقب أصحاب الخطأ الواحد بدرجات مختلفة في العقوبة تبعا لظروف وملابسات تخص كل فرد، فكيف بمن يربي العالمين بنعمه؟ وقد يسرق سارقان, أحدهما حمله على السرقة حاجة ملحة كما وقع في عام الرمادة، والآخر سرق ظلما وعدوانا، فالعدل ألا يعاملا بنفس الدرجة في العقوبة، وفي هذا قطع لمادة الرجاء المذموم لمن يتساهل في الذنوب والسيئات ويقول كلمة حق أراد بها باطلا، وهي مقولة: (يوم الجحيم ربي رحيم). زد على ذلك أن الله عز وجل بعلمه وحكمته كما أنه لا يساوي بين أهل عقوبته في العقوبة لما يختص به كل مستحق أذن بعقوبته، فكذلك هو أعلم بما يقوم بقلوب عباده المخلصين، فلا تكون المكافءة سواء, {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين، وكان ذلك على الله يسيرا}، وفي صحيح البخاري وغيره: عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، عَنْ أَبِيهِ ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : " إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَا سَلَفَ قَبْلَكُمْ مِنَ الأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ العَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ عَجَزُوا ، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِنْجِيلِ الإِنْجِيلَ ، فَعَمِلُوا إِلَى صَلاَةِ العَصْرِ ، ثُمَّ عَجَزُوا ، فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ، ثُمَّ أُوتِينَا القُرْآنَ ، فَعَمِلْنَا إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَأُعْطِينَا قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ ، فَقَالَ : أَهْلُ الكِتَابَيْنِ : أَيْ رَبَّنَا ، أَعْطَيْتَ هَؤُلاَءِ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ ، وَأَعْطَيْتَنَا قِيرَاطًا قِيرَاطًا ، وَنَحْنُ كُنَّا أَكْثَرَ عَمَلًا ؟ قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ أَجْرِكُمْ مِنْ شَيْءٍ ؟ قَالُوا : لاَ ، قَالَ : فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ " * يزيد هذا بيانا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في معرض حديثه عن الأسباب العشرة التي تزول عقوبات الذنوب بها عن العبد، فحين تعرض للسبب الثالث وهو الحسنات الماحية قال (7/489-491): " وَسُؤَالُهُمْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يَقُولُوا الْحَسَنَاتُ إنَّمَا تُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ فَقَطْ فَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: " مَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ " فَيُجَابُ عَنْ هَذَا بِوُجُوهِ. أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ جَاءَ فِي الْفَرَائِضِ. كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فَالْفَرَائِضُ مَعَ تَرْكِ الْكَبَائِرِ مُقْتَضِيَةٌ لِتَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الزَّائِدَةُ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهَا ثَوَابٌ آخَرُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} . (الثَّانِي) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ التَّصْرِيحُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ بِأَنَّ الْمَغْفِرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ الْكَبَائِرِ كَمَا فِي {قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ} وَفِي السُّنَنِ {أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ. فَقَالَ: أَعْتِقُوا عَنْهُ يُعْتِقْ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ.} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي {حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ.} . (الثَّالِثُ) : أَنَّ {قَوْلَهُ لِأَهْلِ بَدْرٍ وَنَحْوِهِمْ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ} إنْ حُمِلَ عَلَى الصَّغَائِرِ أَوْ عَلَى الْمَغْفِرَةِ مَعَ التَّوْبَةِ لَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ. فَكَمَا لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْكُفْرِ لِمَا قَدْ عُلِمَ أَنَّ الْكُفْرَ لَا يُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ لَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مُجَرَّدِ الصَّغَائِرِ الْمُكَفَّرَةِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. (الرَّابِعُ) : أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي غَيْرِ {حَدِيثٍ أَنَّ أَوَّلَ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الصَّلَاةُ فَإِنْ أَكْمَلَهَا وَإِلَّا قِيلَ: اُنْظُرُوا هَلْ لَهُ مِنْ تَطَوُّعٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَوُّعٌ أُكْمِلَتْ بِهِ الْفَرِيضَةُ ثُمَّ يُصْنَعُ بِسَائِرِ أَعْمَالِهِ كَذَلِكَ} . وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ النَّقْصَ الْمُكَمِّلَ لَا يَكُونُ لِتَرْكِ مُسْتَحَبٍّ؛ فَإِنَّ تَرْكَ الْمُسْتَحَبِّ لَا يَحْتَاجُ إلَى جبران وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الْمُسْتَحَبِّ الْمَتْرُوكِ وَالْمَفْعُولِ فَعُلِمَ أَنَّهُ يَكْمُلُ نَقْصُ الْفَرَائِضِ مِنْ التَّطَوُّعَاتِ. وَهَذَا لَا يُنَافِي مِنْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ النَّافِلَةَ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ مَعَ أَنَّ هَذَا لَوْ كَانَ مُعَارِضًا لِلْأَوَّلِ لَوَجَبَ تَقْدِيمُ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ وَأَشْهَرُ وَهَذَا غَرِيبٌ رَفْعُهُ وَإِنَّمَا الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ فِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْر لِعُمَرِ؛ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَحْمَد فِي " رِسَالَتِهِ فِي الصَّلَاةِ ". وَذَلِكَ لِأَنَّ قَبُولَ النَّافِلَةِ يُرَادُ بِهِ الثَّوَابُ عَلَيْهَا. وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى النَّافِلَةِ حَتَّى تُؤَدَّى الْفَرِيضَةُ فَإِنَّهُ إذَا فَعَلَ النَّافِلَةَ مَعَ نَقْصِ الْفَرِيضَةِ كَانَتْ جَبْرًا لَهَا وَإِكْمَالًا لَهَا. فَلَمْ يَكُنْ فِيهَا ثَوَابُ نَافِلَةٍ". إلى أن قال (7/492): " وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ وَيَتْرُكَ الْمَحْظُورَ؛ لِأَنَّ الْإِخْلَالَ بِذَلِكَ سَبَبٌ لِلذَّمِّ وَالْعِقَابِ وَإِنْ جَازَ مَعَ إخْلَالِهِ أَنْ يَرْتَفِعَ الْعِقَابُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَمِيَ مِنْ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَإِنْ كَانَ مَعَ تَنَاوُلِهِ لَهَا يُمْكِنُ رَفْعُ ضَرَرِهَا بِأَسْبَابِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ. وَاَللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ رَحِيمٌ - أَمَرَهُمْ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَنَهَاهُمْ عَمَّا يُفْسِدُهُمْ ثُمَّ إذَا وَقَعُوا فِي أَسْبَابِ الْهَلَاكِ لَمْ يؤيسهم مِنْ رَحْمَتِهِ بَلْ جَعَلَ لَهُمْ أَسْبَابًا يَتَوَصَّلُونَ بِهَا إلَى رَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُمْ وَلِهَذَا قِيلَ: إنَّ الْفَقِيهَ كُلُّ الْفَقِيهِ الَّذِي لَا يُؤَيِّسُ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَلَا يُجَرِّئُهُمْ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ". فلا مانع من تخصيص الحجاج أصحاب ا لعقيدة السليمة بهذا الفضل العظيم من الحليم الكريم لأنه ملك كريممع فضل الزمان والمكان، وشرف عبادة الحج، وشرف ركنها الأعظم, وهو الوقوف بعرفة. فهذا حديث عظيم قال عنه البيهقي إن صح فبمجموع طرقه، وذكر العقيلي أن له إسنادان صالحان، فأما إسناد عبد الله بن المبارك فلم يذكر له في المنقولات أعلاه مصدر، ولو ثبت من غير إسناد العقيلي لكفى بهذا الطريق في إثبات صحة الحديث، وإسناد العقيلي فيه شبويه المروذي. وقد ذكر السيوطي في تفسيره للآية {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}، طريق ابن المبارك للحديث بصيغة {وروى ابن المبارك} بدون ذكر من رواه عنه ولا الكتاب الوارد فيه, فلعله قلد المنذري في الترغيب والترهيب، كما أن شواهد الحديث المذكورة فيها من نص أهل العلم على أنه لا بأس به في الرقائق، وهذا الحديث منها. ومعنى التبعات ما يكون بين العباد بعضهم مع بعض يضمنها الله عز وجل لمن وقف بعرفة، فاللهم نسألك من فضلك. 14 . وفي عرفاتٍ إن تسل عن كرامة فكم من مدانٍ في المعالي سيسمق 15 . فيا واقفا فيها، لك السعد والهنا سيحبوك ربي بعد ما كدت تُوبقُ 16 . سيحبوك بالغفران إن جئت تائبا ويَضْمَنُ حق الخصم عنك ويرفقُ 17 . أيا قاصدي البيت الحرام، رحلتمُ فمن راعه توديعكم كيف يلحقُ؟ 18 . تمادى بكم سيرٌ، وأزعجنا النوى تَؤُمُّون أفضالا، وبالبين نَشَرقُ 19 . وهَّيجتم الشعر الذي قد وأدتُه وغَّيبته مذ كان بالغي يُلحِقُ 20 . يقولون في الله العزاء، صدقتمُ فهلا عقِلتم ما له النفس تَشهق 21 . (براءةُ) فيها ذكر من فاض دمعهم فما لهمُ مال، ولا الظهر أَوْثقوا 22 . وقد شركوا في الأجر، وهو عزاؤهم ولكنَّ عجز المرء يُدمِي ويُحرِق 23 . وإِشْراكهم في الأجر فضل ومنة ولكنْ، لهم بالبذل قلب معلق 24 . مرادهم الأسنى إطاعة ربهم ولو كان في ذاك الهلاك المحققُ 25 . إذا كان ذا شغل المُحِب فلا تسل فهِمَّتُه في شغله كيف يسبقُ 26 . ونيل رضا محبوبه غاية المنى فيا حزنه إن جاءه ما يُعوِّقُ 27 . وما عندنا إلا دعاوى، فيا ترى إذا حان وقت الجد فيها أنصدقُ؟ 28 . بذاك نمني النفس، وهي هزيلة ولله ألطاف على العبد تُغْدَقُ 29 . إذا هل عشر الحج تهفو نفوسنا فهل شمس حجي عن قريبٍ ستشرقُ؟ 30 . عزائيَ أن الله يجبر فَاَقتي،=يععلم حاجتي، =جابر فاقتي هو المرتجى، والله بالعبد أرفقُ 31> ولست لذا أهلا، فإني مضيع ولكنه بالجود بالرفق أسبقُ 32 . ولست لذا أهلا، ولكنَّ جوده على الضائع الموتور بالرفقِ أسبقُ